آخر تحديث: السبت 20 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الصلح والصَّلاح والإصلاح

الصلح والصَّلاح والإصلاح

تاريخ الإضافة: 2009/02/20 | عدد المشاهدات: 3081

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

لا شك في أننا سنتابع الحديث عن مجتمعنا وعن أنفسنا وعن علاقتنا بالمجتمع الذي نعيش فيه، تحدثنا عن صفات المجتمع الذي نبتغيه منذ أمدٍ غير قريب، وتحدثنا عن علاقات المسلم بالفرد مع من حوله ابتداءً من ربه وانتهاءً بمجتمعه بشكلٍ عام، ولا زلنا نحبّذ من أنفسنا ولأنفسنا ومن الآخرين وللآخرين حيثما كانوا يخطبون أن نتحدث ويتحدثوا عن المجتمع، عن النواحي الاجتماعية، وإني لأناشد نفسي وأناشد كل المتكلمين على المنابر أن يضعوا همَّهم مجتمعهم، وأن يعدلوا عن حديثٍ في سياسة لا طائل تحتها، وأن يعدلوا عن حديثٍ لا يمت إلى واقعهم الملامس لهم بصلة، فما أحوجنا في مجتمعنا الذي نعيش فيه أن نتحدث عن أمراضنا، إلى أن نتحدث عن واقعنا، عما يجب أن نتحلى به لننهض بواقعنا لننهض بمجتمعنا لننهض بأنفسنا، ما أحوجنا إلى الحديث عن حالنا نحن هنا في بلدنا ولا سيما أن من يتوجه إلى معرفة ما يجري في مجتمعه الذي نعيش فيه سيرى أشياء وأشياء وربما بعد رؤيته بكى واستبكى وحزن وتألم لأن ما سيراه لا يمكن أن يكون مرضياً، الخصومات متفشية والعداوات مستشرية والحقد بين الناس لأتفه الأسباب يعمل عمله، والحسد على أوجه، والعلاقة التي تعنون بعنوان التنازع لا تزال هي الجسر المتهرئ الذي يصل بين الناس.

أنا أقول لكل واحد منا اليوم هل أنت في سلمٍ وأمانٍ وسلامٍ من عداوة مستقرة في داخلك نحو أخ لك، قريبٍ لك، جارٍ لك، صديقٍ لك، زوجةٍ لك، زوجٍ لك، ولدٍ لك، والدٍ لك ؟ هل أنت في أمنٍ وأمان من شقاقٍ فيكَ أنت نحو غيرك نحو هذا الذي يسكن بجانبك ربما أو ربما هذا الذي يعمل معك في نفس الدائرة أو نفس المعمل أو ربما كان المسؤول عنك بينك وبينه كما يقال - ما صنع الحداد - لماذا ؟ لماذا نلتفت عن شؤوننا الخاصة بنا ونحاول أن نتحدث عن أمرٍ لا ينفعنا ولا يضرنا إن لم أقل يضرنا ولا ينفعنا ؟ لماذا لا نتحدث عن أشياء إن تحدثنا عنها كانت الإفادة حاصلة أكيدة ؟ ولماذا نتحدث عن أشياء لا أعتقد أنها تفيدنا لا من قليلٍ ولا من كثير ولا من قريبٍ ولا من بعيد ؟ خلاصة ما أريد أن أتوجه به اليوم إليكم هو: أن ننظر إلى أنفسنا على أننا نبتغي الصلح والصلاح والإصلاح، ضع عنواناً لنفسك أيها الإنسان المسلم في هذا البلد مَنْ كنت في أي مرتبةٍ كنت بدءاً من رأس الهرم وانتهاءً بالقاعدة لهذا الهرم، ضع عنواناً وأنا لك ناصح وهذا ما أنصح به نفسي قبل أن أنصح به غيري، أقول لك: ضع عنواناً من أجل ان تجعله ورقة عمل تحققه على أرض الواقع هذا العنوان مُشتقٌ من كلمة تقوم على ثلاثة أحرف تقوم على: الصاد واللام والحاء: الصلح. ومن منا لا يريد أن يكون ذا صلحٍ وصلاحٍ وإصلاح ؟

دعوني من أجل أن أتحدث عن معنى الصلح الذي أريده حتى لا تبقى الكلمة عامَّة غائمة، أعني بالصلح: إنهاء الخصومة وأعني بالصلاح: العدول عن الفساد، واعني بالإصلاح: إزالة الفساد، كما أعني بالإصلاح أمراً خاصاً ربما يندرج تحت إزالة الفساد أعني به إصلاح ذات البين.

