أَوَّلاً: المُقدِّمةُ: تَمهيدٌ، وفَاتِحَةٌ، وخُطَّة
* أ. التَّمهيدُ:
لَمْ نَبْغِ هَاهُنا مُعالجةَ مُصطلَحِ (التُّراثِ)، فذَاكَ أَمرٌ أُفرِدَ بالبَحثِ، وإِنَّما الَّذي يَعنِينَا هُو التَّصوُّفُ أو الصُّوفيَّة، وأَعِدُ القَارِئَ أَلَّا آتِيَ بعدَ الآنَ علَى ذِكْرِ المُصْطلَحَيْنِ مَعاً (التَّصوُّف-الصُّوفيَّة) وبَينَهُما (أَو) العَاطِفةُ ذاتُ التَّخْيير، بَلْ سَأَحْسِمُ الأَمرَ لِصَالحِ التَّصوُّفِ مُصْطلَحاً أَعْتَمِدُهُ في ذَا البَحْثِ، مُهْمِلاً الآخرَ (الصُّوفيَّةَ)، لِأَنَّ كلمةَ (التَّصوُّفِ) تَدُلُّ علَى النِّسْبةِ والتَّحقُّقِ، فَفِيهَا مَا في (الصُّوفيَّةِ) وزِيادَة، والزِّيادَةُ هيَ (التَّفعُّلُ) التي يَدلُّكَ ميزانُها الصَّرفيُّ علَى جُهدٍ يُبْذَلُ لِلتَّحَقُّق، وهَل تَقومُ الصُّوفيَّةُ إلَّا علَى المُجاهَدَةِ والتَّكلُّف لتَحقيقِ المُرادِ.
وأمَّا مَا يَخصُّ البَحثَ ذاتَه، فقَد تَوجَّهَتْ عِنايَتُنا إلَى دِراسَةِ التَّصوُّفِ نَشْأَةً وتَكويناً، ثمَّ إلَى الأُصُولِ والمَناهجِ والمَدارِسِ والطَّرائقِ، فَالمُؤسِّسِينَ والمُؤصِّلينَ، ولَنا - بعدَ هذَا - وقفةُ تَقويمٍ (تَقييمٍ) لِما عرَضْنا؛ وتَقديمِ رُؤيةٍ لِلتَّصوُّفِ خاصَّةٍ بِنا، مِن حَيْثُ التَّأطيرُ والتَّنسيقُ والتَّقسيمُ، عبرَ مُعادَلاتٍ مَعرفيَّةٍ اسْتَخْلَصْناها منَ الإنتاجِ الدَّائرِ علَى أَلْسُنِ النَّاسِ وفي أَسْطُرِ القِرطَاس.
وسَنَحُطُّ الرَّحْلَ أَخِيراً في مَبحَثٍ ذي عُنوانٍ هُو: (هَلْ يُمكِنُ أَن يَكونَ التَّصوُّفُ حَلَّاً مَطروحَاً من قِبَلِ المُصلِحينَ ؟)، معَ مُلْحَقٍ نَتبيَّنُ فيهِ سِمَاتِ مُجتمَعٍ مَنشُودٍ في ظِلالِ التَّصوُّفِ، وقَبْلَ هذَا كلِّه، ثمَّةَ فَاتِحةٌ تُجلِّي أَهمِّيةَ الموضُوعِ، فَإِلَيْكَها:
* ب. فَاتِحَة: (أَهمِّيةُ المَوضُوع)
المَقطَعُ الأَوَّلُ مِن ذِي الفَاتِحة: التَّصوُّفُ وتُراثُه يَعدِلُ الإِسْلامَ وتُراثَهُ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ طَوْلاً في الفَهمِ استِيعابَ ذلكَ فَلْيَقْرَأ المَسيرَةَ بأَكمَلِها، فَسَيَجِدُ صِحَّةً مَقبُولةً لِما ذَكَرْنا، بَلْ سيَرى وُضُوحَ (التَّماهي) بينَ التَّصوُّفِ والإِسْلامِ، فَهَذا ذَاكَ، وذَاكَ هَذا، ولهذَا قالَ شيخُ التَّصوُّفِ الجُنَيْدُ بنُ محمَّد البَغداديُّ (ت:297هـ): "مَذْهَبُنا هذَا مُقيَّدٌ بِالكِتابِ والسُّنَّة"(1)، وهَل الإِسلامُ أَيْضاً إلَّا الكِتابُ والسُّنَّة ؟!.
وأمَّا المَقطَعُ الثَّاني: فلَقَد شَكَّلَ التَّصوُّفُ أَحدَ تَجلِّيَي الإِسلامِ في مُقابِلِ السَّلَفيَّة، وقَد ادَّعَى كلُّ اتِّجاهٍ مِنهُما تَمثيلَ كلِّ الإِسْلامِ، ولَا يزالُون كذَلِك، وعلَى هذَا فَلا يُمكِنُ اعتبارُ السَّلفيَّةِ مَرحلةً عابرَةً أو غَابِرةً كما يقُولُ بعضُهم، كمَا لَا يُمكِنُ اعتبارُ التَّصوُّفِ كذَلِك، بَلْ هُما خَطَّان مُستَمِرَّانِ واتِّجاهَانِ بَاقِيانِ، وقَد كادَا يَصيرَان دِينَيْنِ؛ إِنْ لَمْ نَقُلْ: لَقَد هَمَّا، وهَذا مَلحُوظٌ مِن رَفْضِ كلٍّ مِنهُما الآخرَ، وعَدِّهِ مَارِقاً، أَو شَبيهَاً بِمَن مَرَقَ.
