آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
قصة الفتح

قصة الفتح

تاريخ الإضافة: 2002/11/22 | عدد المشاهدات: 2275

أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون : 
كثيراً ما نقرأ قوله جل جلاله وعلا في سورة النصر : ( إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ) حينما نقرأ هذه السورة نجد فيها كلمتين هما النصر والفتح ، فهل هاتان الكلمتان بمعنى واحد ؟ هل الفتح هو النصر وهل النصر هو الفتح ، وإذا كانت الكلمتان بمعنى واحد فلم كان التكرار والترادف إذاً ، ونحن نعلم أن البلاغة الإيجاز وأن القرآن الكريم كتاب لا أبلغ ولا أفصح . 
إذاً الفتح غير النصر ، والنصر غير الفتح ، ولا أريد أن أقف هنا طويلاً لكني أقول : النصر غلبة قوة مادية ، انتصار وإحراز للغلبة المادية ، انتصرت الدولة أي كانت قوتها المادية هي التي سيطرت ، وأما الفتح فهو غلبة منهج ، غلبة معنوية ، فالإسلام حينما يدخل دولة ما أو مكانا ما فهو ينتصر ويفتح ، ولذلك سميت الانتصارات الإسلامية بالفتوحات ، لأن المسلمين ينتصرون ولا يكتفون بأن يحولوا البلد الذي يدخلونه منتصرين لا يحولوه إلى مستعمرة يفيدون منها ، لكنهم يريدون من وراء هذا النصر المادي أن يقدموا منهاجاً له قوة الغلبة على سائر المنهاج ألا وهو القرآن الكريم ، ولذلك كان التعبير عن الانتصار والدخول بقول الله : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) الإسلام ينتصر ويأتي بالفتح بالمنهاج من أجل أن تتحرر الشعوب التي دخلها الإسلام منتصراً من أجل أن تتحرر الشعوب من كل منهاج لا يناسبها ومن كل شرعة لا تتآلف معها الإنسانية ، بل من أجل أن يقدم الإسلام لهؤلاء منهاجاً وشرعة يأتلف معها الإنسان وينسجم . 
هذه المقدمة لغزوة الفتح ، ولم أرد أن أتحدث عن بعض لقطات من غزوة الفتح ، لكني رجعت إلى أكثر من عشرة مصادر ولخصت هذه الغزوة وقلت : لعل كثيراً منا يفتقر إلى الإحاطة بالإطلاع على هذه الغزوة كما وقعت ، لذلك قررت بعد أن رجعت إلى تلك المصادر ان ألخص هذه الغزوة من مراجع موثوقة ، وأردت أن أعرضها عليكم من أجل أن تحيطوا بها إطلاعا ومعرفة ، فهي من أهم الغزوات مع غزوة بدر ، فهما اللتان شكلتا الفرقان والتفرقة بين الحق والباطل ( غزوة بدر ) ، والغلبة المنهجية للمسلم الصادق الواعي ( غزوة الفتح ) . 
أسفر صلح الحديبية عن اتفاق كان من جملة بنوده : أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل ، ومن أحب الدخول في عقد وعهد قريش فليفعل ، فدخلت بنو بكر في حلف قريش ، ودخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله ، ولكن قريشاً وحليفتها من بني بكر خانوا العهد وهاجموا خزاعة وقاتلوهم ، فأرسلت الأخيرة إلى رسول الله عمرو بن سالم الخزاعي " فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف أمامه وقال :
 

