آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
سبلٌ للخَلاص من المحن

سبلٌ للخَلاص من المحن

تاريخ الإضافة: 2009/01/16 | عدد المشاهدات: 2999

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

لا شك في أننا نعيش محنة، ولا شك في أن الابتلاء يلفُّنا، ولا شك في أن الشدة تمطرنا بوابلها الشديد الصيّب، ولا شك أننا نشعر بضرورة الجدّ في السعي للبحث عن خلاص من هذا الذي نحن فيه، كيف نرفع عنا الشدة وكيف ننجو من هذه المحنة بأمان وسلام ؟

أنا لا أريد في هذا الأسبوع أن أحدثكم عن كل الأمور التي يجب الحديث عنها والتي تُشكل سبلاً للخلاص من المِحَن التي ألمَّت بنا، لكنني سأتناول قضية أساسية هي سبيل من هذه السبل، سأتناول قضية أساسية تلمَّستها في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لن أتحدث عن كل السُّبل من أجل أن أقول للآخرين الذين ربما يعترضون: هل هذا الذي تتحدث عنه هو السبيل الوحيد ؟ لذلك قلت سَلفاً: سبيلٌ من السُّبل، ومن السبل المعنوية، لأن القوة التي أُمرنا بإعدادها قوتان: قوة مادية وقوة معنوية، وهنا في المسجد يحسُن أن نتحدث عن القوة المعنوية لأن المسجد من أجل تكوين وترسيخ وتعميق القوة المعنوية.

كنا نسمع ونحن صغار من شيوخنا الأجلاء كلمة، هذه الكلمة هي: إذا أردت الخلاص فعليك بالإخلاص. وكانوا يقولون: "الإخلاص سر الخلاص". والإخلاص واجبٌ على كل واحدٍ منا، وعندما نتحدث عن الإخلاص نتحدث عن سبيلٍ للخلاص من الشدائد التي ألمّت بنا. هذه السبيل هي واجبٌ عليكَ أنت أيها الإنسان المسلم أينما كنت ومَن كنت، وهي بالتالي بمُكنتك أنت، حينما أتحدث عن سبيلٍ للخَلاص من المحن يتعلق بالسلاح ربما قلتَ لي بأنك لا تستطيع أن تحمل السلاح وأنت الآن مُبعَد عن أن تكون حاملاً للسلاح، وإن تحدثت عن سبيل الخلاص على أنه من جملة السبل على أنه المجاهدة والمقاومة والقتال، كان الجواب ذاك الجواب الذي قلته لي عندما تحدثنا عن السلاح، وهكذا دواليك...

أما حينما نتحدث عن الإخلاص، فإننا نتحدث عن واجب عيني على كل واحدٍ منا ونتحدث عن أمرٍ هو بمقدورك، وبهذا السبيل تُساهم أنت في رفع الشدائد والابتلاءات والمحن عن الأمة وعن إخواننا بشكلٍ خاص في فلسطين وفي غزة.

الإخلاص هو الذي نجا هؤلاء الثلاثة كما ورد في صحيح البخاري ومسلم ولا أريد أن أسرد عليكم الحديث بكلماته وألفاظه، لكنني أقوله لكم بمعناه على شكلٍ سريع، الإخلاص كان سبيلاً لنجاة أولئك الثلاثة الذين آواهم الغار، وعندما دخلوه وقعت صخرة على باب الغار فسدّت الغار، ووقع هؤلاء الثلاثة في محنة، وكلنا تقريباً يعرف القصة، وقعوا في محنة، فالصخرة كبيرة وباب الغار قد سُدَّ، وهم في شدة ما بعدها شدّة. الموت ينتظرهم خنقاً، ولا أمل لهم، فكَّروا فيما بينهم وبين أنفسهم ما الذي يُخرِجهم من هذه الشدة ؟ قالوا وكأنهم متفقون على هذا القول: لا ينجينا من هذا الذي وقعنا فيه إلا ان يذكر كل واحد منا عملاً أخلص فيه لله عز وجل، لم يتوجه فيه إلا لله، على كل واحد منا أن يذكر عملاً أخلص فيه بالمئة مئة لله عز وجل. قال الأول: اللهم إني كان لي أبوان... ولا أريد ذكر ما قال، فالقصة موجودة في كتب الحديث، وفي رياض الصالحين، وفي أي كتاب يتحدث عن القيم والمبادئ والأسس الإيمانية. بعد أن ذكر الأول قصته المتعلقة ببر الوالدين والتي أدعوكم أن تقرؤوها في مظانِّها ومصادرها قال - وهذا ما يهمني -: "اللهم إن كنت قد عملت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه". فانزاحت الصخرة عن مخرج لا يتسع لهم للخروج. قام الثاني وقال: اللهم إني كانت لي ابنة عم... وهذا تحدث عن عملٍ يتعلق بالعفة. وأنا أناشدكم يا شبابنا أن تتحلوا بالعفة، فالعفة حينما تكون مُعنوَنة بالإخلاص فإنها سبيلٌ للنجاة، فإنها سبيلٌ للنصر. وقال بعد أن ذكر حديثه: "اللهم إن كنت قد عملت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه". فانفرجت الصخرة عن قدرٍ لا يتسع من أجل أن يخرجوا منه. قام الثالث فقال وتحدث عن عملٍ عمله يتعلق بالأمانة، الأول عن بر الوالدين، الثاني عن العفة، الثالث عن الأمانة، ولعل في هذا إشارة من أجل أن نتحلَّى جميعاً ببرّ الوالدين، بالعفة، بالأمانة، على أساس أن تكون هذه القيم ونحن نتحلى بها خالصة لوجه الله عز وجل، لا نريد من وراء هذا التحلي إلا أن نرضي ربنا. ثم قال بعد نهاية عرض قصته: "اللهم إن كنت قد عملت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه". فانزاحت الصخرة وخرج الجميع.