والمَقطَعُ الثَّالِثُ والأَخيرُ: ثمَّةَ تَغايُرٌ يَبلُغُ - أَحْياناً - حَدَّ التَّبايُنِ الكُلِّيِّ بَينَ تَصوُّفٍ وتَصوُّف!، فَهَلْ هذَا اخْتِراقٌ أَو انْشِقَاقٌ كذَاكَ الَّذي بينَ السَّلفيَّةِ والتَّصوُّفِ ؟
والجوابُ: أنَّ لِلتَّصوُّفِ أَركاناً ومُصْطَلَحاتٍ لَا يَنبغِي لأَيِّ مُتصوِّفٍ التَّخلِّي عَنها إذَا مَا شَاءَ الإِبقاءَ علَى اتِّصافهِ بالتَّصوُّف، في حِين أنَّ السَّلفيَّ ليسَتْ تَعنيهِ تلكَ الأَركانُ أَو المُصْطَلَحاتُ، فَهوَلَا يَلْتَفِتُ إلَيها، وليسَ يُقيمُ لها رَصيداً أَو اعتباراً في نَهْجِه، وهَلْ رَأَيْتَ يَوماً كلمةَ (الوِرْدِ) أَو (المُريدِ) أَو (الشَّيخِ) أَو (الوَجْدِ) أَو نَحْوهَا في قَامُوسِ السَّلَفيَّة ؟!، إنَّ أَمثالَ هَذِه الكَلِماتِ لَتُشَكِّلُ سَدَى التَّصوُّفِ ولُحمتَهُ، فَلْيُنظَر.. !
وفي النِّهايةِ، فَها نَحْنُ أُولَاءِ نَعرِضُ خُطَّةَ البَحثِ آمِلينَ منَ اللِه جلَّ جلالُهُ التَّوفيقَ، ومِن أَهلِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهمُ الدُّعاءَ بالسَّدادِ والصَّواب، واللهُ مِن وَراءِ القَصد.
* ج. الخُطَّة:
- أَوَّلاً: المقدِّمةُ، وفيها:
أ. التَّمهيد.
ب. فَاتِحة.
ج. الخُطَّة.
- ثانياً: التَّصوُّفُ (العَرضُ والتَّقديمُ)، وفيه:
أ. النَّشْأَةُ.
ب. التَّعريفُ.
ج. المَصدَر.
د. المَراحِلُ والمشَارِبُ والرِّجالُ.
- ثالثاً: التَّصوُّف: التَّقويمُ أَو النَّقدُ بعدَ العَرض، وفيه:
أ. التَّصوُّفُ في مُعادَلاتٍ (رُؤيَتي).
ب. التَّصوُّفُ والغَربُ (قَبْلاً وبَعدَاً).
ج. التَّصوُّفُ ؛ هَل هُو الحلُّ للأَزَماتِ (العَوْلَمةِ) الإِنْسَانيَّة.
ثانياً: التَّصوُّفُ ( العَرضُ والتَّقديمُ )، وفيه:
النَّشأةُ والتَّعريفُ والمصدَرُ:
* أ. النَّشْأَةُ:
لم نُسَطِّرهُ كتاباً أو مَوسُوعةً، بلْ هو بَحثٌ مَعدودةٌ صفحاتُه، مَحدودةٌ كلماتُه، مِن أَجلِ ذلكَ اختَصرنا وأَوجَزنا، لكنَّنا - أبداً - لم نُخِلّ ولم نُسِئْ، قَرأنا كثيراً، وأَخذنا ممَّا ذَرَّفَ على مئةِ مَصدَرٍ ذي شَأنٍ، ثمَّ عُدنا بما عُدنا بهِ من بِطاقاتِ بَحثٍ أَنافَتْ في تَعدادِها على المئةِ والخَمسينَ، فلِلَّهِ الحمدُ والمنَّةُ على ما وفَّق، ولِمجمَعِ اللُّغةِ العربيَّةِ في دمشق الشُّكرُ على ما تفضَّلَ وكلَّف. وها نَحنُ أُولاءِ نَبتدئُ الكتابةَ في الميلادِ والتَّحديد:
يَجتهِدُ بعضُهم في إِرجَاعِ تاريخِ مُصطلَحِ (التَّصوُّف) إلى ما قبلَ الإسلامِ استِناداً إلى محمَّدِ بنِ إسحاقَ بنِ يَسار، صَاحبِ المَغازِي (ت:150هـ) في كتابهِ الذي جمعَ فيهِ أخبارَ مكَّةَ، قال: "إنَّه قبلَ الإسلامِ قَد خَلَتْ مكَّةُ في وَقتٍ منَ الأَوقاتِ، حتَّى لا يَطوف بالبَيتِ أحدٌ، وكانَ يجيءُ من بلدٍ بَعيدٍ رجلٌ صُوفيٌّ، فيَطوفُ بالبَيتِ ويَنصرِف"(2)، على أنَّ هذا الخبرَ لا يُعوَّلُ عليهِ كثيراً في البَحثِ الموضوعيِّ، بلْ إنَّ السِّراجَ الطُّوسيَّ (ت:378هـ) نفسَهُ يُلْمِحُ إلى الشكِّ فيه، وهو إذْ يُورِدُهُ فلِلاستِئناسِ لا لِليَقين، يقولُ: "فإِنْ صحَّ ذلكَ فإنَّهُ يَدُلُّ على أنَّهُ قبلَ الإسلامِ كانَ يُعرَفُ هذا الاسمُ، وكانَ يُنسَبُ إليهِ أهلُ الفَضلِ والصَّلاح"(3).
