أمَّا بعد ،
أيُّها الإخوة المؤمنون :
حينما يسأل الإنسان نفسه : هل خلق الله الإنسان من أجل الحرب والمحاربة ؟ هل خلق
الله الإنسان من أجل القتل والمقاتلة ؟ هل خلق الله هذا وذاك من بني البشر من أجل
الصراع والمصارعة ؟ أم إن الله خلق الإنسان من أجل التعايش والمعايشة ، ومن أجل
الأنس والمؤانسة ، وخلق هذا وذاك من أجل الود والموادة . والجواب الفطري على هذا
التساؤل لا شك في أنه الثاني . والدليل على ذلك : أنك تميل إلى الأنس أيها الإنسان
بفطرتك ، وتميل إلى الود والتعايش ، وتعدل عن الحرب والقتال والصراع ، والله عز وجل
قال : ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) ، والمعرفة تؤدي إلى معايشة وأنس وود
ولقاء ، وما أظن أن التعارف يؤدي إلى قتل ومقاتلة وحرب ومصارعة .
الله عز وجل إذاً خلق الإنسان من أجل المعايشة ، وإذا طرحنا هذا السؤال على الإنسان
في شرق الأرض وفي غربها ، في شمالها أو في جنوبها فالجواب هذا الذي ذكرنا ، الجواب
الثاني ، وهذا ما نعتقده . ولكننا حين نتابع السؤال ونقول : على أي شئ نلتقي ؟ وعلى
أي قانون نتعايش ؟ وما هي ملامح هذا الذي يربط بيننا - الإنسان والإنسان - من مبدأ
ودين وقانون وصيغة تعايشية . ولقد قلت هذا الكلام لصحيفة أجنبية : ما الذي يربط
بيني وبينك ؟ ما هي معطيات الصيغة التعايشية ؟ على أي شئ نلتقي ؟ على أي شئ نتوادد؟
والجواب الذي في جعبتي من خلال إسلامي وعلى الآخرين أن يقدموا هذا أيضاً ولهم كامل
الحرية في أن يعرضوا الذي في جعباتهم .
أما أنا فأقول : لا بد لصيغة التعايش ، ولا بد لأسلوب عليه نلتقي ونتعارف ، لا بد
لهذا الأسلوب أو الصيغة من ملامح أو شروط ثلاثة :
1-الشرط الأول : هو المضمون المناسب .
سألتقي الإنسان الآخر ، ولكن على أي شئ ؟ على صيغة . ما طبيعة هذه الصيغة
ومحتوياتها ومضمونها ؟ الجانب الأول : المضمون المناسب للإنسان . ولا أريد أن أتحدث
عن تفاصيل هذا المضمون ، لكني أقول نحن نقدم من أجل هذا المضمون القرآن الكريم .
وهو في اعتقادنا مضمون مناسب لهذا الإنسان ، فيه معطيات عقيدتِه ومعطيات معاملاتِه
ومعطيات عباداته ومعطيات أخلاقه ، وكل هذه المعطيات مناسبة للإنسان . وهذا ما قرره
خالق الإنسان ، وهو الأعلم بهذا الإنسان ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ، وخالق الإنسان ذاته يقول : ( إن هذا القرآن يهدي
للتي هي أقوم ) ، وخالق الإنسان ذاته يقول : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ، وخالق
الإنسان ذاته يقول : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ، الله يعلم .