يا رب إني ناشد محـمداً

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

هم بيّتونا بالوتير هجداً

وقتلونا ركعاً وسجداً

فانصر هداك الله نصراً أيداً

فقام رسول الله فقال : نصرت يا عمرو . لكن قريشاً وقد شعرت بخطئها أرسلت أبا سفيان محاولاً الصلح فلم يفلح ، واستشفع أبا بكر عند رسول الله فلم يفعل وكذلك طلب من عمر بن الخطاب فلم يفعل بل قال له : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوالله لو لم أجد إلا الذرّ لجاهدتكم به ، وطلب من عليٍّ كذلك فلقي منه شبه ما لقي من صاحبيه . وعاد إلى قريش بخُفَّي حنين . 
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يتجهزوا ، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة ، وطلب أن يحاط مسيره بالسِّر ، ثم دعا الله - ونأمل من قوادنا ورؤسائنا أن يقرؤوا هذه الغزوات وأن يتعلموا منها ، ثم دعا الله فقال : " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلدها " . 
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا العزم ، قام رجل يدعى حاطباً بن أبي بَلتَعة وهو من المهاجرين البدريين ، ولم يكن من قريش ، فعمد فكتب كتاباً وبعثه إلى قريش مع امرأة مشركة يخبرهم بمسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتخذ بذلك عندهم يداً ، فأطلع اللهُ رسوله فبعث رسول الله في طلب المرأة وقال لعلي عليه السلام ولأبي مرثد والزبير : " انطلقوا تأتوا حتى روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين " فأدركوها وأخذوا منها الكتاب وعادوا به إلى رسول الله ، فقال عمر : يا رسول الله ! إن حاطباً قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي : " أليس من أهل بدر ؟ ثم قال : " وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقال : الله ورسوله أعلم ، ونزل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . 
خرج رسول الله من المدينة لعشر مضين من رمضان ، واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين بن عتبة ، فصام رسول الله وصام الناس معه حتى إذا كانوا بالكُدَيْد أفطر رسول الله وأفطروا ، ثم تابع رسول الله مسيرته حتى وصل مرّ الظهران فنزل فيها وقد عَمِيت الأخبار عن قريش ، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبُدَيْل بن ورقاء يتحسسون الأخبار وينظرون . ولما رأى العباس أبا سفيان - كان العباس قد خرج مهاجراً إلى المدينة - وبينما هو في هجرته إلى المدينة لقي أبو سفيان وصحبه ، فراح يكلمه في مصيره ومصير قريش ، ويخيفه إن لم توادع قريش محمداً ، وسأل أبو سفيان العباس قائلاً : ما الحيلة ؟ فقال له العباس : تعال . ثم أردفه خلفه على بغلة رسول الله البيضاء - وكانت في حوزة العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ودخل عمر بعدهما وقد رآهما ، فقال عمر : يا رسول الله : هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه . فقال العباس : يا رسول الله ، قد أجرته . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عباس اذهب إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ، فلما أصبحا جاءا إلى رسول الله فلما رأى رسول الله أبا سفيان قال له : " ويحك ألم يأنِ لك يا أبا سفيان أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ " فقال : أما هذه والله إن في النفس منها حتى الآن شيئاً . فقال العباس : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تُضرب عنقك ، فأسلم . ثم قال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً . قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن . فلما همَّ أبو سفيان لينصرف قال رسول الله : يا عباس ! احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها . قال : فخرجتُ حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه ، ومرت القبائل على راياتها ، كلما مرت قال أبو سفيان : يا عباس : من هذه ؟ فأقول سُلَيم ، فيقول : ما لي ولسليم ، ثم تمر القبيلة فيقول : يا عباس من هؤلاء ؟ فيقول : مزينة . فيقول : ما لي ولمزينة حتى نَفَدَت القبائل إلى أن مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحِدَق من الحديد . فقال أبو سفيان : سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار . قال أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة ، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً . فقال العباس : يا أبا سفيان إنها النبوة ، إنها النبوة . قال أبو سفيان : فنعم إذن . 
وانطلق أبو سفيان مسرعاً حتى إذا جاء قومه صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة وأخذت بشاربه وقالت : اقتلوا الحميث الدسم الأحس ، قُبِّح من طليعة قوم ، قال أبو سفيان : ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، قالوا : قاتلك الله وما تغني عنا دارك ؟ قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم والمسجد . 