وهاهُنا نتَساءلُ: هلْ يُمكنُ أن يكونَ ذلكَ الرَّجلُ الصُّوفيُّ مُتحدِّراً من سُلالةِ بَني صُوفَة أو ممَّن يُنسَبُون إلَيهم؟، ولا سيَّما إن علِمنا أنَّ (الصُّوفةَ) وظيفةٌ دينيَّةٌ(4) تخصَّصَ بِها فريقٌ مِن عرَبِ الجاهليَّة، فجَعلَتْهُم طبقةً ذاتَ شعائرَ وامتيازٍ في مذاهبِ حَياتِها على شكْلِ المتصوِّفةِ.
ثمَّ يَروي الطُّوسيُّ صاحبُ الكلامِ المَسُوقِ آنِفاً عَن الحسنِ البَصريِّ (ت:110هـ) أنَّه قالَ: "رأيتُ صُوفيّاً في الطَّوافِ فأَعطَيتُه شَيئاً فلَمْ يأخُذْ، وقال: مَعي أَربعةُ دَوانيقَ فَيكفيني مَا مَعي"(5)، ويَستدِلُّ كذلكَ بقَولِ سُفيانَ الثَّوريِّ (ت:161هـ): "لَولا أَبو هاشمٍ الصُّوفيُّ(6) ما عَرفتُ دَقيقَ الرِّبا"(7).
وبناءً علَى هذَينِ الخبرَين يكونُ مُصطلحُ التَّصوُّفِ قَد عُرِفَ في النِّصفِ الأوَّلِ منَ القَرنِ الهجريِّ الثَّاني، لا كما يذهبُ ماسينيُون (ت:1962م) إلى أَنَّه عُرِفَ لأوَّلِ مرَّةٍ لقَباً مُفرَداً في النِّصفِ الثَّاني منَ القَرنِ نَفسِه(8)، وممَّا يؤكِّدُ صحَّةَ شاهدَي الطُّوسيِّ المَذكورَين آنِفاً قولُ مُساوِرٍ الورَّاق(9) المتوفَّى حَوالَي (150هـ)، في بَيتين منَ الشِّعرِ يَعيبُ فيهما علَى رَجُلٍ رياءَهُ وتَظاهُرَهُ بالصَّلاح ويَذكرُ فيهما لفظَ التَّصوُّف:
تصوَّفَ كَي يُقالَ لهُ أمينٌ |
|
ومَا يَعني التَّصوُّفَ والأمانَة |
ولَم يُرِد الإلـهَ بـهِ ولَـكِنْ |
|
أرادَ بـهِ الطَّـريقَ إلى الخِيـانَة |
وعلَى هذَا، فلَا ارْتيابَ إذاً في أنَّ استِعمالَ هذَا المُصطَلحَ قَد شاعَ قبلَ الخمسينَ وبعدَ المئةِ، ذلكَ أنَّ صُورةَ الصُّوفيِّ في البَيتَين تكشِفُ عَن عَهدِ النَّاسِ بالتَّصوُّفِ ومُمارستِهِم إيَّاهُ منذُ زَمنٍ لا نَدري مُبتَدأَهُ علَى التَّعيين، ولكنَّهُ يُورِثُ الحَدْسَ بِمُدَّةٍ طَويلةٍ نَسبيّاً، كيْما يَصيرَ للتَّصوفِ أَدعياءُ، الأمرُ الذي يُؤكِّد صِحَّةَ الرِّوايةِ التي نقلَها الطُّوسيُّ عَن الحسَنِ البَصريِّ.
ولعلَّنا هاهُنا نَستَدرِكُ أَمراً يجبُ تَوضيحُه وهُو: أنَّ ما ذكرناهُ عَن وِلادةِ التَّصوُّفِ إنَّما قصَدْنا بهِ المُصطلَحَ والدِّلالةَ والمَضمُونَ معاً، أي التَّصوُّفَ مِن حيثُ كونُه لَقباً، وأمَّا الدِّلالةُ والمَضمُونُ بمَعزِلٍ عَن المُصطلَحِ فهُما في القِدَمِ أَبعدُ منَ التَّاريخ الذي حَدَدْنا، لأنَّهما يُمثِّلانِ حقيقةَ الإسلامِ، بلْ حقيقةَ الأديانِ، عندَما يَعنِيانِ مَا يَعنيانِ مِن إخلاصٍ لله ومحبَّةٍ لجنَابهِ وتَفَانٍ في مُراداتِه، وسنَرى لاحِقاً مَزيداً مِن هذِه المعَاني السَّاميَةِ السَّامِقَة، وتَأسِيساً علَى هذَا، يكونُ الميلادُ الحقيقيُّ للتَّصوفِ هُو ميلادَ الإسلامِ ذاتِه، ولَسنَا نَعنِي بالإسلامِ هاهُنا الدِّينَ المُنزَلَ علَى محمِّدٍ ص فحَسْب، بلْ الإسلامَ الجامعَ لسَائرِ الأَديانِ المُنزَلةِ علَى جُملةِ الأنبياءِ؛ مِن لَدُن آدمَ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيهِم جَميعاً، إذْ كلُّ هذِه الدِّياناتِ والرِّسالاتِ تَصدُرُ عَن نَبْعةٍ واحدَةٍ دعَاها القُرآنُ الكريمُ إِسلاماً، ونَحنُ -لا شكَّ- معَ القُرآنِ في هذَا الإطلاقِ مُتَّفِقُونَ.
* ب. التَّعريفُ:
لَن نَعرِضَ هاهُنا لِلمَعنَى اللُّغويِّ والاشتِقَاقيِّ للتَّصوُّف ومَا حامَ حَولهُ مِن اختلافاتٍ، وإنَّما الذي يَعنينا بَسْطُه هُو الدِّلالةُ الاصطِلاحيَّةُ والاعتِباريَّةُ لهذِه الكلِمة، أَو بالأَحرى، لهذا العِلمِ أَو هذَا التيَّار، علَى أنَّنا نُسلِّمُ - ابتِداءً - بعَجْزِنا عَن الإحاطةِ بمَجمُوعِ الدِّلالاتِ والتَّعريفاتِ التي قالَ العادُّونَ بأنَّها نَيَّفَتْ علَى الأَلفِ. وهَا نحنُ أُولاءِ نَقِفُ علَى أَهمِّها وأَشهَرِها، مُعتَقدينَ أنَّ مَا لَم يُذكَرْ هاهُنا ليسَ يَخرُجُ عَن مَدارِ ما ذُكِرَ في الفَحْوى والمقَاصِد.
