آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الإنتاج والإبداع

الإنتاج والإبداع

تاريخ الإضافة: 2024/04/26 | عدد المشاهدات: 2225

أمَّا بعد، أيُّها الإخوة المسلمون :
لا يتحلَّى الإنسانُ بالقِسم الأوفر منْ إنسانيته إلا إذا كان مُنتجاً، والإنتاجُ لا بدَّ له من شرطين اثنين حتى يتحقق : أمَّا الأول : فوضوحٌ في الهدف . وأمَّا الثاني : فالرِّسالية . 
ونعني بها : أنَّ ما تقدِّمه للناس ينبغي أنْ يكونَ قابلاً للتوريث ، قابلاً للتلقين ، قابلا ً للخطاب ، تَقتنع بذلك أنت أولاً ، ثم تَسْري تلك القناعةُ للآخرين . واشترطنا للرِّسالية شرطين من أجل تحقُّقها : أمَّا الأول : فهو المستند الصحيح ، وأمَّا الثاني : فهو المعقولية فيما تُـقدِّم للناس ، وفيما تحدِّث الناس ، ونعني بالمعقولية : الانسجامَ والتَّناسب مع إنسانيتك ، مع فطرتك ، مع جِبلَّتك و كينونتك وما أنتَ عليه .
وحين ندعو للإسلام نشعر بالإنتاجيَّـة ، حين ندعو إلى هذا الدين نشعر أننا نُـنتج على المستوى الإنساني ، لأنَّ هذا المجالَ مجالُـنا ، على أنَّـنا لا ننكر الإنتاجيةَ في المستوى المادي ، ولكننا نَشترط لذلك أن تكون هذه الإنتاجيةُ الماديةُ حاضنةً للإنتاجية في المستوى الإنساني ، تأتمر بأوامرها وتنتهي بنواهيها .
إننا إذ نقدِّم الإسلام نقدِّمه على أنَّه إنتاجٌ توافرت فيه شروطه ، وإننا إذ نطالب الآخرين بالدَّعوة إليه ، فإننا نريدهم بذلك أنْ يكونوا منتجين ، إننا ندعوهم بذلك إلى أنْ يَتبيَّنوا ما يقولون ، وأنْ يتحقَّقوا مما يفعلون . وإذا أردنا الحديثَ عن إنتاجية الإسلام وفق الشروط التي ذكرنا ، فإنَّه يبقى الأوضح في هدفه ، والأكثر رساليةً في توجُّهاته ، في مبادئه ، في عطاءاته . 
أولاً : وضوح الهدف في الإسلام : إذا ما تحدَّثنا عنْ وضوح الهدف في الإسلام ؛ رأينا بشكلٍ واضحٍ أنَّ الإسلام يدعو إلى : نجاحٍ في الدنيا مِن حيث العمل ، وفلاحٍ في الآخرة من حيث الأمل . يدعو إلى العبودية لله في هذه الحياة الدنيا من حيث التكليف ، ويدعو إلى الأنسِ بالله عزَّ وجلَّ في الآخرة من حيث التشريف . واسمعوا إلى وضوح الهدف ، من حيثُ كونه تكليفاً، ومن حيث كونه تشريفاً . أمَّا التكليف : فـ 
( يا أيُّها النَّاسُ اعبُـدوا ربَّـكمُ الذي خلقكُمْ والذينَ مِنْ قبلكُمْ لعلَّـكمْ تَـتَّـقون ) ، ( وما خَـلقتُ الجنَّ و الإنسَ إلا ليَعبُـدون ) . وأمَّا الهدفُ من حيث كونه تشريفاً تتمتَّع به في الآخرة ، تتمتع بثماره هناك ، حينما يغدو أنساً مع الله ، فما أجملَ أنْ نقرأ قوله تعالى : 
( وجوهٌ يومئذٍ ناعمةٌ ، لسَـعيها راضيةٌ ، في جنَّـةٍ عاليةٍ ، لا تَسمعُ فيها لاغيةً ، فيها عينٌ جاريةٌ ، فيها سُـرُرٌ مرفوعةٌ ، و أكوابٌ موضوعةٌ ونمارقُ مصفوفةٌ ، و زرابيُ مبثوثة ) . إنَّه الوضوح في الهدف الذي يشكِّل الشرطَ الأول لإنتاجيةِ الإسلام على المستوى الإنساني .
