آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


لطيفة قرآنيــــة

   
فلا صدق ولا صلى

فلا صدق ولا صلى

تاريخ الإضافة: 2007/06/22 | عدد المشاهدات: 5635

بعد أن شرحنا قوله تعالى:﴿والتفت الساق بالساق* إلى ربك يومئذٍ المساق﴾، وقلنا بأن الآية﴿ إلى ربك يومئذٍ المساق﴾ هي جواب لأداة الشرط في الآية السابقة: ﴿كلا إذا بلغت التراقي﴾, فيصبح المعنى: ﴿إذا بلغت التراقي* وقيل من راق* وظن أنه الفراق* والتفت الساق بالساق﴾ إذا حصل كل هذا فـ﴿إلى ربك يومئذٍ المساق﴾. أي إلى ربك السوق، والنزوح، والالتجاء، والموئل والمرجع، والنهاية.

وكلمة (المَساق) هي مصدر ميمي من ساق يسوق، مثلاً عندما أقول: جلست مجلَس زيد. فكلمة(مجلَس) هي مصدر ميمي. أما عندما أقول: جلست مجلِس زيد. فكلمة (مجلِس) هنا اسم مكان. والمصدر الميمي يكون على وزن (مفعَل)، نقول: المصدر ميمي من كلمة (جلس): مجلَس، ومن كلمة(قعد): مقعَد، وكذلك المصدر الميمي من كلمة (ساق): مسوق، لأنه في علم الصرف عندنا: كلمة(مسْوَق) حرف السين فيها: هو حرف صحيح ساكن، وحرف الواو: هو حرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى من حرف العلة بالحركة، فنقلنا حركة حرف العلة والتي هي الفتحة إلى حرف السين فصارت (مسَوْق) وعندما صارت (مسَوْق) لزم أن نقلب حرف العلة إلى حرف علة مناسب للحركة، فقلبنا حرف العلة إلى حرف الألف، لأن الألف تناسب الفتحة، فأصبحت الكلمة (مساق)، بعد أن كانت (مسْوَق) ثم صارت (مسَوْق) ثم أصبحت (مساق)، وهذا ما نسميه في علم الصرف في اللغة العربية: الإعلال والإبدال. ولكن مَنْ هذا الذي سيساق إلى ربه ؟

الجواب: هو ذاك الإنسان الجاحد الذي قال عنه الله تعالى في الآيات السابقة: ﴿ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه* يسأل أيان يوم القيامة﴾ فهذا الإنسان الجاحد كان يَفجُر ويسأل مستهزئاً: أيَّان يوم القيامة ؟ وقلنا لكم: أن كلمة (أيّان) هي سؤال عن المكان والتاريخ، يعني: متى وأين.

وقد جاء توصيف هذا الإنسان الجاحد بصورة جميلة جداً في هذه الآيات ﴿فلا صدّق ولا صلّى* ولكن كذّب وتوّلى* ثم ذهب إلى أهله يتمطى﴾ هذا الإنسان الذي سيساق إلى الله، وبالتالي سيساق إلى النار.

لِمَ سيساق على النار ؟ لأنه ﴿فلا صدّق ولا صلّى...﴾. وفي اللغة العربية يستخدم فعل المضارع مع (لم) مثلاً: أقول: لم أحضر الاجتماع. لكن الله عز وجل وجل هنا استخدم فعل الماضي مع (لا) النافية، وقد قال علماء اللغة: إذا أردت أن تنفي فعلين متتاليين فلا تقل: لم أحضر ولم آكل ولم أشرب؛ وإنما قل: لا حضرت وأكلت ولا شربت. وهذا هو الأفضل والأصوب.

إذاً: هنالك فعلان يريد الله عز وجل أن ينفيهما عن هذا الإنسان، فاستخدم الفعل الماضي مع (لا) النافية ولم يستخدم الفعل المضارع مع (لم)، فلم يقل:(لم يصدق ولم يصلِّ) وإن كان هذا جائزاً في اللغة، وإنما قال﴿ فلا صدّق ولا صلّى﴾ لأن هذا هو الأفضل والأصوب والأقوى في اللغة.

﴿فلا صدّق﴾ في الله، ولا في القرآن، ولا في الرسول، ولا في يوم القيامة. وقد ظهر ذلك من خلال الآيات السابقة ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه* يسأل أيان يوم القيامة﴾.

﴿ولا صلّى﴾ وهذا أمر طبيعي، لأنه ما دام لم يصدق بالله فهو لن يصلي. وقد استنبط بعض العلماء من خلال هذه الآية: على أن الكافر مُطالَبٌ بالفروع. لكن هذا الاستنباط فيه خلاف بين علماء الشافعية والحنفية. فالشافعية يقولون: الكافر مطالب بالفروع، وبالتالي سيحاسب يوم القيامة على كفره وعلى تركه الفرائض، ودليلهم هذه الآية ﴿فلا صدّق ولا صلّى﴾. بينما الحنفية يقولون: بعد الكفر ليس هنالك ذنب ولا طاعة، فالكافر غير مطالب بالفروع ما دام كافراً بالأصول. لذلك أنا أفهم هذه الآية فهماً آخر وهو:

إن هذا الإنسان سيُساق إلى ربه وبالتالي سيساق إلى النار، والسبب لأنه ما صدق في القول ولا صلى في العمل. فهو ابتعد عن القول الصائب،  وبفعله ابتعد عن الصالح، فنفى عنه الصدق والصلاحية في قوله وفي فعله، ولم يكن في قوله صادقاً ولا في فعله صالحاً. وأجمل ما يُعبَّر عن السداد في اللسان هو الصدق، وأجمل ما يُعبر عن الصلاح في الفعل هو الصلاة. وليس المراد بالصلاة هنا الصلوات الخمس، وإنما المراد بها الصلة بين الإنسان وربه الذي خلقه، فهو بذلك يكون قد قطع نفسه عن الذي خلقه.

