أمَّا بعد، أيُّها الإخوة
المسلمون :
لا يتحلَّى الإنسانُ بالقِسم الأوفر منْ إنسانيته إلا إذا كان مُنتجاً،
والإنتاجُ لا بدَّ له من شرطين اثنين حتى يتحقق : أمَّا الأول : فوضوحٌ في
الهدف . وأمَّا الثاني : فالرِّسالية .
ونعني بها : أنَّ ما تقدِّمه للناس ينبغي أنْ يكونَ قابلاً للتوريث ، قابلاً
للتلقين ، قابلا ً للخطاب ، تَقتنع بذلك أنت أولاً ، ثم تَسْري تلك القناعةُ
للآخرين . واشترطنا للرِّسالية شرطين من أجل تحقُّقها : أمَّا الأول : فهو
المستند الصحيح ، وأمَّا الثاني : فهو المعقولية فيما تُـقدِّم للناس ، وفيما
تحدِّث الناس ، ونعني بالمعقولية : الانسجامَ والتَّناسب مع إنسانيتك ، مع
فطرتك ، مع جِبلَّتك و كينونتك وما أنتَ عليه .
وحين ندعو للإسلام نشعر بالإنتاجيَّـة ، حين ندعو إلى هذا الدين نشعر أننا
نُـنتج على المستوى الإنساني ، لأنَّ هذا المجالَ مجالُـنا ، على أنَّـنا لا
ننكر الإنتاجيةَ في المستوى المادي ، ولكننا نَشترط لذلك أن تكون هذه
الإنتاجيةُ الماديةُ حاضنةً للإنتاجية في المستوى الإنساني ، تأتمر بأوامرها
وتنتهي بنواهيها .
إننا إذ نقدِّم الإسلام نقدِّمه على أنَّه إنتاجٌ توافرت فيه شروطه ، وإننا إذ
نطالب الآخرين بالدَّعوة إليه ، فإننا نريدهم بذلك أنْ يكونوا منتجين ، إننا
ندعوهم بذلك إلى أنْ يَتبيَّنوا ما يقولون ، وأنْ يتحقَّقوا مما يفعلون . وإذا
أردنا الحديثَ عن إنتاجية الإسلام وفق الشروط التي ذكرنا ، فإنَّه يبقى الأوضح
في هدفه ، والأكثر رساليةً في توجُّهاته ، في مبادئه ، في عطاءاته .
أولاً : وضوح الهدف في الإسلام : إذا ما تحدَّثنا عنْ وضوح الهدف في الإسلام ؛
رأينا بشكلٍ واضحٍ أنَّ الإسلام يدعو إلى : نجاحٍ في الدنيا مِن حيث العمل ،
وفلاحٍ في الآخرة من حيث الأمل . يدعو إلى العبودية لله في هذه الحياة الدنيا
من حيث التكليف ، ويدعو إلى الأنسِ بالله عزَّ وجلَّ في الآخرة من حيث التشريف
. واسمعوا إلى وضوح الهدف ، من حيثُ كونه تكليفاً، ومن حيث كونه تشريفاً .
أمَّا التكليف : فـ
( يا أيُّها النَّاسُ اعبُـدوا ربَّـكمُ الذي خلقكُمْ والذينَ مِنْ قبلكُمْ
لعلَّـكمْ تَـتَّـقون ) ، ( وما خَـلقتُ الجنَّ و الإنسَ إلا ليَعبُـدون ) .
وأمَّا الهدفُ من حيث كونه تشريفاً تتمتَّع به في الآخرة ، تتمتع بثماره هناك ،
حينما يغدو أنساً مع الله ، فما أجملَ أنْ نقرأ قوله تعالى :
( وجوهٌ يومئذٍ ناعمةٌ ، لسَـعيها راضيةٌ ، في جنَّـةٍ عاليةٍ ، لا تَسمعُ فيها
لاغيةً ، فيها عينٌ جاريةٌ ، فيها سُـرُرٌ مرفوعةٌ ، و أكوابٌ موضوعةٌ ونمارقُ
مصفوفةٌ ، و زرابيُ مبثوثة ) . إنَّه الوضوح في الهدف الذي يشكِّل الشرطَ الأول
لإنتاجيةِ الإسلام على المستوى الإنساني .