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا انتهى إلى ذي طُوى وقف على راحلته معتجراً بشقة بُردٍ حَبِرةٍ حمراء ، ثم وضع رأسه تواضعاً لله - وليتعلم القادة علاقة الفتح مع الله - وضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله حتى أن عنثونه ليكاد يمس واسطة الرحل . 
وراح يوزع جيشه : فأمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كُدَي ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كَدَاء ، وقال سعد وقد أخذته نشوة النصر صارخاً : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة . ووصل الخبر إلى رسول الله فقال : بل اليوم يوم المرحمة - لأن الإسلام إذ يفتح يرحم ولا يستحل الحرمة لذلك قال المستشرقون : ما عرف العالم فاتحاً أرحم من المسلمين - اليوم تعظم الكعبة ، ثم قال لعلي : أدرك سعداً وخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها ، وتقدم رسول الله متابعاً فدخل مكة من أعلاها وأمر قواده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الأخرى . 
بيد أن هناك فئة من أهل مكة المشركين غاظهم هذا فاجتمعوا على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وعزموا على قتال المسلمين في مكان اجتماعهم وكان يسمى " الخندمة " فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد تناوشوا معهم القتال ، وأصيب من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم ولّوا الأدبار . 
وهكذا استسلمت مكة لفاتحها العظيم ، فدخلها وبدأ بالبيت العتيق فحيَّاه وطاف سبعة أشواط ثم أسند ظهره وقال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى من الجاهلية فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالاباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ، ثم تلا قوله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) . وشرع يكسر الأصنام بعود في يده وهو يردد قول الله تعالى : ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) . 
وبعد أن خشعت الأصوات وطأطأت الرؤوس وعنت الوجوه ، شق هذا الصمت الرهيب صوت الحبيب قائلاً : " يا معشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرُ أخٍ كريم ، وابنِ أخ كريم . قال : " فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ) اذهبوا فأنتم الطلقاء " . 
ثم يأتي وقت الصلاة : فيأمر رسول الله بلالاً فيرتقي ظهر الكعبة ويؤذن ، ولم يعجب ذلك كثيراً من الطلقاء حتى قال بعضهم : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة ، وقال آخرون : أهذا الغراب يؤذن على ظهر الكعبة ؟ وأنا رأيت في هذا الموقف جزاء وثواباً مناسباً لسيدنا بلال . أتذكرون بلالاً وقد كان يُعذَّب في مكة ، لقد كانت الصخور توضع على بطن بلال في الرمضاء في حر الظهيرة ، ولكن بلالاً بقي ثابتاً صامداً فجاءت المكافأة في الدنيا قبل الآخرة بعد أن علت بلالاً الصخرة ، وإذ ببلال يعلو أكرم صخرة ويعلو الكعبة المشرفة . وخشي الأنصار بعد فتح مكة أن يقيم رسول الله فيها ويترك المدينة ، فقام صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار فلما فرغ من دعائه قال : ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شيء يا رسول الله . فلم يزل بهم حتى أخبروه بخشيتهم أن يتركهم رسول الله فيقيم بمكة ، فقال عليه وآله الصلاة والسلام : معاذ الله ، المحيا محياكم والممات مماتكم ، فاستبشر الأنصار وهلت وجوههم فرحاً وهطلت دموع الفرح على خدودهم . 
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أنت أكرم الناس ، أنت أبر الناس ، وإني لمطأطئ رأسي إكراماً وتقديراً لك يا سيد الناس . 
أيها الإخوة : هذه قصة الفتح باختصار ، واسمحوا لي أيضاً أن أتوجه بالتهنئة إلى إخوتنا في تركيا ، إلى حزب العدالة والتنمية ، إلى أولئك المؤمنين الذين سيثبتون بإذن الله بأنهم بعد أن انتصروا في الانتخابات على الأحزاب العلمانية الكافرة التي تسعى لقتال الإسلام ، أقول لهم : أسأل الله لكم أن تتخلقوا - وقد رأينا بوادر ذلك - بأخلاق الفاتح الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وها نحن نسمع عنكم سعة في التفكير ، وسَعة في الصدر وسعة في التمثل لروح العصر ، وتحققاً بنور الذكر ، فبورك لكم . 
أيها الإخوة : الإسلام بهذا الذي قلنا قادم بعون الله ، لن يأتي إسلام يمين ولا يسار ، وإنما بعون الله الإسلام الذي سيأتي الإسلام الذي يعرف معنى الفتح ، يعرف معنى الخلق ، الذي يعرف معنى السعة ، الذي يمتلك أهله سعة الصدر ، وروح العصر ، ونور الذكر ، وقوة الفكر ، هؤلاء هم المؤهلون من أجل أن يسودوا العالم . 
وأيضاً نتوجه إلى إخوتنا في فلسطين ، ونسأل الله أن يغدو بعد زمن قليل فاتحين للقدس يقفون عند المسجد الأقصى كما وقف رسول الله عند الكعبة ليقولوا : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا شيء قبله ولا شيء بعده ، وإنا لذاك النصر لمنتظرون ، اللهم نصرك الذي وعدت ، اللهم خذ العيون وعم الأبصار عن إخوتنا المجاهدين في كل مكان ، نعم من يأل أنت ، ونعم النصر أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق