أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :
يؤلمني ويؤلمكم بلا شك أن نرى شباباً من أبنائنا ، أن نرى يافعين من أبنائنا ،
من أبناء إخواننا ، من أبناء وطننا الحبيب ، أن نراهم متسكعين في الليل نواماً
في النهار . لعلكم رأيتم ما رأيت وما أرى من الشباب في المساء ، في أحياء
إسلامية يسهرون في الشارع وينتمون لأسرٍ مسلمة غنية من حيث المال يصرخون .
أتألم إذ أراهم ويصل الألم أحياناً إلى حد الخوف منهم . أأنصحهم ! فلعلهم
يقابلونني بالسوء ، أم أسلط عليهم بعضاً ممن أعرف حتى ينبهوهم ، فإن لم ينتهوا
قاتلوهم أو ضاربوهم . في الأمر مخاطرة أيضاً .
وأنا أرى هذه المناظر قلت : ما الذي يضبط مجتمعنا ؟ ما الذي يضبط شبابنا حتى
يعود مجتمعنا مجتمعاً مؤنساً ، وحتى يعود شبابنا شباباً مؤنساً .
أيضاً تذكرت أياماً مضت كنا نمشي في الأحياء ، كنا نسلم على الكبار لنستمتع
بردّ سلامهم ، تذكرنا فترات كانت الأحياء على ما تضم من أناسٍ لا يُصَلُّون
ربما ولا يصومون ، لكنهم ينتسبون للحياء انتساباً جاداً ، فهم حييون ويستحون
ويستحيون . قلت في نفسي ما الذي يضبط هؤلاء ؟ وأنا أتذكر بعضاً من الماضي
أجابتني ذاكرتي : لا بد من التدين . بالتدين نضمن مجتمعنا ، فشبابنا وإن كانوا
– لا تؤاخذوني بهذه الكلمة – وإن كانوا أحياناً يرتادون المساجد إلا أنهم غير
متدينين ، فالتدين لا يعني أن يصلي شبابنا التراويح ، ولا يعني أن يفتح شبابنا
القنوات التلفزيونية على درسٍ ديني أو على تحليل إخباري ، يلزمنا التدين الحق
حتى نأنس بمجتمعاتنا ونأنس بشبابنا ، فشبابنا – لا أعني كلهم ولا أعمم –
فشبابنا في الشوارع ، وأنتم ترونهم في المدارس وتشاهدونهم في الجامعة قد تحولوا
إلى كتلٍ لحمية مستهلكة تفوح منها رائحة غير طيبة ، شبابنا أصبحوا جسوماً ، و:
لا خير في طول الجسوم وعرضها إذا لم يزن حسن الجسوم عقولُ
شبابنا استُهلكوا واستَهلكوا ، ضاعوا
وضيَّعوا .
لا بد من التدين الحق لشبابنا ، والتدين هو : عودةٌ صادقة للدين ، التدين الحق
: تدين اللسان ، وتدين الفكر ، وتدين السلوك ، وتدين الاجتماع .
وتدين الفكر من أجل أن يكون الفكر فاعلاً ، من أجل أن يكون الفكر عاملاً فيما
يعود عليه بالنفع ، فيما يعود على مجتمعاتنا بالنفع . أريد لشبابنا ، لعقولهم
التي هي أدوات فكر أن تعمل حول القرآن الكريم ، وأن تدور في فلك القرآن الكريم
، أريد لشبابنا أن يكون القرآن الكريم همَّهم ، أن يحصلوا ثقافة لائقة ، ومن
أجل أن يحصلوا معطيات معرفية واعية تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، نريد تديناً
فكرياً ، نريد تديناً عقلياً ، نريد لشبابنا أن يقفوا لحظات عند آيات من القرآن
الكريم تطالبهم بأن يتعلموا ، نطالبهم بأن يصنعوا ، بأن يزرعوا ، أن يتاجروا
التجارة الطيبة النافعة ، نريد من شبابنا أن يفكروا في عقولهم فيما يعود على
حياتهم بالنفع وعلى أخراهم بالفلاح ، وبذلك يكونوا متدينين فكراً . يؤلمنا أشد
الألم أن نرى شبابنا منعتقين من التدين حتى وإن تمظهروا في بعض الأحيان بمظهر
التدين .