فإليكَ -أَخي القَارِئ- هذا الذي قصَدنا إلَيهِ، مُستفتِحينَ بتَعريفِ مَعروفٍ الكَرْخيِّ (ت:200هـ) القائلِ: "التَّصوُّفُ هُو الأخذُ بالحقَائقِ واليَأْسُ ممَّا في أَيدِي الخلائِق"(10)، وهُو في هذَا التَّعريفِ يُشيرُ في جُزئهِ الأوَّلِ إلى طبيعةِ الجانبِ المَعرفيِّ للتَّصوُّفِ، وفي جُزئهِ الثَّاني يُبِينُ الجانبَ السُّلوكيَّ المَنشودَ الذي يُمثِّلهُ الزُّهدُ خيرَ تَمثيلٍ.
ويُعرِّفُ أَبو الفَيضِ ذُو النُّونِ المِصريُّ (ت:245هـ) تَعريفاً يُحاكي فيهِ تَعريفَ الكَرْخيِّ فيَقولُ: "الصُّوفيُّ مَن إِذا نطقَ أبانَ نُطقُهُ عَن الحقائقِ، وإِنْ سَكتَ نَطَقَتْ عَنهُ الجوارحُ بِقَطعِ العَلائِق"(11)، ويُظاهِرُ أَبو الحسَنِ الحُصريُّ البغداديُّ (ت:371هـ) كِلا التَّعريفَينِ السَّابقَين، مُدلِياً ببَعضِ التَّفاصيلِ فيَقولُ: "الصُّوفيُّ مَن كانَ وَجدُهُ وُجودَهُ وصِفاتُهُ حِجَابَهُ"(12)، والقَصدُ مِن كلامهِ أنَّ حالَ الوَجْدِ يُطلِعُكَ علَى حَقيقةِ أنَّ الوُجودَ الحقيقيَّ إنْ هُوَ إلَّا وُجُودُ الحقِّ تَعالَى لا غير، وأنَّ صِفَاتِ العَبدِ في حالِ عَدمِ الوَجْدِ حائِلةٌ بَينهُ وبينَ الفناءِ عَن نَفْسهِ وعَن السِّوى.
وثَمَّ تَعريفٌ ذُو مَنْحًى آخرَ يَقولُهُ سُمْنونُ بنُ حمزةَ المِصريِّ (ت:290هـ) وهُو: "أَن لا تَملِكَ شَيئاً وَلا يَمْلِككَ شَيءٌ"(13)، والمَنحَى هاهُنا مَنْحى الحرِّيةِ والانْعِتاقِ إلَّا عَن أَن تكونَ عَبداً لمن يَملِكُ كلَّ شَيءٍ ولَيسَ يَملِكُهُ شيءٌ، فهُو - إذاً - مَنْحَى كمالِ التَّحقُّقُ بالغايةِ التي خُلِقْتَ مِن أَجلِها، وتَمامِ العُبوديَّةِ المُفضِيةِ إلى الفَناءِ والبَقاءِ.
وحينَ نذكرُ تعريفَ عَمرِو بنِ عُثمانَ المكِّيِّ (ت:291هـ) فإنَّنا نَراهُ يُؤكِّدُ بقُوَّةٍ علَى ضَرُورةِ أَن يَشْتَغِلَ الإنسانُ بالأَهمِّ وبالأَوْلَى، في حدُودِ آنِهِ ولَحظَتهِ الحاضِرَة، واسْمَعهُ يقولُ: "التَّصوُّفُ أَن يَكُونَ العَبدُ في كلِّ وَقتٍ مَشغُولاً بِما هُو أَوْلَى في الوَقْتِ"(14)، وفي المَصَبِّ عَينِه يَصُبُّ تَعريفُ أَبي محمَّد أَحمدَ الجَرِيرِيِّ (ت:300هـ): "التَّصوُّفُ مُراقَبةُ الأَحوالِ ولُزُومُ الأَدبِ"(15)، ويُتابِعُه أَبو بكرٍ الشِّبْليُّ (ت:334هـ) قائلاً: "التَّصوُّفُ ضَبطُ حَواسِّكَ ومُراعاةُ أَنفاسِك"(16)، ويَصِحُّ لَنا أَن نُعَنْوِنَ هذِه التَّعريفاتِ الثَّلاثةَ بالمُراقَبة.
ولا غُنيةَ لنا، ونَحنُ نعرِضُ لما قالَهُ المؤسِّسُونَ الأُوَلُ، عَن الوقُوفِ علَى ما أَجابَ بهِ الجُنَيدُ البَغداديُّ شَيخُ الطَّائفَة (ت:297هـ) حينَ سُئِلَ عَن التَّصوُّف: "هُو أَن يُميتَكَ الحقُّ عَنْكَ ويُحييكَ بهِ"(17)، وهُنا نَحُطُّ الرَّحْلَ قليلاً عندَ الفَناء، ومَعناهُ أَن يَفنَى العبدُ عَن رُؤيةِ نَفْسهِ وَسِواهَا بنَفْسِه لِيَراها برُؤيةِ اللهِ لهُ، وكذَلِكَ فالصُّوفيُّ - حَسبَ هذَا التَّعريفِ - هُو مَن يَتصرَّفُ بقوَّةِ اللهِ لا بِقُوَّتهِ، فَقَد أَضْحَى اللهُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ ويدَهُ ورِجْلَهُ، وكأَنِّي بهِ قَد تحقَّقَ بالآيةِ الكريمَةِ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأَنفَال:17]، ويَطلُعُ تَعريفُ الطُّوسيِّ أَبي نَصرٍ (ت:278هـ) منَ الأُفْقِ ذاتِهِ ناقلاً عَن عليِّ بنِ بُندار الصُّوفيِّ (ت:357هـ): "التَّصوُّفُ إِسْقاطُ رُؤيةِ الخَلْقِ ظَاهِراً وبَاطِناً"(18).