فنحن أمام كلمات ربما كانت بسيطة، نحن أمام صلح وصلاح وإصلاح بشكلٍ عام وأمام إصلاح لذات البين.

الصلح: إنهاء الخصومة. هل أنت في خصومة مع غيرك ؟ هل أنت في خصومة ولو كانت هذه الخصومة بسيطة مع جارك، مع زوجتك، مع شعبك، أيها الرئيس، أيها الوزير، أيها المدير، لا أريد دائماً أن أقف عند مخاطبة فردٍ واحد ولكنني أريد أن أذكر كل الألقاب وكل الكُنى وكل الصفات وكل السِّمات وكل المراتب وكل المستويات، هل أنت في خصومة مع نفسك مع جارك مع ولدك مع تلميذك مع أستاذك مع والدك مع أمك مع ابنتك مع أخيك مع شعبك مع موظفيك مع عمالك ؟ وأعتقد أن جميعنا في خصومة وكما قلت سواءً أكانت هذه الخصومة قليلة بسيطة أم كثيرة معقدة، فاسعَ من أجل أن تكون مُنهِياً لهذه الخصومة، أنهِ الخصومة بينك وبين من بينك وبينه خصومة.

أما الصلاح فيعني: العدول عن الفساد. انظر الطريق التي أمامك هل هذه الطريق معنونة بالفساد ؟ إذن اعدل عنها لا تقترب منها، اترك مجالات الفساد يا أيها الطالب، عليكَ بالتنحِّي عن الفساد ومساراته، عليك بالتنحي عن الفساد وطرقه، عليك بالتنحي عن الفساد وذرائعه التي تؤدي إليه، عليك بالتنحي عن كل ما عنون نفسه بالفساد سواءٌ أكان هذا الفساد بالمال أو بالأخلاق أو بالحياة أو بالملبس أو بالمأكل أو في المشرب أو في كل مجال من مجالاتٍ أنتَ تعيشها، ربما لا أعرفها ولكنك تعرفها باعتبارك تعيش فيها، عليكَ بالتنحي عن مسارات الفساد، ولئن سألتني ما الفساد ؟ فإنني أحيلك على قلبك لأن قلبك وعقلك يعرفان الفساد: (استفتِ قلبكَ، وإن أفتوك وأفتوك) أرأيت إلى هذا الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الترمذي وأبي داود، قال له النبي جئت تسأل عن البر ؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في نفسك وتردَّد في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك) لئن سألتني عن الفساد فإنك تعرفه وأنا أعرفه، للفساد رائحته، للفساد لونه، للفساد نذيره، للفساد مجاله، للفساد طاقته وهالته، كما أن للصلاح أيضاً كذلك. فهيا إلى الصلاح، والصلاح عدولٌ عن الفساد.

ثم بعد ذلك ضع لنفسك عنواناً أيضاً مشتقاً من نفس جذر الكلمة (الإصلاح) أن تصلح الفساد، لكنني لا أريدك أن تستعجل في الإصلاح قبل أن تتمكن من الصلاح، فكثيرون أولئك الذين استعجلوا الإصلاح قبل أن يتمكنوا من الصلاح وقبل أن يتمكن الصلاح منهم فأفسدوا وكانوا يظنون أنهم يصلحون، ذلك بأنهم استعجلوا الإصلاح قبل تمكن الصلاح، عليك نفسك، فتش عن معايبها وخلِّ عن عثرات الناس للناس، الزم نفسك، لا تُكلَّفُ إلا نفسك، انظر نفسك هل أنت صالح قبل أن تكون مُصلحاً، مالي أرى الناس يقفزون إلى مرتبة الإصلاح غير عابئين بمرتبة الصلاح، مالي أرى الجميع موجِّهين ؟ مالي أرى الجميع يتحدثون عبر التلفاز وعبر الجلسات العامة والخاصة وعبر المساجد وعبر اللقاءات يتحدثون عن إصلاح ؟ كلنا نصّب نفسه مُصلِحاً لكنه ما التفت أبداً من أجل أن يكون صالحاً، هل أنت صالح في داخلك ؟ هل أنت صالحٌ في سريرتك ؟ هل أنت صالحٌ في أملك في تطلعاتك، فيما تريد أن تكون عليه في كل هذه المسارات التي تنسب إليك ؟ بعد ذلك انتقل إلى الإصلاح.