الإخلاص منجاة من الشدائد، أطالبك يا أخي وأطالب نفسي حينما تصلي، هل تصلي مخلصاً لربك أم تصلي وصلاتك فيها شوائب وكدورات ؟ تريد بصلاتك أن يرى الآخرون صلاتك، هل تقدّم المال لإخوانك في غزة من أجل أن يُسجل اسمك أمام الناس على أنك دفعت أم أنك تريد بهذا التعاون المادّي أن يرضى ربك عنك وأن يقبل ربك منك ؟ هل تريد بشكل عام من لحيتك هذه الذي تطلقها أن يجاملك الناس على أساسها وأن يقولوا عنك مُتبعٌ للسنة أم أنك تقول يا ربي حسبكَ أنك مقصودي وأنك مبتغاي ورضاك مطلوبي ؟ هل أنت في قضائك الذي تقضي به، في فتواك التي تُفتي بها، في عملك الذي تعمله، في طبّك، في دراستك، في كل شؤونك، هل تبحث عن الإخلاص ليكون العمل خالصاً لوجه ربك الذي أمرك بهذا، ولسان حالك يقول: يا رب يا رب يا رب أعملُ هذا ابتغاء وجهك، أعمل هذا من أجلك يا رب ؟ أنا اسعى من أجل أن ترضى عني.

إنا نُقاتل كي يرضى الإله بنا         ولا نقاتل كي يرضى بنا عُمر

هل تفعل هذا ؟ الإخلاص في عملكم وصلواتكم وزكواتكم وصدقاتكم وحكمكم وإدارتكم وبذلكم وعطاءاتكم وعلمكم وتعلمكم وتعليمكم وحكمكم أيها الرؤوساء، أيها الوزراء، نريد مخلصين، فالإخلاص مَنجاة من الشدائد، والإخلاص سرُّ الخلاص، فما الإخلاص ؟

الإخلاص كما قال سهل التستري: "أن تكون حركات العبد وسكونه لله تعالى خاصة". اللهم إني أتحرك لك وأسكن لك، اللهم إني لا أنظر إلى أحدٍ سواك، اللهم إني لا أبتغي من وراء عملي هذا إلا وجهك، اللهم إني لا أريد إلا رضاك.

وقال أحد التابعين: "المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته". لا تحدثني عما فعلت من حسنات، حدّث بها ربك، وتحديثك ربك أن تقول في سرّك: تقبّل مني يا رب. ولا يتقبل ربنا إلا العمل الصالح الذي ابتغيت به وجهه، (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه) هكذا قال سيدي وقائدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيآته، فهل أنت تفعل هذا بالله عليك ؟ ضع هذا المعيار بينك وبين نفسك، فهل تكتم حسناتك كما تكتم سيآتك أم عل العكس فإنك تنشر حسناتك وتكتم سيآتك، بل إنك بالنسبة للآخرين تكتم حسنات الآخرين وتنشر سيآتهم. والإخلاص أن تكتم حسناتك كما تكتم سيآتك، وأن تنشر حسنات الآخرين وأن تكتم سيآتهم. هذا هو الإخلاص. لذلك قال معروف الكرخي: يا "نفس أخلصي تتخلصي".