وثمَّةَ رُؤيةٌ أُخرَى تَنحُو مَنْحَى إظْهارِ الرِّضا عُنصُراً أَساسَاً ورُكناً رَكيناً في التَّصوُّف، عبَّر عَن ذلِكَ رُوَيْمُ بنُ أَحمدٍ البغداديُّ (ت:303هـ) وقَد سُئلَ عَن التَّصوُّفِ فأَجابَ: "التَّصوُّفُ اسْتِرسالُ النَّفسِ معَ اللهِ تَعالَى علَى مَا يُريدُ"(19)، ناظِراً إلى التَّصوُّفِ من مَقامِ الرَّضَا، والمعنَى نَفْسُهُ نَقْرَؤُه عندَ أَبي سَهْلٍ محمَّد بنِ سُليمانَ الصُّعلُوكيِّ (ت:387هـ) في قَولِه: "التَّصوُّفُ الإِعراضُ عَن الاعتِراض"(20).
ونَمضِي بذِكرِ التَّعاريفِ لنَشْهدَ الآنَ تَعريفاً للتَّصوُّفِ يَصدُرُ فيهِ صاحبُهُ عَن مَقامَي الفَقرِ والتَّوكُّل، يَقولُ رُويمُ (ت:303هـ): "التَّصوُّف مَبنيٌّ علَى ثلاثِ خِصَالٍ: التَّمسُّكِ بالفَقرِ والافتقارِ، والتَّحقُّقِ بالبَذلِ والإيثارِ، وتَركِ التَّصرُّفِ والاختِيار"(21).
وخَلِيقٌ بِنا أَن نُضيفَ فيما هاهُنا تَعريفاً آخرَ للتَّصوُّفِ يتَمَحْوَرُ حولَ المَحْوِ ركيزةً راسِخةً من رَكائِزِ التَّصوُّف، فالصُّوفيُّ حَسبَ رَأْيِ أَبي الحسَنِ عليِّ بنِ إبراهيمَ الحُصريِّ (ت:371هـ): "هو الَّذي لا تُقِلُّهُ الأَرضُ ولا تُظِلُّهُ السَّماءُ"(22)، لأنَّه انمَّحى عَن ذاتهِ وثبَتَ باللهِ الوَاسعِ الأوَّلِ الآخرِ والظَّاهرِ الباطِن.
وبَعدُ، فالتَّصوُّفُ في خُلاصَتِه أَخلاقٌ وحُسنُ تعامُلٍ، فقَد قالَ أَبو حَفْصٍ النَّيسابُوريُّ (ت:270هـ): "التَّصوُّفُ كلُّه أَدَبٌ، لِكلِّ وَقتٍ أَدَبٌ، ولِكلِّ مَقامٍ أَدَبٌ، مَنْ لَزِمَ آدابَ الأَوقاتِ بلَغَ مَبْلَغَ الرِّجال"(23).
وذهبَتْ هذِه المَقُولَةُ مَذهبَ المثَلِ السَّائِر، وظلَّتْ قاعدةً كُبرَى امتدَّ الإجماعُ علَيها إلَى عَصرِ ذِرْوَةِ التَّصوُّفِ، عَصرِ الشَّيخِ الأَكبرِ مُحيي الدِّينِ بنِ عَرَبيِّ (ت:638هـ) الذي تبنَّى مَقُولةَ أَسلافهِ فرأَى أنَّ "التَّصوُّفَ خُلُقٌ، فمَن زادَ علَيكَ في الخلُقِ زادَ علَيكَ في التَّصوُّف"(24).
وإذا مَا رُمْنا رسْمَ مَعالمِ الهيكلِ الصُّوفيِّ المُتكاملِ بناءً علَى ما مرَّ مِن تَعريفاتٍ قُلنا وبكلِّ وُضُوحٍ إنَّه: التَّرقِّي الأَخلاقيُّ في مَعارِجِ الحقيقةِ المُطلَقةِ، والعِرفانُ الذَّوقيُّ المُباشِر، والطُّمأنينَةُ والرِّضا، والتَّوكُّلُ المُفضِي إلى سَعَادة، والرَّمزيَّةُ في التَّعبير، ولعلَّ في هذَا البيانِ ما يتَّفِقُ وتَعريفَ التَّصوُّفِ المُقرَّرَ في المَوسُوعةِ الفَلسفيَّةِ العَربيَّة حيثُ قالَتْ: "التَّصوُّفُ فَلسَفةُ حياةٍ تَهدِفُ إلَى التَّرقِّي بالنَّفسِ أَخلاقيّاً، وتتَحقَّقُ بوَاسطةِ ريَاضَاتٍ عمَليَّةٍ مُعيَّنةٍ وتأَمُّلاتٍ تُؤدِّي إلى الشُّعُورِ أَحْياناً بالفَناءِ في الحقيقَةِ المُطلَقةِ، وعِرفَانِها ذَوْقاً لا عَقْلاً وتَفكِيراً، وثَمَرةُ هذِه الفَلسَفةِ السَّعادةُ الرُّوحيَّةُ، ولَطَالما عُبِّرَ عَن حقَائِقها - أي عَن حقائِقِ فَلسَفةِ التَّصوُّف - بالرَّمز، لأنَّ التَّعبيرَ عَنها بالأَلفاظِ العاديَّةِ صَعبٌ جِدَّاً، وتكادُ تكونُ مُستَحيلَةً"(25).