وأما الأمر الرابع الذي خصصناه بالذكر من إزالة الفساد فهو إصلاح ذات البين، وهذه هي مشكلة المشاكل، بينك وبين أخيك إِحَن، بينك وبين جارك عداوات، وإن لم تكن العداوات كبيرة لكنها مشروع عداوات، لكنها مشروع شقاقات، بينك وبين حكومتك شقاق شئنا أم أبينا، بينك وبين جارك لا أقول ما صنع الحداد، ولكن أنت وإياه تقفان على شفا جرفٍ هارٍ من الفساد في العلاقة فيما بينكما، ما أعتقد أن صلاح ذات البين بيننا هي الحاكمة، حتى ولو كان هنا وهناك نماذج مجسدة لها إلا أن العام يمكن أن يكون تحت إطار ما يسمى بفساد ذات البين، أتريدون أن تستمعوا إلى نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى ما قاله في هذا الشأن ؟ وقف سيدنا المصطفى معلمنا، أنتم تقرون بذلك، قفوا أمامه ولنقف جميعاً أمام حضرته صلى الله عليه وآله وسلم لنتعلم، وقف أمام ثلة من الصحابة، وهذه الثلة ستخبر ثلة أخرى، وهكذا إلى أن وصل الأمر إلينا كما جاء في الترمذي وأبي داود قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) التي تحلق الدين والأخلاق والتطور والحضارة والتقدم والقوة والمنعة والعزة والرفعة والمجد، وفي رواية زادها الترمذي: (لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) وقد قلت في البداية إن فساد ذات البين مُستحكمة فينا، وبالتالي فهي تحلق آمالنا في الحضارة والرقي والتقدم والقوة والعزة والمنعة: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة) هل بينك وبين إخوتك وأقربائك وجيرانك وشعبك وضباطك وعسكرييك، هل بينك وبين هؤلاء جميعاً يمكن أن نسميه بصلاح ذات البين أم بفساد ذات البين ؟ أنا أقول عنكم بالوكالة: هذا الذي بيننا هو فساد ذات البين، واسألوا أنفسكم فإنكم ستقرون معي بهذا الذي نقول، يا هؤلاء ضعوا عنوانَ الصلح والصلاح والإصلاح وإصلاح ذات البين فيما بينكم عناوين لكم، سل نفسك صباح مساء هل تسعى لصلح ؟ هل تسعى لصلاح ؟ هل تسعى لإصلاح ؟ هل تسعى لإصلاح ذات البين ؟ وكما قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسلم: (وأن تعدل بين الإثنين صدقة) إن أصلحت بين الإثنين فكأنك تصدقت وكأنك أعطيت وكأنك قدّمت.

إصلاح ذات البين عملٌ مطلوب وأمرٌ واجب فرضٌ يا ناس ربي عز وجل قال: ﴿وأصلحوا ذات بينكم﴾ أمرٌ إلهي بأن نصلح ذات بيننا: ﴿إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾ فما بالنا نتكلم ونحن نرى فساد ذات البين مستحكمة فيما بيننا ولا نحاول أن نجعل رسالتنا رسالة إصلاح ذات البين: ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾، سمع سيدي رسول الله كما جاء في البخاري أن جماعة من أهل قباء اقتتلوا، هذا هو الراعي المسؤول الذي يستشعر مسؤوليته، أنت تسمع بأن أولادك اقتتلوا أو اختلفوا تدعو لهم وتقول: أسأل الله أن يصلحهم. لكنك تبقى حيث أنت، أنت تسمع أن موظفيك اقتتلوا أو تقاتلوا أو اختلفوا أو تنازعوا فأنت لا تُعير لهذا الأمر اهتماماً ولا انتباها، رسول الله سمع أن بعضاً من أهل قباء اقتتلوا، اختلفوا، تنازعوا، فقال لمن معه صلى الله عليه وآله وسلم: (دعونا نصلح بينهم) فلنمشِ معاً من أجل أن نصلح بينهم.