أرأيتم إلى أن الإخلاص واجب وفرض، والله عز وجل دعانا في القرآن، دعانا إليه دعوة جازمة أكيدة: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ أنت في كل حركاتك وسكناتك صاحب دين، فما عليك إلا أن تتوجه إلى ربك بنيتك. قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسيدنا أبي موسى الأشعري: "من خلصت نيته بينه وبين ربه كفاه الله ما بينه وبين الناس".

يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رب العزة جلت قدرته كما جاء في صحيح الإمام مسلم: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) تريد أن تتصدق ليُقال عنك بأنك متصدق (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

الإخلاص واجب وفرضٌ عيني علينا، وبالتالي ما هو في مقابل الإخلاص المراءاة، والمراءاة تُفسد العمل وتُفسد المجتمع وتُفسد العلائق وبالتالي: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمَنِّ والأذى﴾ قال لي أحد الشيوخ في أحد المساجد: جمعنا والحمد لله المبلغ الفلاني. قلت له: ما يهمني هذا. قال: تكلمت والحمد لله فحثثت الناس فتبرع الناس. قلت له: لا تقل هذا وإنما قل تفضل ربنا علينا لأن الله من فضله عليك أن خلق ونسب إليك، لو أنه تُبرع عندك في المسجد مبلغ زهيد أكنت قائله ؟ قال لي: لا. قلت له: لا تقل هذا، وقل نسألك يا رب أن توفقنا لعملٍ يرضيك.

لا نريد أن نعيش الرياء في عملنا الخيري، ولا نريد أن نعنون بالرياء عملنا لوطننا لبلدنا لأمتنا ولا نريد أن نتحدث عن عملٍ فعلناه حتى لا نُكتب في عداد أولئك الذين أبطلوا أعمالهم بالمن والأذى، أبطلوا أعمالهم بالمراءاة: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).  عملتَ من أجل أن يُقال فقد قيل أما إذا عملت من أجلي أنا فاكتم لأنني أعلم وأنا أقرب إليك من حبل الوريد، وأنا اعلم ما توسوس به نفسك، لهذا اكتم يا أيها الإنسان حتى يبقى الأمر خالصاً لوجه الله.

الحديث الصحيح المعروف بأن أول ما يقضى عليه رجلٌ استشهد وهذه قضية خطيرة، تصوروا رجلاً قاتل في الدنيا واستشهد، ثم بعد ذلك كانت خاتمته النار، استشهد وقاتل وأسال دمه كانت الخاتمة النار لماذا ؟ لأنه كما سنقرأ الحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جريء. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ في النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ في النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ في النَّارِ). تُرى هل هذا ظلمٌ من الله عز وجل ؟ لا ورب الكعبة وحاشاك ربي، ولكن هذا عدل، فقد قال لك ربك في الدنيا اعمل عملاً خالصاً لي، وبالتالي إذا أخلصت لي فأنت من المقربين، أنت من المُصطَفين، أنت ممن أُحِلّ عليهم رضاي، أنت ممن أعطيه ما أعطي أصفيائي وأحبائي وأنبيائي ورسلي.

بكل بساطة أقول في النهاية: جاء في البيهقي عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المخلصون، أولئك مصابيح الهدى) أيها المقاتلون، أيها المنفقون، أيها المسؤولون عن الفصيل الفلاني أو الفصيل الفلاني، أيها الحكام للبلد هذا أو للبلد ذاك: (المخلصون، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء) إذا أردتم أن تنجلي عنكم الفتن لتبقوا مصابيح تضيء هذا الذي خيَّم علينا من ظلام فما عليكم إلا أن تسلكوا طريق الإخلاص لخلاص نطلبه وننشده.

فيا أيها الناس كافة على اختلاف توجهاتكم ومناصبكم: الإخلاصَ الإخلاص، (المخلصون أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء)، وقد قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن وقال له معاذ: يا رسول الله أوصني. قال له سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخلص دينك يكفك العمل القليل).

وبشارة في النهاية من سيدي رسول الله للمخلصين، يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته له لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض). أتريدون أن يرضى ربكم عنكم وعنا ؟ إذن فلنسعَ للإخلاص مع العمل الصالح حتى لو كان لو كان هذا العمل الصالح قليلاً، فقليل العمل الصالح مع الإخلاص عملٌ كبير وجهدٌ كبير، هكذا قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخلص دينك يكفك العمل القليل).

اللهم وفقنا لإخلاصٍ ولخلاص من هذا الذي ألمّ بنا، اللهم وفق شباب أمتنا ونساء أمتنا ودعاة أمتنا وحكام أمتنا بشكل خاص إلى الإخلاص من أجل أن تكون أعمالهم صحيحة وخالصة لك يا رب، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 16/1/2009

التعليقات

شاركنا بتعليق