وابْتِغاءَ تَمامِ حَلْقةِ التَّحديدِ التي نَحنُ بصَدَدِها فإنَّنا نذكرُ تعريفَ الجُنيدِ (ت:297هـ) للتَّصوُّف، فَفيهِ مَا يُلِمُّ بجُمْلَةِ المعالمِ التي نَثرناها آنِفاً، يَقولُ: "التَّصوُّفُ تَصفيةُ القَلْبِ عَن مُوافَقةِ البريَّةِ، ومُفارَقَةُ الأَخلاقِ الطَّبيعيَّة، وإِخمادُ الصِّفاتِ البشَريَّة، ومُجانَبةُ الدَّعاوَى النَّفسَانيَّة، ومُنازَلةُ الصِّفاتِ الرُّوحانيَّةِ، والتَّعلُّقُ بالعلُومِ الحقيقيَّة، واستِعمالُ ما هُو أَوْلَى علَى الأَبديَّة، والنُّصحُ لجميعِ الأُمَّة، والوَفاءُ للهِ علَى الحقيقةِ، واتِّباعُ الرَّسولِ ص في الشَّريعَة"(26).
* ج. المَصدَر(27):
تَشعَّبَ الاختِلافُ في مَصدَرِ التَّصوُّف، لكنَّه -في النَّهاية- لَم يكُن مِن جِنسِ الاختِلافِ الذي لا يُحسَمُ، بل قَدْ حُسِمَ الأمرُ فِعلاً لصَالحِ انتماءِ التَّصوُّفِ الأَصيلِ للإسلامِ، وهاهُو ذا الطُّوسيُّ (ت: 278هـ) يَذهَبُ إلَى تَقييدِ التَّصوُّفِ بأَربعةِ أُصُولٍ إسلاميَّةٍ هيَ(28):
1- مُتابعةُ كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ.
2- الاقتداءُ بالرَّسُولِ ص.
3- التَّخلُّقُ بأَخلاقِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ.
4- التَّأدُّبُ بآدابِ عبادِ اللهِ الصَّالحينَ.
وقَد عَاضَدَ هذِه الأُصولَ كلُّ مَن كتَبَ منَ الصُّوفيةِ عَن التَّصوُّفِ بعدَ الطُّوسيِّ، حتَّى إنَّ ابنَ خلدُون (ت:808هـ) -وهُو مِن غَيرِ الصُّوفيَّة(29)- يُدرِكُ تلكَ الآصِرَةَ الأكيدَةَ بينَ التَّصوُّفِ وبينَ مَصدَرِه الإسلاميِّ فيَقولُ: "هذَا العِلمُ منَ العُلومِ الشَّرعيَّةِ الحادِثَةِ في المِلَّة، وأَصلُهُ أنَّ طريقَ هَؤلاءِ القَومِ لَم تَزَلْ عندَ سلَفِ الأُمَّةِ وكِبارِها منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومَن بَعدَهُم طريقَ الحقِّ والهِدايَة، وأَصلُها العُكوفُ علَى العِبادَةِ، والانقِطاعُ إلى اللهِ تعالَى، والإِعراضُ عَن زُخْرُفِ الدُّنيا وزِينَتِها، والزُّهدُ فيما يُقْبِلُ علَيهِ الجُمهورُ مِن لذَّةٍ ومالٍ وجَاهٍ، والانفِرادُ عَن الخَلْقِ في الخَلْوةِ لِلعِبادَة، وكانَ ذلكَ عامَّاً في الصَّحابةِ والسَّلَفِ، فلمَّا فشَا الإقبالُ علَى الدُّنيا في القَرنِ الثَّاني ومَا بَعدَهُ وجَنَحَ النَّاسُ إلى مُخالَطةِ الدُّنيا اختَصَّ المُقبِلُونَ علَى العِبادَةِ باسمِ الصُّوفيَّةِ والمُتصَوِّفَة"(30).
ولَم يَستَطِع المُستَشْرِقُونَ أَنفسُهُم، علَى كثافةِ دراسَاتِهم للتَّصوُّفِ وسَعَتِها، وعلَى تَنوُّعِ أَهدافِهم أَيضاً، إلَّا أَن يُقرِّوا بالإسلامِ مَصدَراً للتَّصوُّف، ولعلَّ تَجرِبةَ البريطانيِّ رينولد نيكلسون (ت:1945م) في هذا المقامِ تكونُ مثالاً جيِّداً علَى ذلكَ، حينَ عدَلَ عَن آرائهِ السَّابقَةِ التي أَعلَنَها عامَ (1906م) وذكرَ فيها أنَّ التَّصوُّفَ وَليدُ الأَفلاطونيَّةِ المُحدَثَةَِ والمَسيحيَّةِ والغنوصيَّة، فقَد كتَب سنةَ (1922م) مقَالاً يُؤكِّدُ فيه عُدولَهُ، ويَنفي أَن يكونَ التَّصوُّفُ سَليلَ الثَّقافاتِ الأَجنبيَّة، ويُصرِّحُ بأنَّ ظاهِرتَي الزُّهدِ والتَّصوُّفِ اللَّتَين نشَأَتا في الإسلامِ كانَتا إِسلاميَّتَين في الصَّميم(31).
أمَّا لويس ماسينيون (ت:1962م) فيَرى إثْرَ دراسَتهِ لمُصطلَحاتِ التَّصوُّفِ أنَّ مصادرَها أَربعةٌ:
1- القرآنُ الكريمُ، وهُو المصدَرُ الرَّئيسُ للمُصطَلحاتِ الصُّوفيَّة.
2- العلُومُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ، كالحديثِ والفِقْهِ.
3- مُصطَلحَاتُ المتكلِّمينَ الأَوائلِ.
4- اللُّغةُ العِلميَّةُ التي تكوَّنَتْ في الشَّرقِ خلالَ القُرونِ الستَّةِ المَسيحيَّةِ الأُولى مِن لُغاتٍ أُخرَى؛ كاليونانيَّةِ والفارسيَّةِ وغيرِهما، وأَصبَحَتْ لُغةَ العِلمِ والفَلسَفةِ، ثُمَّ يُشيرُ في خاتمةِ الأَمر إلَى أنَّ التَّصوُّفَ قَد نشأَ مِن صَميمِ الإسلامِ نَفْسِه، علَى الأَقلِّ في القُرونِ الثَّلاثةِ الأُولَى(32).
ولَعلَّ منَ المُستَحْسَنِ هاهُنا حكايةُ بعضِ أَقوالِ المُتصوِّفةِ أَنفسِهم، التي تُواشِجُ بينَ طَريقِهم وعلُومهِم وبينَ القُرآنِ والسُّنَّةِ المُشرَّفةِ وأَخلاقِ الإسلامِ الرَّفيعَةِ علَى نَحوٍ بيِّن:
فقَد قالَ ذُو النُّون المِصريُّ (ت:245هـ): "مِن عَلاماتِ المحبَّةِ للهِ مُتابَعةُ حبيبِ الله ص في أَخلاقهِ وأَفعالهِ وأَوامرِهِ وسُنَّتهِ"(33).
وقالَ الجُنَيدُ (ت:297هـ): "الطُّرُقُ كلُّها مَسدُودَةٌ علَى الخَلْقِ إلَّا مَن اقْتَفى أثَرَ الرَّسولِ ص"(34)، وقالَ: (مَن لَم يَحفَظِ القُرآنَ ولَم يَكتُبِ الحديثَ لا يُقتدَى بهِ في هذَا الأَمر، لأنَّ عِلْمَنا هذَا مُقيَّدٌ بالكِتابِ والسُّنَّة"(35).
وقالَ أَبو الفَوارسِ شَاهُ بنُ شُجاعٍ الكَرمانيُّ (ت:300هـ): "مَن غضَّ بصرَهُ عَن المَحارِمِ وأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَن الشَّهواتِ وعمَّرَ باطنَهُ بدَوامِ المُراقَبةِ وظاهرَهُ باتِّباع السُّنَّةِ وعوَّدَ نَفْسَهُ أكْلَ الحلالِ لَم تُخطِئ لهُ فِراسَة"(36).
ويَقولُ أَبو الحسَنِ السَّريُّ بنُ مُغلِّسٍ السَّقَطِيُّ (ت:257هـ): "(مَن ادَّعى بَاطِنَ عِلمٍ يَنقُضُ ظَاهِرَ حُكْمٍ فهُو غَالِطٌ"(37).
* د. المَراحِلُ والمشَارِبُ والرِّجالُ:
تَقلَّبَ التَّصوُّفُ في مراحِلَ مُتعدِّدة، وتَوارَدَتْ علَيهِ ظُروفٌ مُختَلِفَة، فكانَ لهُ في كلِّ طَورٍ ومرحلَةٍ مفاهيمُ متولِّدةٌ، وعلَيهِ، كثُرَتْ تَعريفاتُه بنَحوِ ما رأَيْنا في مبحَثِ التَّعريفِ السَّالف، علَى أَنَّ الأَساسَ الثَّابتَ والمُجمَعَ علَيهِ بينَ مفاهيمِ التَّصوُّفِ هُو الأَخلاقُ، وأَخلاقُ الإسلامِ - أَصْلاً - هيَ أَساسُ شَريعَتِه، فإذا ما افْتَقَدَتْ اُصولُ الإيمانِ أَو أَحكامُ الفِقهِ الأَساسَ الخُلُقيَّ كانَتْ صُورةً لا رُوحَ فيها، أو هَيْكلاً خَاوِياً مُفرَّغَ المَضمُون، فالدِّينُ - في جَوهَرِه - أَخلاقٌ بينَ العَبدِ وربِّه، وبينَ العَبدِ ونَفْسِه، وبينَ العَبدِ وسَائرِ مَنْ ومَا لهُ علاقةٌ معهُ أَو اتِّصالٌ بهِ، وقَد وَعَى صُوفيَّةُ الإسلامِ أهمِّيةَ هذَا الأَساسِ الخُلُقيِّ للدِّين، فعُنُوا بهِ وتَوجَّهُوا نَحوَهُ بالرِّعايَةِ والاهتمامِ، وأَعلَنُوا أنَّ أيَّ عِلمٍ لا تُقارِنُهُ الخَشْيةُ منَ اللهِ فَلا جَدْوى منهُ، ومِن ثَمَّ رأَيْتَهُم قَد أَنْشَؤُوا مِن ذلكَ عِلْماً مُستَقِلَّاً مُكمِّلاً لعِلْمَي الكلامِ (العقيدَةِ) والفِقْه، وعُدَّ التَّصوُّفُ بعدَ ذلكَ عِلْماً قائماً برَأسِهِ بينَ العلُومِ الشَّرعيَّة، علَى مَا نوَّهَ بهِ ابنُ خلدُون (ت:808هـ) في مُقدِّمتِه، حيثُ قالَ: (عِلمُ التَّصوُّفِ منَ العُلومِ الشَّرعيَّةِ الحادِثَةِ في المِلَّةِ الإسلاميَّةِ، وأَصلُهُ عندَ سَلَفِ الأُمَّة"(38).