لم يقل الصدق لا فيما يخص العقيدة ولا فيما يخص الشريعة، ولم يبنِ الصلة الجيدة مع الذي خلقه، وإنما ﴿ولكن كذّب وتولّى﴾.

ولطن لم قال الله عز وجل:﴿ولكن كذّب وتوّلى﴾، وكان يكفي أن يقول:﴿فلا صدّق ولا صلّى﴾ فقط، لأنه يفهم من خلال هذه الآية أن هذا الإنسان قد كذب وتولى ؟! أي لماذا أكّد الله عز وجل الآية الأولى:﴿ فلا صدّق ولا صلّى﴾ بالآية الثانية ﴿ولكن كذّب وتوّلى﴾ فكانت كلمة (كذَّبَ) مقابل (فلا صدق) وكلمة (تولى) مقابل (ولا صلى)، أليست الآية الأولى كافية باعتبار أنها متضمنة لمعنى الآية الثانية ؟!

قال العلماء: لا يكفي. لأنني عندما أنفي بقولي (فلا صدق) فيحتمل أن هذا الإنسان قد شكّ أو قد سكت أو قد كذّب، لأن الذي يشك أو يسكت أو يكذب هو لم يصدق.

﴿فلا صدق﴾ فيها عموم، لأن هنالك احتمال الشك واحتمال السكوت واحتمال الكذب، لذلك جاء التخصيص بعد العموم: ﴿ولكن كذّب أي ما شكَّ وما سكتَ وإنما هو كذّب، و أيضاً هو ما أقام الصلةَ مع خالقه، وإنما أعرض وولَّى ظهره، فكلمة (كذّب) تعود على نفي الصدق، وكلمة (تولّى) تعود على نفي الصلة، ﴿فلا صدّق ولا صلّى*ولكن كذّب وتوّلى﴾ وهذا ما يسمى الاستدراك المخصص.

﴿ثم ذهب إلى أهله يتمطَّى﴾ وهذا الجاحد لم يكتفِ بأنه كذب وولّى ظهره وأعرض، ولكنه أيضاً ذهب إلى أهله متبختراً متباهياً بكذبه وتوليه وإعراضه، وهذا من أشنع الأفعال. وليس المراد بالأهل هنا الأب أو الأم أو الزوجة... وإنما المراد بها جماعته الذين تأهلوا معه بنفس التأهيل، فكانوا مثله وعلى غراره، لذلك سمي الأهل أهلاً: لأنهم تأهلوا نفس التأهيل الذي تأهلته أنت، فالكل متشابهون في التأهيل لأنهم من منبت واحد.

﴿ يتمطى﴾ وفي معناها قولان:

القول الأول: أن كلمة (يتمطى) أصلها: يتمطط، أي يمطط جسمه تبختراً وتكبراً.. وقُلبت الطاء الأخيرة ألفاً مقصورة من أجل التخفيف، لوجود ثلاثة طاءات (الطاء المشددة والطاء الأخيرة).

القول الثاني: أن كلمة (يتمطى) أصلها: من المطى، و(المطى): هو الظهر، فالظهر يسمى: مطى، لأنه يطوى ويلوى، فالفعل (يتمطى) أصله: مطو، و(مطو) تعني: لفَّ ظهره. وهو كناية عن التبختر والتكبر والمباهاة.

وأغلب المسلمين اليوم يتمططون ويتمطون تجاه بعضهم البعض، وهنالك أيضاً من يتمطط ويتمطى على الإسلام ويتهمه بالتخلف... وقد أوصى سيدنا لقمان ابنه في قوله تعالى: ﴿ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور* واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير﴾.

وهذا الإنسان الجاحد ذهب إلى أهله يتمطط أو يتمطى، على كلا القولين فإن المعنى واحد:

وهو أن هذا الإنسان يتمطى ويتمطط إعجاباً وعجباً بنفسه واحتقاراً واستهتاراً لغيره، إعجاباً وعجباً بنفسه لأنه لا صدّق ولا صلّى ولكن كذّب وتوّلى، واحتقاراً واستهتاراً للذي صدّق وصلّى...

أرجو الله عز وجل أن يجعلنا ممن صدّق وصلّى، وأن لا نكون ممن كذّب وتولّى، ولا ممن يأتون أهلهم وهم يتمطون أو يتمططون... على كلا اللغتين، وأرجو الله أيضاً أن يجعلنا من أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.                                                                                            

 

التعليقات

محمد المعصومي.

تاريخ :2010/05/20

" فلا صدق و لاصلى " أي أنه لم يكتف بعدم تصديق الرسول فيما جاء به ، ولا بعدم إقامة الصلوات . " ولكن كذب وتولى " أي ولكنه زاد على ذلك الانحراف بأنه كذب الرسول فيما أخبر به ، وأعرض عن دعوته بالكلية ، فكان جامعا بين هذه الجرائم كلها ، لأن عدم التصديق لا يلزم التكذيب ، فقد لا يصدق الرسول في قرار نفسه ، لكنه لا يعلن تكذيبه أمام الناس ، وقد لا يؤدي الصلوات ولكنه لا يظهر للناس إعراضه عن الصلوات لعدم إيمانه بها ، واستهزائه بها .فكأن هذا الصنف من الناس ضال في نفسه ، ومضل لغيره .، فجمع بين الضلال ، والتضليل . والله أعلم بالصواب .

شاركنا بتعليق