إذاً : نحن نطرح من أجل صيغة التعايش وطبيعتها مضموناً مناسباً ، وهو في رأينا
القرآن الكريم بتقرير خالق الإنسان أولاً ، وبتفكير العقلاء ثانياً ، فما من عاقل
منصف اطَّلع على القرآن الكريم إلا قال : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) وما
من عاقل منصف إلا قال : حينما يريد الإنسان النجاح في حياته الدنيا والأخرى لن يكون
نجاحه إلا بتبني هذا القرآن . وأنا أدرك مناسبته للإنسان من خلال سعي الأعداء
لإبعاد الإنسان عنه ، وما إبعاد الإنسان عنه إلا لاعتقادهم أنه متى قرأه الإنسان
بعقل فسوف يقبله ، وإلا لو لم يكن مناسباً للإنسان لما سعى الأعداء من أجل إبعاد
الإنسان عن القرآن ولاكتفى هؤلاء بالفعلة ذاتها ، أي لخلوا بينه وبين الناس ،
واكتشف الإنسان بذاته عدم مناسبته ، ولكنهم يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن مناسب
، وأن الإنسان إذا قرأه تبناه ، وبالتالي جهدوا في أن يبعدوا الإنسان عن القرآن في
القديم والحديث . في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أولئك الذين ينتمون
للعداوة والبغضاء يقولون : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) ،
وينهون جماعتهم وأتباعهم عن سماع القرآن الكريم ، حتى لقد قرأت في كتاب العقد
الفريد أن مسيلمة الكذاب - الذي ينتمي للعداوة للقرآن ، وعداوته للقرآن وسعيه من
أجل إبعاد الإنسان عن القرآن دليل على مناسبة القرآن للإنسان ، وعلى أن القرآن
مضموناً هو الأصلح للإنسان - فكان يقول لجماعته : اسمعوا آياتي ، والأهم أن لا
تسمعوا آيات محمد وهذا ما يُتوارث الآن من قبل أتباع مسيلمة الذين يريدون أن يقدموا
المبادئ الوضعية بديلاً عن القرآن الكريم ، فهم قد لا يريدون أن تسمعوا مبادئهم ،
ولكنهم يحرصون على أن لا تسمعوا القرآن الكريم . وقد ذكرت لكم ما قاله الأعداء في
العصر الحديث : أخرجوا هذا القرآن من مجتمع تريدون أن تحتلوه ، ارفعوا القرآن منهم
، اجعلوا بينهم وبين القرآن فجوات. إنهم في سلسلة واحدة . نحن نطرح صيغة تعايش
طبيعتها مضمون مناسب ، وهو القرآن الكريم : كتاب الله للناس كافة ، للبشرية جمعاء ،
للدنيا من أجل أن تكون ناجحة ، وللآخرة من أجل أن تكون فالحة .
2- الشرط الثاني : وآمل من شبابنا أن يكونوا على إدراك لما أقول ، لأن هذا الذي
أطرحه أمر مصيري وجوهري ، ويشكل منطلقاً في بداية حوارنا مع العالم ، فنحن إن أردنا
حواراً مع العالم ، وهو يدّعي أنه يريد ، فهذا منطلق حوار ، وأساس انطلاق ، وعلى
شبابنا المثقف أن يَعُوا الأساسيات في منطلقاته الحوارية . الشرط الثاني : تاريخ
صالح للاعتبار ، تاريخ صالح يؤكد صلاحية الصالح ، وفساد الفاسد ، هذا هو الجانب
الثاني .
ونحن حينما نطرح فيما يخص التاريخ الصالح للاعتبار ، نطرح تاريخ الأنبياء مع
جماعاتهم وأقوامهم ، وإن الأمة التي تحرص على التعايش ينبغي أن تسأل عن تاريخها
الذي تضعه في أذهان أتباعها من أجل الاعتبار ، نحن نطرح تاريخ الأنبياء وأقوامهم ،
فماذا يطرح الآخرون؟ أنا لا أريد أن أسجل ما يطرحه الآخرون ، ولكني أريد تسجيل ما
أطرحه أنا . أقول للإنسان ، وكل الناس على علم بهذا التاريخ ، فكل البشر يسمعون
بآدم وإبراهيم وموسى ومحمد ، وإن لم يؤمنوا بهم ولكنهم يسمعون بهم ، وإن سألت شرق
الأرض وغربها حدثك هؤلاء عن هؤلاء . وأنا أتابع رسم ملامح الصيغة ( صيغة التعايش )
المضمون المناسب : التاريخ الصالح للاعتبار هو تاريخ الأنبياء مع أقوامهم . وأسائل
الإنسان : أتريد أن تكون في صف آدم أم في صف الذي يقابله وهو الشيطان ، لأن آدم كان
في مواجهة الشيطان ، أتريد أن تكون نسيباً لآدم أم للشيطان ؟ وآدم ( فتلقى آدم من
ربه كلمات فتاب عليه ) أما الشيطان فقال : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) . أتريد أن
تكون مع إبراهيم أم مع النمرود ؟ وإبراهيم الذي قال : ( ربي الذي يحيي ويميت ) أما
النمرود فهو الذي قال : ( أنا أحيي وأميت ) أتريد أن تكون مع موسى أم مع فرعون ؟
موسى قال له ربه : ( ولتصنع على عيني ) وقال له : ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى )
، أما فرعون فقال : ( ما علمت لكم من إله غيري ) ، أتريد أن تكون مع محمد على
الأنبياء جميعاً أفضل الصلاة والسلام ، الذي قال عنه ربه : ( محمد رسول الله والذين
معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) أتريد أن تكون مع محمد الذي قال عنه القرآن : (
إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) أم تريد أن تكون مع أبي جهل الذي قال - في غزوة بدر -
لن نرحل من هاهنا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف لنا القيان وترقص لنا
الراقصات . أتريد أن تكون مع هؤلاء ؟ إذاً : صيغة التعايش تطرح تاريخاً صالحاً
للاعتبار .