مهمة الإصلاح هي مهمتنا، بعد أن نكون قد صلحنا نحن في ذواتنا فيما بيننا وبين أنفسنا فمن لم يكن متصالحاً مع ذاته لا يمكن أن يكون مصالحاً غيره ولا يمكن أن يكون من أولئك الذين يسعون لإصلاح ذات البين، صالح ذاتك قبلاً وبعد ذلك فلتصلح ذات البين فيما بين الناس وفيما بينك وبين الناس، كل ما نريده ألا نختلف ألا نعيش فساد ذات البين، لا تختلفوا كما قال سيدي رسول الله: (لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) تبحثون عن سر الهلاك ؟ لأننا اختلفنا لأننا تنازعنا، أتريدون أن تتعرفوا لماذا نحن في هلاك ؟ لماذا نحن نعيش الهلاك عينه وذاته ؟ لأننا اختلفنا، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) العرب مختلفون فيما بينهم، والمسلمون مختلفون فيما بينهم، والدولة العربية مختلفة مع الدولة العربية الجارة، والدولة الإسلامية مختلفة مع الدولة الإسلامية الجارة، والشعب مع الشعب مختلف، والبلدة مع البلدة مختلفة، والإنسان مع جاره مختلف، والحكومة مع الشعب مختلفة، وبعد ذلك تريدون ألا نهلك ؟ تريدون بعد ذلك ألا يكون الهلاك عنواننا ؟ هذا أمرٌ مستحيل أو شبه مستحيل.

كم من قاتلٍ في اليوم هنا في بلدنا ؟ كثيرون، كم من شاتمٍ في اليوم ؟ وهذه الأمور هي نتائج أو مظاهر الاختلاف، كم من حاقد ؟ كثيرون، كم من حاسد ؟ كثيرون، كم من مستعلٍ ؟ كثيرون، كل هذه تجليات: (لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا).

أخيراً: كم ذكرنا تلك الصورة التي يريدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا ؟ يريدها هذا الحبيب الذي سنحتفل بميلاده بعد فترة وجيزة من الزمن، الصورة التي يريد منا نبينا أن نكون عليها، قالها في أحاديث كثيرة نذكر منها حديثين معروفين مشهورين، الحديث الأول رواه الإمام مسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص) وشبَّك بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسم، هكذا يريدك النبي مع أخيك، مع مواطنك، مع جارك، ومن باب أولى مع ولدك ومع أخيك النسبي، ومع أختك، ومع زوجتك ومع أمك: (المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) وشبَّك بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسم، والحديث الآخر المعروف والمشهور كما جاء في البخاري: (مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

اللهم إني أسألك من واقعٍ مؤلم، وبلسانٍ لا يلهج بالثناء المطلق إلا لك، وبقلبٍ لا يتوجه بالعبودية والانكسار والذل إلا لك، أسألك بلساني وقلبي وعقلي وجوارحي أن تردَّنا إلى دينك رداً جميلاً، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 20/2/2009

التعليقات

عمر محمود العثماان

تاريخ :2009/03/01

أشكرك أيها المعلم والمفكر والمربي يا من تذكي عقولنا بكل جديد وقلوبنا بكل مفيد. وأسأل الله لكم مزيد العلم والعمل.وأن يبعث في قلوب الأجيال همة مثل همتكم.

خليل شاوي

تاريخ :2010/01/11

وهل تستقيم الحياة بدون الصلح والصلاح والاصلاح بل ان الاصلاح هو حياة قلب المجتمع وهو المهمة التي ارسل الله رسله من اجلها وهذه المهمة استحقت من الامام الحسين ع ان يبذل نفسه من اجلها حينما قال ما خرجت اشرا ولا بطر انما خرجت اريد الاصلا ح في امة جدي رسول الله ص ادامك الله شيخنا العلامة مصلحا لما تعطل من امور الناس

شاركنا بتعليق