ثانياً: الرساليَّـةُ في الإسلام : وتشكلُ الرساليةُ الشرطَ الثاني لإنتاجية
الإسلام ، وإننا نذكرُ شرطَـيْها أيضاً : نذكرُ المستندَ الصحيح ، فالله عز
وجلَّ يقول : ( ألم · ذلك الكتاب لا ريبَ فيه ) ، مستنده صحيح ، ويقول سبحانه :
( قلْ إنَّما أنا بشرٌ مثلكمْ يُـوحى إليَّ ) ، ويقول ( وما ينطقُ عن الهوَى ،
إنْ هو إلا وحيٌ يُوحى ) ، المستندُ صحيح . وأمَّا الشِّـقُ الثاني للرسالية
وهو الذي عبَّرنا عنه بالمعقولية ، فما أروعَ انسجامَ الإسلام مع الإنسان ! .
إنْ تحدَّثتَ عن معقولية العقيدةِ وجدَّتَها مناسبةً للإنسان ، وإنْ تحدَّثتَ
عن معقولية العبادةِ وجدتها منسجمةً مع الإنسان وإنْ تحدَّثت عن معقولية
التشريع وجدَّتها منسجمةً مع الإنسان ، وإن تحدَّثتَ عن معقولية الأخلاق
وجدَّتها منسجمةً مع الإنسان ، وهذه مضموناتُ الإسلام .
أ- معقوليَّـةُ العقيدة : وهل ترى معقولية تنافس معقولية الإسلام في العقيدة ،
يوم أمر الإنسان أن يعتقد بأنه لا إله إلا الله ، ويوم أمرَ الإسلام ذاك
الإنسانَ أن يقول عن خالقِ الأكوان : ( قلْ هُوَ الله أحدٌ . الله الصَّمدُ
.لمْ يَـلِدْ ولمْ يُـولَدْ ولمْ يكنْ له كُـفُـواً أحد ) . وهل تستطيع أنْ
تطرحَ معقوليةً تـتعلَّـق بالعقيدة ؛ تستطيع أنْ تُماشـيَ هـذه المعقولية ؟ .
إنْ كنتَ تريدُ حوارا ً فأخبرني عن معقوليةِ عقائدَ سَـلَـفت وانقرضت لأنَّها
لا تحمل مؤهلات الاستمرار و البقاء ، إن كنت تريد حواراً فأخبرني عن معقوليةٍ
لعقائد اليوم ؛ التي يريد أصحابها أنْ يأخذوها من غيرِ الإسلام ، إن كنت تريد
الحوار فأقْـبِلْ وتقدَّم من أجل أن تعرض أمامنا معقوليةَ سوى الإسلام .
الإسلامُ يُـرسِّخ في الإنسان عقيدةً تناسبه وتنسجم معه ، إنَّه الإسلامُ الذي
يطرح نفسَـه معقولاً ، وقابلاً للاستمرار ، وقابلاً للتوريث ، وقابلاً للتلقين
، وقابلاً للبقاء إلى أبد الآباد . ويوم جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه
وآله وسلم يطرح أمامه عقيدتَـه ، وطرح النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمامه
عقيدةَ الإسلام ، و بدأ الحوار بقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لهذا
الرجل وكان يُـسمَّى حُـصيناً : " يا حصين ، كمْ تعبدُ مِنْ إله ؟ " قال :
سـبعاً في الأرض وواحداً في السَّماء . قال : " فإذا أصابكَ الضُّرُ ، مَنْ
تدعو ؟ " قال : الذي في السماء . فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : " يا
حصين ، فيستجيبُ لك وحدَه وتُـشركهم معه ، يا حصين أسْـلمْ تَـسلم " . فقال
حصين : إنَّ لي قوماً وعشيرةً فماذا أقول ؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
: " قلْ : اللهمَّ إنِّي أستهديكَ لأَرْشَـدِ أمري ، وأسألكَ علما ًينفعني " .
إنَّ الإسلامَ يطرح معقوليَّته في العقيدة من أجل أنْ يحقق الرساليةَ ، ومن أجل
أنْ تتحققَ بالرساليةِ الإنتاجيةُ .