نريد تديناً في اللسان ، نريد لساناً نظيفاً لا يعرف الفحش ولا التفحش ، لا
يعرف الطعن ولا اللعن ، فالمؤمن ليس بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ .
كم تسمعون في مجتمعاتنا من فحش في كل أحيائنا ، كم تسمعون في بيوتنا من شبابنا
وكبارنا ونسائنا وبناتنا ، كم تسمعون كلمات فحش . نريد تديناً في اللسان يقوم
على نظافة اللسان من السوء وعلى تحلية اللسان بالخير ، نريد ألسنة ذاكرة ، يا
أيها الشباب ، يا أبناء الحي الذي أقطن فيه ، يا أبناء الحي الذي لا أقطن فيه ،
يا أبناء حلب حتى لا نتحدث عن غيرنا ، يا أبناء أحياء حلب على تنوعهم مادة
ومعنى وثقافة وعلماً ومعرفة نريد تديناً لسانياً من خلال النظافة والطهارة
والتخلية ومن خلال التحلية بذكر الله عز وجل ، فلا يزال لسانكم رطباً بذكر الله
. إذا ذكرتم الله أنستم وآنستم ، أضحيتم عناصر خيرة تأنس بكم . لِمَ لا يستأنس
بعضنا ببعض ؟ لأننا غير متدينين فكراً ولأننا غير متدينين لساناً . نريد التدين
اللساني الذي يعني تخلية وتحلية بذكر الله عز وجل . أين استغفارك أيها الشاب ،
وسيدك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم – رغماً عنك سيدك ، سيبقى سيدنا مهما
أردنا أن نبحث عن غيره فهو سيدنا شئنا أم أبينا ، إنه الأفضل على الإطلاق –
سيدنا يقول بأنه يستغفر في اليوم سبعين مرة ، كان يتوب إلى الله مائة مرة ، أين
استغفارك أيها الشاب حتى يتعوَّد لسانك على الخير ، أين ذكرك ربك ، أين تسبيحك
ربك ، أين ذكرك ربك عندما تخرج من بيتك ، عندما تؤوي إلى جامعتك ، عندما ترتاد
مدرستك ، أين ذكرك ربك عندما تأتي محلك ، أين ذكرك ربك عندما تأوي إلى فراشك ،
أين ذلك يا أخي حتى يكون لسانك متديناً ؟ لا بد من الذكر ، لا بد من التحلية
بعد التخلية ، لا بد من الصلاة على النبي عليه وآله الصلاة والسلام . رحم الله
أياماً كنا نتسابق على كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا سيما
في يوم الجمعة . إن الواحد منا يقول لأخيه في هذا اليوم الجمعة : صليتُ على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف مرة ، ألفا مرة ، ثلاثة آلاف مرة ، مائتا
مرة ، مائة مرة . يا شبابنا أين صلاتكم على الحبيب الأعظم محمد صلى الله عليه
وآله وسلم ، يا فلان يا ابن فلان ، يا من أبوك حجَّ واعتمر ، ويا من حجت أمك
واعتمرت ، يا من تُعَنوِنون بيوتكم بعنوان الإسلام لكن التدين الحق مفقود .
هؤلاء الذين أراهم وترونهم ينتسبون لآباء مسلمين حجاج مصلين ، ربما كانوا
تلامذة لبعض الشيوخ ، وربما كانت أمهاتهم يرتدن أيضاً بعض المساجد لكنهم مهملون
، لا أقول لا ذنب عليهم ، الذنب الأكبر عليهم ، ولكن نحن بحاجة إلى أن
نُذَكِّرهم إن بالحسنى تارة ، وإن بالشدة تارات وتارات ، وإلا فانتظروا نهاية
لمجتمعاتنا وخيمة ، سيضيع شبابنا . هل ترضون لشبابنا ، لطلابنا ، لأبنائنا ،
لطالباتنا هذا الذي هم عليه من تفسخ في الأخلاق ، ضياع وتضييع للقيم ، من تضييع
للوقت . ما الذي تعمله وما الذي تفعله أنت أيها الطالب الشاب ؟ حاسب نفسك عند
المساء ما الذي جنيته من خير ؟ ما الذي تركته من شر ؟ نحن بحاجة إلى تدين
اللسان ، إلى تخلية اللسان من كل ما هو شائن ، وإلى تحلية اللسان بالذكر ،
بالكلام الطيب ، بالكلام الجميل النظيف ، بالكلام الطاهر ، بالصلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم .
نحن بحاجة إلى تدين في القلب ، وتدين القلب يعني حب الله ، يعني الإيمان بالله
. جدد إيمانك ايها الشاب ، أيها الرجل ، أيتها المرأة في كل صباح أعلن شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، كرر ذلك على لسانك ليتدين قلبك ، فنحن
بحاجة إلى تدين في القلب يقوم على الإيمان والحب ، على الإيمان بالله وعلى محبة
الله وعلى محبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومحبة الصالحين ، نحن بحاجة إلى
هذا التدين الذي يجعل قلبك متديناً ، قراءة القرآن وتلاوته ، مجالسة الصالحين ،
التوبة مما فعلت من ذنب ، كثرة اللقاء مع أولئك الذين يوصلونك إلى محبة ربك ،
إلى محبة نبيك المصطفى ، نحن بحاجة إلى تدين في القلب يقوم على الإيمان والحب ،
نحن بحاجة إلى تدين في السلوك من أجل أن نكون عاملين عملاً صالحاً ومن أجل أن
نكون عابدين . أصبحنا نشتهي أن نرى شاباً في غير رمضان ، في غير التراويح ،
أصبحنا في شهوة لرؤية شاب يقبع في زاوية من زوايا مسجد أو بيت يبكي ليُؤثِّر
علينا ، أو ليؤثر فينا بحاله ، نحن بحاجة إلى سجدة نلمحها ، نلمح هذه السجدة
وقد طالت وطالت ، هذا الذي يسجدها شابٌ من الكلية العلمية الفلانية أو من
الكلية النظرية الفلانية ، يعمل تاجراً أو صانعاً ، نحن بحاجة إلى ذلك حتى
نستأنس بمجتمعاتنا ، وإلا ، ثقوا بأننا نعيش من غير أنس ، ونعيش من غير لقاء
على ود ، فقدنا الود الذي بيننا ، أصبحت لقاءاتنا متكلفة ، يتكلف الواحد فينا
إذ يرى أخاه ، يرى صديقه ، لأننا نلتقي بجسومنا ، نلتقي بكتلنا اللحمية ، نلتقي
فقط بتفكيراتنا الاستهلاكية ، نلتقي من أجل أن تنتافس على دنيا وعلى فتات دنيا
من أجل أمور لا تقدم ولا تؤخر ، أما الأمور الهامة والجادة التي تنفعنا في
دنيانا وأخرانا فما عدنا نتنافس عليها وما عاد شبابنا يتنافسون عليها .
نحن بحاجة إلى إلى تدين في العبادة ، ال عبادة نمعن فيها ونفكر فيها ، ركعتان -
أيها الشاب - تركعهما بينك وبين نفسك تطيل القيام والركوع والسجود والدعاء ،
تقول : رب اغفر لي ولوالدي ، تقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، تقول : رب
أدخلني مدخل صدق وأخرجني ومخرج صدق ، تقول : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري
واحلل عقدة من لساني ، تقول : رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين ،
تقول : رب انصر المسلمين ، تقول : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين
واجعلنا للمتقين إماماً . نحن بحاجة إلى تدين سلوكي بتحسين العبادة وبتحسين
العمل الصالح وبالحياء . نحن بحاجة إلى من يستحي ، فَقَدَ نساؤنا أو لا أقول
الكل فَقَدَ كثيرٌ من نسائنا الحياء ، وكثير من رجالنا الحياء . أين الحياء في
تعاملكم يا شبابنا مع بعضكم ، مع آبائكم ، مع مدرسيكم ، مع جيرانكم ، مع
أثوابكم ، مع ما تلبسون ، مع ما تأكلون ؟ انظروا طريقة أكل شبابنا ، يأكلون في
الشوارع ، انظروا طريقة لبس شبابنا كيف يلبسون وكيف يخلعون ما يلبسون ، انظروا
إلى شكلية الأكل وكيفيته ، ما عاد الأكل مؤدَّباً ولا عادت طريقة الأكل على نسق
تلك الطريقة التي علمنا إياها سيد المؤدبين ، سيد المهذبين محمد صلى الله عليه
وآله وسلم . انظروا شوارعنا عند الذين يبيعون الوجبات السريعة أو الطعام الذي
يسمى السندويش ، انظروا إليهم كيف يأكل شبابنا هذه الأطعمة والطريقة التي
يتناولون فيها طعامهم ، الطريقة التي يمشون فيها .
