" تلك كلمات مستخلصة من تجارب
وعبارات صاغتها معاناة ، عشت بعضها بنفسي ، وتلقيت بعضها الآخر عن تجارب غيري ،
وأنا في كلا الحالين راصد ، أبتغي في النهاية خدمة ، وخدمة الإنسان دأبي ، وأجمل
الخدمة اختصار مسافات الحياة بمستوياتها في ثوب كلمة ناصحة منصوحة ، لقد كتبت عقب
كل حوار كلمة ، وسجلت بعد كل درس عبارة ، ووضعت في صفحتي الخاصة بعد كل معاناة
خلاصة ، ولطالما عدتُ من سفر طويل فيه ضنى ببعض حروف ملونة بألوان حكمة ، أودعتها
هذه الأوراق " .
هذه الكلمات بعض ما جاء في مقدمة المؤلف الدكتور الشيخ محمود عكام . وقد جاءت هذه
العصارات عبر كلمات أرسلها دون مراعاة لتبويب أو تسلسل في موضوع ، بل كانت متداخلة
فيما بينها تداخل مواضع الحياة ، ممتزجة تمازج ساحاتها . وهي تظهر لنا المؤلف كل
مرة في صورة مختلفة - دون تناقض فيما بينها - فمرة نراه فقيهاً وتارة أديباً وأخرى
صاحب ذوق وعرفان ورابعة سياسي وخامسة فيلسوف ، لكنها في جميعها لا تخرج عن إطار
المصلح . فالإصلاح هو الصفة الضابطة الجامعة التي تسير معك في الكتاب من ألفه إلى
يائه .
وهو يقول عن ذلك : " نحن مصلحون ، نسعى لرسم المحيط الأوسع لدائرة الإسلام ، وتثبيت
مقوماته ، من خلال لغة التخاطب الإسلامية وتبيانها ، وتوضيح صيغة التعايش فيما بين
مَن هم ضمن الدائرة ، ورسم ملامح صيغة التعايش فيما بين من في الدائرة ومن هم
خارجها " .
ومسيرة الإصلاح هذه تتجه إلى :
أولاً : محو الفضول عن الإسلام : ونفض التراكمات والطبقات الكثيفة التي ألصقت به
وهي ليست منه ، والعودة إلى بساطته وإطلاق الاجتهاد المنزه عن قيود التقاليد أو عن
رد الفعل والتبرير .
- نسف العقلية الخوارقية التي هي علة التخلف وبذرة الانحطاط وبها يتعطل العلم
والعمل والجهاد ، فهي دعوة إلى التقاعس عن طلب العلم وانتظار الفتح الإلهي " نحن
شعب ينتظر الخوارق ولا يسعى لفهم الحقائق " .
- إعطاء العادات والتقاليد مكانتها الطبيعية : فلا يمكن لها أن تأخذ مكان غيرها : "
حلت العادة محل الفكر في اختراق النص ، فأُجبرنا على قبول اختراقاتها ولم نعش
اختيار اختراق الفكر فصرنا مبررين لاهثين ، واكن علينا أن نكون مفكرين منظرين "
ولولا سيطرة روح التقاليد لما كان لهذه العادات من حاكمية وسلطان ، ولما قام لها
بناء وأركان ، من أجل ذلك رأينا مؤلفنا ينادي في عصاراته : " إننا اليوم بحاجة إلى
صياغة إسلامية جديدة ، ننسجها بمغازل عقولنا لا بمغازل عقول الآخرين ، أم إنه لا
يحق لنا أن نقوم بما قام به أصحاب القرون الأولى ، أم إن ما قالوه ثابت لا يجوز
تعديه " .