ثانياً: الرساليَّـةُ في الإسلام : وتشكلُ الرساليةُ الشرطَ الثاني لإنتاجية الإسلام ، وإننا نذكرُ شرطَـيْها أيضاً : نذكرُ المستندَ الصحيح ، فالله عز وجلَّ يقول : ( ألم · ذلك الكتاب لا ريبَ فيه ) ، مستنده صحيح ، ويقول سبحانه : ( قلْ إنَّما أنا بشرٌ مثلكمْ يُـوحى إليَّ ) ، ويقول ( وما ينطقُ عن الهوَى ، إنْ هو إلا وحيٌ يُوحى ) ، المستندُ صحيح . وأمَّا الشِّـقُ الثاني للرسالية وهو الذي عبَّرنا عنه بالمعقولية ، فما أروعَ انسجامَ الإسلام مع الإنسان ! . إنْ تحدَّثتَ عن معقولية العقيدةِ وجدَّتَها مناسبةً للإنسان ، وإنْ تحدَّثتَ عن معقولية العبادةِ وجدتها منسجمةً مع الإنسان وإنْ تحدَّثت عن معقولية التشريع وجدَّتها منسجمةً مع الإنسان ، وإن تحدَّثتَ عن معقولية الأخلاق وجدَّتها منسجمةً مع الإنسان ، وهذه مضموناتُ الإسلام . 
أ- معقوليَّـةُ العقيدة : وهل ترى معقولية تنافس معقولية الإسلام في العقيدة ، يوم أمر الإنسان أن يعتقد بأنه لا إله إلا الله ، ويوم أمرَ الإسلام ذاك الإنسانَ أن يقول عن خالقِ الأكوان : ( قلْ هُوَ الله أحدٌ . الله الصَّمدُ .لمْ يَـلِدْ ولمْ يُـولَدْ ولمْ يكنْ له كُـفُـواً أحد ) . وهل تستطيع أنْ تطرحَ معقوليةً تـتعلَّـق بالعقيدة ؛ تستطيع أنْ تُماشـيَ هـذه المعقولية ؟ . إنْ كنتَ تريدُ حوارا ً فأخبرني عن معقوليةِ عقائدَ سَـلَـفت وانقرضت لأنَّها لا تحمل مؤهلات الاستمرار و البقاء ، إن كنت تريد حواراً فأخبرني عن معقوليةٍ لعقائد اليوم ؛ التي يريد أصحابها أنْ يأخذوها من غيرِ الإسلام ، إن كنت تريد الحوار فأقْـبِلْ وتقدَّم من أجل أن تعرض أمامنا معقوليةَ سوى الإسلام . الإسلامُ يُـرسِّخ في الإنسان عقيدةً تناسبه وتنسجم معه ، إنَّه الإسلامُ الذي يطرح نفسَـه معقولاً ، وقابلاً للاستمرار ، وقابلاً للتوريث ، وقابلاً للتلقين ، وقابلاً للبقاء إلى أبد الآباد . ويوم جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يطرح أمامه عقيدتَـه ، وطرح النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمامه عقيدةَ الإسلام ، و بدأ الحوار بقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الرجل وكان يُـسمَّى حُـصيناً : " يا حصين ، كمْ تعبدُ مِنْ إله ؟ " قال : سـبعاً في الأرض وواحداً في السَّماء . قال : " فإذا أصابكَ الضُّرُ ، مَنْ تدعو ؟ " قال : الذي في السماء . فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : " يا حصين ، فيستجيبُ لك وحدَه وتُـشركهم معه ، يا حصين أسْـلمْ تَـسلم " . فقال حصين : إنَّ لي قوماً وعشيرةً فماذا أقول ؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " قلْ : اللهمَّ إنِّي أستهديكَ لأَرْشَـدِ أمري ، وأسألكَ علما ًينفعني " . إنَّ الإسلامَ يطرح معقوليَّته في العقيدة من أجل أنْ يحقق الرساليةَ ، ومن أجل أنْ تتحققَ بالرساليةِ الإنتاجيةُ . 