نحن بحاجة إلى تدين سلوكي يقوم على الحياء ، وإذا الحياء ضاع فلا قيمة لنا : "
إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت " وإن الحياء أهم شعبة من شعب الإيمان ، فللإيمان
شعب أعلاها : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من
الإيمان ، والحياء لا يأتي إلا بخير . نحن بحاجة إلى تدين سلوكي ، إلى حياء ،
أقول هذا وأنا أشعر بالألم ينتابني ، لقد ساهمت أجهزة ووسائل الإعلام في ذلك من
خلال البرامج التي تعرض على شبابنا ، والبرامج التي تعرض بين رياضة مُهَيِّجة ،
لسنا ضد الرياضة ولكننا ضد الغلو في ذلك ، بين رياضة مُهيجة ، وأغانٍ ماجنة لا
تقدم ولا تؤخر ، أستغفر الله ، بل تؤخر وتؤخر ، بين تمثيليات لا تعود على
شبابنا إلا بتكريس الغرام الفاشل والحب الذي لا ينبت قلباً نظيفاً ، ولا ينبت
عقلاً لطيفاً مفكراً ، ولكنه يؤثر سلباً على القلب والعقل ، ويعيش الناس على
أساسه في حبٍ ليس له نهاية ولا بداية ولا طعم ولا رائحة . شبابنا ضيعتهم بعض
وسائل الإعلام ، ضيعهم الموجهون الشكليون المزيفون ، ضيعهم آباؤهم إذ دللوهم
زيادةً على ما يستحقون ، ضيعتهم أمهاتهم إذ لم يعدن ينتبهن لبيوتهن ، والواحدة
منهن أضحت تهتم بشكلها أو حتى بدينها لكنها لا تهتم بدين أولادها أو بناتها ،
فالمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها . أقول هذا الكلام لعله يكون
دعوة لأبنائنا الشباب ، لطلابنا ، لأجهزة إعلامنا من أجل عود حميد إلى التدين ،
إلى تدين الفكر حتى يدور العقل في فلك القرآن الكريم ، إلى تدين اللسان حتى
يتخلى اللسان عن الفحش وحتى ينعم اللسان بالذكر وتلاوة القرآن الكريم والصلاة
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعلم النافع ، أقول هذا من أجل دعوة إلى
تدين القلب ، حتى يكون القلب مفعماً بالإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه
ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، وكذلك حتى يكون القلب مفعماً بمحبة
الله ومحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، لعل ذلك يكون دعوة .
تدين في السلوك من أجل أن يكون شبابنا عابدين حقاً ، من أجل أن يعطي شبابنا
العبادة حقها ، من أجل أن يعملوا صالحاً ، من أجل أن يتجلببوا بجلباب الحياء .
هذا هو التدين المنشود . أرأيتم – يا إخوتي – إلى تدين في اللسان ، وإلى تدين
في القلب ، وإلى تدين في السلوك ، وإلى تدين في العقل كل هذا يسمى بكلمة واحدة
وبمصطلح واحد يسمى الاستقامة
﴿
فاستقم كما أمرت ﴾
قل لي يا رسول الله قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ؟ قال : " قل آمنت بالله ثم
استقم " نحتاج إلى مستقيمين في مجتمعنا حتى نأنس بمجتمعنا ، ما أجمل كلمة
مستقيم إذ تو صف بها أيها الشاب ، أرأيت إلى كلمة أفضل من هذه الكلمة ؟ هل هناك
كلمة أجمل من هذه الكلمة حين توصف بها ويسأل عنك ليقال عنك بأنك مستقيم .
اللهم اجعل شبابنا مستقيمين ، واجعل حكامنا مستقيمين ، واجعل القائمين على
وسائل الإعلام مستقيمين ، واجعل يا رب نساءنا وبناتنا مستقيمات ، واجعل موجهينا
ومثقفينا وطلابنا وأساتذتنا ومعلمينا وكل أولئك الذين يعملون في زوايا هذا
المجتمع ، اللهم اجعلهم مستقيمين متدينين يا رب العالمين ، نعمَ من يسأل أنت ،
ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول واستغفر الله .
التعليقات