3- الشرط الثالث : قوة الاستمرار .
أيها الإخوة : إن ما نعتقده أن المبادئ الوضعية لن تدوم طويلاً ، وسيجري عليها
تغييرات من جذورها ، ولا أريد أن أعدد فكلنا يعلم ما طرأ على القوانين والمبادئ
الوضعية ، فمنها ما سقط وانتهى ، ومنها ما تغير كلياً . أما الصيغة الإسلامية التي
نطرحها للتعايش : فملامح الإسلام مستمرة وباقية ولن تتغير . الملامح العامة للتجربة
الإسلامية - إن سميناها تجاوزاً كذلك- باقية مستمرة ، وأهم ملامحها ملمحان اثنان :
الأول : العبودية الصافية لله ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) فمنذ خمسة
عشر قرناً إلى يومنا هذا لم يتغير هذا الملمح بكل تفصيلاته ، وأنا أعتقد أن الذي
وقف على المنبر منذ خمسة عشر قرناً يقول الذي أقول الآن على رأس القرن الخامس عشر
الهجري . أما الملمح الثاني : لهذه التجربة الذي يستمر هو إرادة الخير للإنسان ،
فنحن أمة نتعامل من خلال صيغتنا مع الله بالعبودية ، ومع الناس بالخير ، ولا زالت
الآية التي تدعو إلى ذلك محفوظة بحرفها ، بحركاتها ، بسكناتها ، بقراءاتها منذ خمسة
عشر قرناً وإلى اليوم وستبقى محفوظة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : ( وافعلوا
الخير لعلكم تفلحون ) إنها قابلية للاستمرار من خلال بقاء ملامحها . وأهم ملامحها
عبودية الله ، وإرادة الخير للإنسان . بعد هذا : أتصدقون أن مبدأ وضعياً يمكن أن
يحمل للناس صيغة تعايش تتصف بما ذكرنا ؟
أيها الإخوة : من منطلق إسلامي أو مسلم ، أقول : لو حمل مبدأ وضعي ملامح الصيغة
التي أتى بها الإسلام ، لكان إسلامياً ولكان من الله ، ولا يمكن هذا . إذاً على
الإنسان أن يتوجه لطلب وفحص هذه الشروط في صيغة التعايش المنشودة ، ونحن نطلبها
وننادي بها ، ونقول ذلك لكل العالم ، لإنساننا الذي يعيش معنا ، والذي ارتضى في
لحظة غفلة أو ساعة ضغط غير الإسلام ، نقول له : أَفِق . فالإسلام هو الذي يقدم
الصيغة التعايشية التي يلتقي الإنسان الإنسان على أساسها ، وما سوى ذلك يسقط .
بالمناسبة أقول لهؤلاء اللعناء من اليهود في إسرائيل أقول لهم : ما صيغتكم
التعايشية التي تقدمونها ؟ صيغتهم التعايشية تقوم على الأمن ، وهذه كلمة جميلة ،
ولكن اسمحوا لي أن أكمل لأقول : تقوم على أمنهم على حساب الآخرين ، وعلى جثث
الآخرين . الأمن الذي يطلبونه لهم ، وأما الآخرون في رأيهم فهم لا يستحقون الحياة ،
وكتبهم الفاشية والعنصرية تقول : إن الله خلق سواكم على صورة الآدمي ليكونوا لائقين
بخدمتكم ، وإلا لا يستحق غيركم أن يكون على صورة الآدمي .