ب- معقوليَّـةُ العبادة : يطرح الإسلامُ معقوليتَه في العبادة . وسلُوا عبادات الآخرين ، سلوا صيامَ الآخرين ، صيامَ الديانات الأخرى التي اختفى الحقُّ فيها ، كمْ طرأ عليه مِنْ تبديل ومن تعديل !! كانت أيامُ الصِّيام لديهم ربَّما في عدد الأيام التي نصومها ، ثم بعد ذلك حُـرِّفت فصارت ستين يوماً ، ثم حُـرِّفَ الصيام في نوعيَّته ، فأضحى صياماً عن أشكال وأنواع معينة ، ومنذ مدة غير قصيرة وقفَ الرجل المسؤولُ عن دين المسيحية في مستقرِّه في روما ، فقال : ( لقد غدا الصيامُ تطوعاً ) . وأما الصِّيام في الإسلام ، فدليلُ معقوليته استمرارُه ، دليل معقوليته أنَّ الأجيالَ في هذا الدين استقبلته كما هو ، منذ عهد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا . يطرح الإسلامُ معقوليتَه في العبادة ، ومَن الذي يستطيع أنْ ينكرَ معقوليةَ العبادات في الإسلام ؟ من الذي ينفي عن الصلاة إمكانيةَ استمرارِها ، ومقدرة بقائِها ، وإمكانية أنْ تكون الدِّينَ و الصِّلةَ الواصلةَ بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى ؟! . قولوا للناس : إننا نريد أنْ نرى عباداتِكم ، ومدى انسجِامها وتناسبِها وتلاؤمِها مع الإنسان الذي يطرح نفسَه قائدا ً للكون ، و مُستلماً لسُـدَّة الحياة . 
ج- معقوليَّة التَّـشريع : الإسلام يطرح نفسَه ، ويطرح معقوليةَ التشريع فيه ، ومَن الذي ينكرُ معقوليةَ البيعِ والشِّراءِ و الرَّهن والاستئجار ؟ من الذي يستطيع أن يقترب من هذا التشريع ليأتيَ بمساوٍ له ، أو ليأتيَ بقريبٍ منه ؟
أيُّها الإنسان الكريم : سل المؤتمراتِ التي عُقدت حول إمكانيةِ أنْ يكون التشريعُ الإسلامي تشريعاً لكلِّ الدنيا ، وسلوا علماءَ القانون الذين تحدَّثوا عن معقوليةِ تشريعِنا ، عن معقوليةِ إسلامنا في كلِّ ميادين الحياة ، في مَـيدان الأسرة ، في ميدان التعليم ، في ميدان القضاء ، في ميدان الحكم . ولئنْ قال بعض القانونيين : إن تشريعاً ما لا يضمنُ استمرارَه ، ولا يُـؤكِّد معقوليتَه ، ما لم تظهر النزعةُ الإنسانيةُ فيه واضحةً جليَّـة فإننا نقول له : إنَّ الإسلام في تشريعهِ لم يسبقه تشريعٌ آخر في وفرة النزعة الإنسانية فيه ، وسلْ أوامرَه ونواهيه ، سل أحكامَه ومبادئَه ، سلْ خطاباتِه . إنَّ القرآنَ الكريم يقول للناس : ( ولقدْ كرَّمنا بني آدم ) ، إنها نزعةٌ إنسانية ، وهو يقول لهم أيضاً: ( إنَّا خلقناكمْ مِنْ ذكرٍ وأنثى ، وجعلناكمْ شعوبا ًوقبائلَ ، لتعارفوا ؛ إنَّ أكرمَـكمْ عند ادِ أتقاكم ) ، إنها نزعةٌ إنسانية . سلوا الحديثَ الشريف يوم وقفَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " إنَّ ربكمْ واحدٌ ، وإنَّ أباكمْ واحدٌ ، وإنَّ الدِّينَ واحد " . سلوا حوادثَ وقعتْ في تاريخنا ، تُـؤكِّد نزعةَ الإسلام الإنسانية ، فهي العاملُ الكبير الذي يؤهِّله لكي يكونَ تشريعاً خالدا ً باقياً . ما أجملَ أنْ تقرؤوا ما جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم وقفَ أمامَ أبي ذرٍ يحاكمه، كما روى البخاري ومسلم . أتعلمون ما فعل أبو ذر ؟ لقد قال لبلال - وبلالٌ رجلٌ أسودُ اللونِ أبيضُ القلب - قال له : يا ابن السوداء . وإذ بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أمامَ الأبيض ، أمامَ هذا الذي ينتسبُ إلى قبيلةٍ عربية يقول صلى الله عليه وآله وسلم : " يا أبا ذر ، أعيَّرتَه بأمِّه ؟! إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية " ، إنَّها نزعةٌ إنسانيةٌ تحكُم تشريعنا ، تحكُم أخلاقَنا . سلوا وما أروعَها مِنْ قصةٍ تلك التي حدثتْ لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ، يوم قَدِمتْ قافلةٌ إلى المدينة ، ووقفتْ لتَبيتَ خارجَها ، وفيها التجار ومعهم النساء والأطفال نظر عمر وكان أميرا ً للمؤمنين ، من سيحرسُ القافلة ؟ فقال لعبد الرحمن بن عوف - وكانَ أغنَى رجلٍ في المدينة - : هل لك أن تحرسهم الليلة معي ؟ فباتا يَحرسانهم ويصلِّيان ما كتبَ الله لهما ، فسمع عمرُ بكاءَ صبيٍ ، فتوجَّه نحوه ، وقال لأمه : اتقي الله وأحسني إلى صبيِّـكِ ! ثمَّ عادَ فسمعَ البكاءَ مرة ثانية ، فعادَ إلى أمه وقال : اتَّقي الله وأحسني إلى صبيك . ثمَّ عاد إلى مكانه ، فلما كان آخرُ الليل سمع بكاءَه ، فأتى أمَّه فقال : ويحكِ إنِّي لأراكِ أمَّ سُـوء ! مالي لا أرى ابنك يَـقَرُّ منذ الليلة ؟ فقالت - وهي لا تعرف أنَّه أميرُ المؤمنين - يا عبد الله لقد أبْرَمْـتني منذُ الليلة ، إنِّي أُرِيغُـه عن اللبنِ ليفطم ، فيأبى . فقال : لم ؟ فقالت : لأنَّ عمر لا يفرضُ إلا للفطيم . قال : وكم له ؟ قالت : كذا وكذا شهراً . قال : ويحك لا تعجليه . فصلَّى عمرُ الفجرَ ، وما يَستبينُ الناسُ قراءتَه من غلَبة البكاء ، فلما سلَّم قال : يا بؤساً لعمر ، كم قتل منْ أولاد المسلمين ؟ ! ثمَّ أمرَ منادياً : أنْ لا تعجلوا صبيانكم عن الفِطام ، فإنَّا نفرضُ لكلِّ مولودٍ في الإسلام . إنَّها نزعةٌ إنسانيةٌ منبثقةٌ عن الإسلام ، عن هذا الدين الحنيف . 
نحنُ نطرح الإسلامَ على أنَّه رساليٌ ، على أنه منتجٌ ، على أنَّ المعقوليةَ تسوده ، فما الذي يطرحه الآخرون ؟! ما الذي يريده الآخرون ؟! نحن نريد حينما يقدِّم الآخرون شيئاً أن يكونوا مقتنعين به أولاً ، إذْ أننا كثيراً ما نرى اليوم أشخاصاً يعرضون علينا مبادئ ، وأشخاصا ً يعرضون علينا تشريعاً ، وأشخاصاً يخطبون أمامنا كثيراً ، يقدِّمون لنا حلوَ اللسان ، ويقدِّمون لنا كلماتٍ برَّاقة ، ولكنني أقول لهم : إنَّ كلامكم هذا ليس برسالي ، لأنكم لم تقتنعوا به ، والدليلُ على عدمِ اقتناعكم به أنكم لا تُطبقون هذا الذي تقولون به . إن التشريع الإسلامي يوم حكمَته المعقوليةُ طبَّقهُ مَنْ أُنزل عليه ، وطبَّـقه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي . إنَّ التشريع الإسلامي ليحكم كلُّ العقلاء على أنَّه معقول ، على أنَّه رسالي ، وأريدكم يا شباب إذا أردتمْ فحصَ مبدأ يُعرض أمامكم ، أو امتحان فكرٍ يُلقى عليكم أنْ تناقشوه من خلال الإنتاجية ، ناقشوه من خلال الرسالية ، ناقشوه من خلال المستند الصحيح ، ناقشوه من خلال المعقولية ، ناقشوا برمضان ، فرمضانُ يكفي من حيث كونه معقولاً لكي يجلبَ الناسَ إلى دين الله القويم ، ناقشوا من خلال ليلة القدر ، فليلةُ القدر ليلةٌ في السنة تكفي لإقناعِ الناسِ أنَّ هناك صلةٌ بين الإنسان المشهودِ و بين الربِّ المعبود . ناقشوا الناس وقدِّموا لهم هذه النماذج ، فإسلامُـنا منتج ، وإسلامنا رسالي ، وإسلامنا معقول ، ولن نقبلَ بأيِّ شيءٍ يُعرض أمامنا إلا عبر هذه الشروط التي ذكرناها . 
اللهم إنا نتوجَّه إليك بسرِّ رمضان ، وبسرِّ ليلة القدر ، بسرِّ العشر الأواخر من رمضان أنْ تجعلنا رساليين في إسلامنا ، أنْ تجعلنا أصحابَ معقوليةٍ ونحن نطرح هذا التشريع . نعم من يُسأل ربُّنا ، ونِعْمَ النَّصير إلهنا . والحمد لله ربِّ العالمين .

التعليقات

شاركنا بتعليق