ب- معقوليَّـةُ العبادة : يطرح الإسلامُ معقوليتَه في العبادة . وسلُوا عبادات
الآخرين ، سلوا صيامَ الآخرين ، صيامَ الديانات الأخرى التي اختفى الحقُّ فيها
، كمْ طرأ عليه مِنْ تبديل ومن تعديل !! كانت أيامُ الصِّيام لديهم ربَّما في
عدد الأيام التي نصومها ، ثم بعد ذلك حُـرِّفت فصارت ستين يوماً ، ثم حُـرِّفَ
الصيام في نوعيَّته ، فأضحى صياماً عن أشكال وأنواع معينة ، ومنذ مدة غير قصيرة
وقفَ الرجل المسؤولُ عن دين المسيحية في مستقرِّه في روما ، فقال : ( لقد غدا
الصيامُ تطوعاً ) . وأما الصِّيام في الإسلام ، فدليلُ معقوليته استمرارُه ،
دليل معقوليته أنَّ الأجيالَ في هذا الدين استقبلته كما هو ، منذ عهد المصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا . يطرح الإسلامُ معقوليتَه في العبادة ،
ومَن الذي يستطيع أنْ ينكرَ معقوليةَ العبادات في الإسلام ؟ من الذي ينفي عن
الصلاة إمكانيةَ استمرارِها ، ومقدرة بقائِها ، وإمكانية أنْ تكون الدِّينَ و
الصِّلةَ الواصلةَ بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى ؟! . قولوا للناس : إننا
نريد أنْ نرى عباداتِكم ، ومدى انسجِامها وتناسبِها وتلاؤمِها مع الإنسان الذي
يطرح نفسَه قائدا ً للكون ، و مُستلماً لسُـدَّة الحياة .
ج- معقوليَّة التَّـشريع : الإسلام يطرح نفسَه ، ويطرح معقوليةَ التشريع فيه ،
ومَن الذي ينكرُ معقوليةَ البيعِ والشِّراءِ و الرَّهن والاستئجار ؟ من الذي
يستطيع أن يقترب من هذا التشريع ليأتيَ بمساوٍ له ، أو ليأتيَ بقريبٍ منه ؟
أيُّها الإنسان الكريم : سل المؤتمراتِ التي عُقدت حول إمكانيةِ أنْ يكون
التشريعُ الإسلامي تشريعاً لكلِّ الدنيا ، وسلوا علماءَ القانون الذين تحدَّثوا
عن معقوليةِ تشريعِنا ، عن معقوليةِ إسلامنا في كلِّ ميادين الحياة ، في
مَـيدان الأسرة ، في ميدان التعليم ، في ميدان القضاء ، في ميدان الحكم . ولئنْ
قال بعض القانونيين : إن تشريعاً ما لا يضمنُ استمرارَه ، ولا يُـؤكِّد
معقوليتَه ، ما لم تظهر النزعةُ الإنسانيةُ فيه واضحةً جليَّـة فإننا نقول له :
إنَّ الإسلام في تشريعهِ لم يسبقه تشريعٌ آخر في وفرة النزعة الإنسانية فيه ،
وسلْ أوامرَه ونواهيه ، سل أحكامَه ومبادئَه ، سلْ خطاباتِه . إنَّ القرآنَ
الكريم يقول للناس : ( ولقدْ كرَّمنا بني آدم ) ، إنها نزعةٌ إنسانية ، وهو
يقول لهم أيضاً: ( إنَّا خلقناكمْ مِنْ ذكرٍ وأنثى ، وجعلناكمْ شعوبا ًوقبائلَ
، لتعارفوا ؛ إنَّ أكرمَـكمْ عند ادِ أتقاكم ) ، إنها نزعةٌ إنسانية . سلوا
الحديثَ الشريف يوم وقفَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " إنَّ ربكمْ
واحدٌ ، وإنَّ أباكمْ واحدٌ ، وإنَّ الدِّينَ واحد " . سلوا حوادثَ وقعتْ في
تاريخنا ، تُـؤكِّد نزعةَ الإسلام الإنسانية ، فهي العاملُ الكبير الذي يؤهِّله
لكي يكونَ تشريعاً خالدا ً باقياً . ما أجملَ أنْ تقرؤوا ما جاءَ عن النبيِّ
صلى الله عليه وآله وسلم يوم وقفَ أمامَ أبي ذرٍ يحاكمه، كما روى البخاري ومسلم
. أتعلمون ما فعل أبو ذر ؟ لقد قال لبلال - وبلالٌ رجلٌ أسودُ اللونِ أبيضُ
القلب - قال له : يا ابن السوداء . وإذ بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أمامَ
الأبيض ، أمامَ هذا الذي ينتسبُ إلى قبيلةٍ عربية يقول صلى الله عليه وآله وسلم
: " يا أبا ذر ، أعيَّرتَه بأمِّه ؟! إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية " ، إنَّها نزعةٌ