أيها الإخوة : هذه أكبر مساحة للصيغة التعايشية المطروحة من قبل الصهاينة المجرمة ،
أرأيتم ما فعلوا ؟!! بالأمس وبحجج واهية هدموا عشرين منزلاً دون إعلام أهلها ،
هدموا ستة متاجر ، هدموا عشرين منزلاً يؤوي مائتا شخص من إخواننا الفلسطينيين ،
وأعتقد أن جميعكم رآهم وهم يعيشون بعد الدمار في الخيام تحت الشمس المحرقة في
الأيام القائظة . أرأيتم إلى هؤلاء ؟!! وأنا أعجب بعد ذلك من أن نتحدث - وليس
الكلام خطابياً ينتمي لعاطفة محضة ، لكنه قرار يمت إلى العقل بصلة كبيرة - أعجب من
أن نتحدث عن سلام معهم . أفيدمرونك وتدمر نفسك من أجلهم ؟!! أفيقاتلونك وقد قال
قائلهم كاذباً - فهم في كل حديثهم كاذبون - أشاعوا أنهم يريدون قتل رئيس السلطة
الفلسطينية ، ثم قال وزير الدفاع فيهم - لعنة الله على جميعهم - قال : لا ، لا نريد
. وصدقنا نحن كلامه هذا ، وقلنا هذه إشاعة ، وكأنك تقف أما إنسان خير . إنهم كاذبون
. أيكذبون على الله ولا يكذبون على الناس ؟!! أيفترون على الله ولا يفترون على
الناس ؟!! من كذب على الله كذب على الناس .
أيها الإخوة : أرجو أن تكون صيغتنا التي نقدمها حصيداً من الإسلام ، فإسلامنا قادر
على أن يمد الإنسان بمقومات النجاح إلى يوم القيامة ، وفي يوم القيامة .
فيما يخص هذا الأمر : إننا والحمد لله في هذا البلد الكريم نسعى من أجل تثبيت هذه
المفاهيم ، لا سيما يتلك التي تتعلق بعدونا ، وقد شُكِّلت - ولله الحمد - لجنة
شعبية لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني في قطرنا هذا ، شُكلت لجنة شعبية
مركزية ، انبثقت عنها لجان فرعية وفي كل محافظة ، هذه اللجنة الفرعية قسمت إلى ثلاث
لجان : إلى لجنة إعلامية ، ولجنة للتعبئة ، ولجنة مادية من أجل جمع التبرعات. والكل
يساهم في هذا . ونحن نقول لشعبنا ولكل المسؤولين : إن قرارنا لا يمكن أن يُنقَض في
علاقتنا مع العدو ، وقرارنا هو المقاومة ، هو الجهاد ، وأن لا سلام مع هؤلاء . هذا
ما تقرره اللجنة الشعبية ، لأنها انبثقت من الشعب ، والشعب وإن كان بعضه أو نصفه أو
ثلاثة أرباعه نائماً إلا أن القسم المتبقي اليقظ يقول هذا الكلام : لا سلام ، وإنما
مع الذي يريد لك الدمار لا يمكن أن تتعايش بسلام . هو يستغلك ، وأنت تصلي يضربك ،
أوَلم يقتلوا إخواناً لكم وهم يصلون في الخليل في عام 1995 ، ألم يدخل هذا المجرم
إلى الأقصى ، فهم يريدون بناء كنيس لعبادتهم الفاشلة الكاذبة في ساحة الأقصى .
قرارنا - أيها الإخوة - لا نسالم من عادانا ، فمن اعتدى علينا لا سلام معه ، وإنما
أمر الله ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ، نحن عادلون في
اعتدائنا على من اعتدى علينا ، والذي اعتدى علينا هو ظالم في اعتدائه علينا.
اللهم إني أسألك أن توفقنا من أجل أن نتبنى الإسلام وأن نطرحه وأن نكون على بينة
منه في كل شؤوننا . نِعمَ من يُسأل أنت ، ونعم النصير أنت . أقول هذا القول وأستغفر
الله .
التعليقات