- أما التبرير الذي ننتهجه بدل التفكير : فقد حدَّ الدكتور محمود عكام له حدوده : "
التبرير فكر ردة الفعل، والتفكير فكر الفعل ، الأول جامد والثاني متطور متجدد بحسب
الفعل ، الأول سلبي منفعل والثاني إيجابي فاعل ، الأول شتم ، والثاني نقد ، وتتبع
السقطات فقط تبرير ، ومثله إظهار الحسنات دون غيرها " فالتبرير عملية تجميل واهية
لوجه الواقع المشوَّه ، من خلال تجنيد النص ووقائع التاريخ لإسدال الشرعية على
الفكر أو الشخص أو العمل . ودوافع التبرير : إما الرغبة سعياً وراء الجاه والمال ،
أو الرهبة خوفاً من سخط الرقيب الديني والاجتماعي والسياسي .
ثانياً : رد الاعتبار للإنسان : قيمة ومعنى ووجوداً وحرية ، ففجر الحضارة لا يبدأ
إلا ببزوغ شمس الإنسان ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) وإنها - أعني
الحضارة - لقريبة جداً من الأفول والزوال يوم يضيع فيها معنى الإنسان أو يفقد من
قداسته وبهائه ، وهذا ما أصاب الحضارة الإسلامية ، فقد انتهت منذ الحين الذي فقدت
في أساسها قيمة الإنسان ومعناه . وإن العالم شرقه وغربه يضج من المآل المظلم الذي
ينتظر الإنسان ومن النهاية المرعبة التي تترقبه ، وربما كان همُّ رد الاعتبار إلى
الإنسان هو أكبر الهم في عصارات ، ويلاحظ المؤلف أن هذا الضياع يبتدأ في بلادنا منذ
الطفولة فنحن : " نستكثر على أطفالنا اهتماماً جاداً ، ونستكثر أن نفرِّغ لتعليمهم
وتربيتهم حامل إجازة أو ماجيستير أو دكتوراه ، فالطفل عندنا لم يزل دمية ، وليس
إنساناً تتكون منه المجتمعات " .
ولا يكتفي بالإشارة إلى المأساة التي تلف إنساننا فحسب ، بل يحاول أن يؤصل لنظرة
جديدة من خلال :
- تعريف الإنسان ، فليس الإنسان حيواناً ناطقاً أو متمرداً أو عاشقاً فحسب ، وليس
كذلك ذا إرادة أو اختيار أو وعي فقط ، لكنه فوق ذلك كله مخلوق ذو أمانة وتكليف
وتشريف . فالإنسان : كائن حي موجود بالاضطرار متميز عن بقية الكائنات الحية بآلية
المعرفة وقدرة الاختيار ، أُهِّل بهذا للتكليف فكان الأول في النوع خلقاً ومكانة من
حيث التصنيف .
- وظيفة الإنسان : " يريد الإسلام من الإنسان أن يكون : إنساناً تأهيلاً ووصفاً
ليعكس مسؤولية ، فلا مسؤولية دون إنسان . وعبداً : تحققاً ووصولاً ينعكس عن معرفة
ودراية. وخليفة : وظيفة وسعياً وقياماً ينتج عن إعلان الحاكمية لله والولاء له .
فماذا يريد غير الإسلام من الإنسان ؟؟
- إعادة تأسيس المعاني التي يحيا بها الإنسان : " الإنسان مجموع قضايا يعيشها ، ومن
لا قضية له يعيشها فهو والميت سواء ، فاشرح لي قضيتك حتى أعرف من أنت " .
ومن المفاهيم والمعاني التي نفض عنها الغبار : الروحانية ، الحاكمية ، الصبر ،
الدين ، الإبداع ، الثقافة ن التربية، التوازن ، الحرية ، الوعي ، السعادة ، التمسك
والتماسك ، التقوى ، الصوفية .... الخ .
وما أجمل هذا الدعاء الذي ختم به :
اللهم متع لساني بذكرك ، ومتع عقلي بمعرفتك ، ومتع قلبي بمحبتك ، ومتع جوارحي
بطاعتك ، جسمي بعافيتك .
التعليقات