إنسانيةٌ تحكُم تشريعنا ، تحكُم أخلاقَنا . سلوا وما أروعَها مِنْ قصةٍ تلك
التي حدثتْ لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ، يوم قَدِمتْ قافلةٌ إلى المدينة ،
ووقفتْ لتَبيتَ خارجَها ، وفيها التجار ومعهم النساء والأطفال نظر عمر وكان
أميرا ً للمؤمنين ، من سيحرسُ القافلة ؟ فقال لعبد الرحمن بن عوف - وكانَ أغنَى
رجلٍ في المدينة - : هل لك أن تحرسهم الليلة معي ؟ فباتا يَحرسانهم ويصلِّيان
ما كتبَ الله لهما ، فسمع عمرُ بكاءَ صبيٍ ، فتوجَّه نحوه ، وقال لأمه : اتقي
الله وأحسني إلى صبيِّـكِ ! ثمَّ عادَ فسمعَ البكاءَ مرة ثانية ، فعادَ إلى أمه
وقال : اتَّقي الله وأحسني إلى صبيك . ثمَّ عاد إلى مكانه ، فلما كان آخرُ
الليل سمع بكاءَه ، فأتى أمَّه فقال : ويحكِ إنِّي لأراكِ أمَّ سُـوء ! مالي لا
أرى ابنك يَـقَرُّ منذ الليلة ؟ فقالت - وهي لا تعرف أنَّه أميرُ المؤمنين - يا
عبد الله لقد أبْرَمْـتني منذُ الليلة ، إنِّي أُرِيغُـه عن اللبنِ ليفطم ،
فيأبى . فقال : لم ؟ فقالت : لأنَّ عمر لا يفرضُ إلا للفطيم . قال : وكم له ؟
قالت : كذا وكذا شهراً . قال : ويحك لا تعجليه . فصلَّى عمرُ الفجرَ ، وما
يَستبينُ الناسُ قراءتَه من غلَبة البكاء ، فلما سلَّم قال : يا بؤساً لعمر ،
كم قتل منْ أولاد المسلمين ؟ ! ثمَّ أمرَ منادياً : أنْ لا تعجلوا صبيانكم عن
الفِطام ، فإنَّا نفرضُ لكلِّ مولودٍ في الإسلام . إنَّها نزعةٌ إنسانيةٌ
منبثقةٌ عن الإسلام ، عن هذا الدين الحنيف .
نحنُ نطرح الإسلامَ على أنَّه رساليٌ ، على أنه منتجٌ ، على أنَّ المعقوليةَ
تسوده ، فما الذي يطرحه الآخرون ؟! ما الذي يريده الآخرون ؟! نحن نريد حينما
يقدِّم الآخرون شيئاً أن يكونوا مقتنعين به أولاً ، إذْ أننا كثيراً ما نرى
اليوم أشخاصاً يعرضون علينا مبادئ ، وأشخاصا ً يعرضون علينا تشريعاً ، وأشخاصاً
يخطبون أمامنا كثيراً ، يقدِّمون لنا حلوَ اللسان ، ويقدِّمون لنا كلماتٍ
برَّاقة ، ولكنني أقول لهم : إنَّ كلامكم هذا ليس برسالي ، لأنكم لم تقتنعوا به
، والدليلُ على عدمِ اقتناعكم به أنكم لا تُطبقون هذا الذي تقولون به . إن
التشريع الإسلامي يوم حكمَته المعقوليةُ طبَّقهُ مَنْ أُنزل عليه ، وطبَّـقه
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي . إنَّ التشريع الإسلامي ليحكم كلُّ العقلاء على
أنَّه معقول ، على أنَّه رسالي ، وأريدكم يا شباب إذا أردتمْ فحصَ مبدأ يُعرض
أمامكم ، أو امتحان فكرٍ يُلقى عليكم أنْ تناقشوه من خلال الإنتاجية ، ناقشوه
من خلال الرسالية ، ناقشوه من خلال المستند الصحيح ، ناقشوه من خلال المعقولية
، ناقشوا برمضان ، فرمضانُ يكفي من حيث كونه معقولاً لكي يجلبَ الناسَ إلى دين
الله القويم ، ناقشوا من خلال ليلة القدر ، فليلةُ القدر ليلةٌ في السنة تكفي
لإقناعِ الناسِ أنَّ هناك صلةٌ بين الإنسان المشهودِ و بين الربِّ المعبود .
ناقشوا الناس وقدِّموا لهم هذه النماذج ، فإسلامُـنا منتج ، وإسلامنا رسالي ،
وإسلامنا معقول ، ولن نقبلَ بأيِّ شيءٍ يُعرض أمامنا إلا عبر هذه الشروط التي
ذكرناها .
اللهم إنا نتوجَّه إليك بسرِّ رمضان ، وبسرِّ ليلة القدر ، بسرِّ العشر الأواخر
من رمضان أنْ تجعلنا رساليين في إسلامنا ، أنْ تجعلنا أصحابَ معقوليةٍ ونحن
نطرح هذا التشريع . نعم من يُسأل ربُّنا ، ونِعْمَ النَّصير إلهنا . والحمد لله
ربِّ العالمين .
التعليقات