ونَشْرَعُ الآنَ بذكرِ المراحلِ مَشفُوعةً بذكرِ المشارِب، فنُؤكِّدُ - بادئَ الأَمرِ - علَى المَرحلةِ الأُولَى في نَشأَةِ التَّصوُّفِ، وهيَ التي تُسمَى (مَرحلةَ الزُّهْدِ)، وقَد بدَتْ تلكَ المَرحلةُ وقامَتْ في القَرنَين الهِجريَّيْن الأَوَّلَيْن، وأَعانَ علَى ظُهورِ الزُّهدِ فيهما حركَةً ونَهْجاً عَامِلانِ رئيسَانِ هُما:
1- القرآنُ الكريمُ: بما ضُمِّنَتْ آياتُه من مَعانِي فَناءِ الدُّنيا وزَوالِها، والحثِّ علَى الزُّهدِ فيهَا، والتَّرفُّعِ عَن الانغماسِ في مَلاذِّها وشَهَواتِها الزَّائلَة.
2- الأَحوالُ السِّياسيَّةُ والاجتماعيَّةُ واضطِّرابُها: ولا سيَّما بعدَ مَقْتَلِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضيَ اللهُ عنهُ، ممَّا حدَا بكثيرٍ مِن أَتقياءِ المُسلِمين إلَى إيثارِ العُزلَةِ ولزُومِ العبادَةِ.
وهكَذا، بدأَتْ تَظهرُ مَدارسُ للزُّهدِ في المَدينةِ وفي البَصرةِ وفي الكُوفةِ وفي مِصرَ وفي خُراسَان(39)، وتطوَّرَتْ حالةُ الزُّهدِ مِن بعدُ علَى يدِ رابعةَ العدَويَّة (ت:185هـ) تطوُّراً نَوعيَّاً، فقَد أَمْسَى ناهِضاً علَى فكرةِ الحبِّ الإلهيِّ بعدَ أن كانَ قَبْلاً يقومُ علَى فكرَةِ الخوفِ منَ الله.
ثمَّ عرَضَ لِمَسيرَةِ الزُّهدِ هذِهِ تحوُّلٌ مَلْحوظٌ طوالِعَ القَرنِ الهِجريِّ الثَّالِث، فلَم يَعُدْ للسَّالكينَ هذَا المسلكَ اسمُ (الزُّهَّادِ)، وإنَّما عُرِفوا بِـ(الصُّوفيَّة)، وتكلَّموا في مُصطلَحاتٍ لم تَكُن مَعروفةً مِن ذِي قَبلُ، فكانَ منهَا -علَى سبيلِ التَّمثيلِ-: (السُّلوكُ إلى اللهِ)، و(الُمجاهدَةُ) عبرَ مدارجَ متنوِّعَةٍ عُرِفَتْ بِـ(المقاماتِ والأَحوالِ)، وظهرَتْ كذلكَ (المَعرِفةُ الشُّهوديَّةُ) و(الفَناءُ) و(الاتِّحادُ) و(الحلُولُ) ونَحوُ ذلكَ، وأَصبَحَتْ للمُتصوِّفَةِ لُغةٌ اصطِلاحيَّةٌ خاصَّة، وظهرَ التَّدوينُ في التَّصوُّفِ كذلكَ، ولعلَّ أَقدمَ المُصنِّفينَ فيهِ الحارثُ ابنُ أسَدٍ المُحاسِبيُّ (ت:243هـ)، وأَبو سَعيدٍ أَحمدُ بنُ عيسَى الخرَّاز (ت:237هـ)، وأَبو عَبدِ اللهِ الحكيمُ التِّرمذيُّ (ت:285هـ)، والجُنيدُ البغداديُّ (ت:297هـ)، وهُم جَميعاً مِن القَرنِ الثَّالِث.
ومنذُ ذلكَ القَرنِ يَستقيمُ لَنا القَولُ بأَنَّ التَّصوُّفَ غَدا مُستَمِيزاً عَن الفِقهِ، وصارَ للشَّريعةِ جانبانِ:
1- أحدُهُما عِلمُ الظَّاهرِ مِن عباداتٍ ومُعاملاتٍ.
2- والآخرُ عِلمُ الباطنِ، أَو عِلمُ القَلْب، وقَد أُطلِقتْ علَيهِ تَسمِياتٌ منهَا: عِلمُ الحقيقةِ في مُقابَلةِ عِلمِ الشَّريعَةِ، وعِلمُ الوِراثَةِ في مُقابلِ عِلمِ الدِّراسَة.
ويَلْحَظُ الدَّارسُ للتَّصوُّفِ في القَرنَينِ الهجريَّين؛ الثَّالثِ والرَّابع، أنَّهُ باتَ ذا اتِّجاهَين اثْنَين:
1- يُمثِّلُ الأَوَّلَ مِنهُما: صُوفيُّونَ مُعتَدِلُون في آرائِهم، يَربِطونَ تصوُّفهَم بالكتابِ والسُّنَّة، وإنْ شئتَ قُل: يَزِنُونَ تصوُّفَهم دَوماً بمِيزانِ الشَّريعَة، ومِن هؤلاءِ: معروفٌ الكَرْخيُّ (ت:200هـ)، وأَبو سُلَيمانَ الدَّاراني (ت:215هـ)، وذُو النُّونِ المِصريُّ (ت:245هـ)، والحارثُ بنُ أَسدٍ المُحاسِبيُّ (ت:243هـ)، والسَّريُّ السَّقَطيُّ (ت:250هـ)، وسَهْلُ بنُ عبدِ اللهِ التُّستُريُّ (ت:283هـ)، والجُنيدُ البَغداديُّ المُلَقَّبُ بشَيخِ الطَّائفَة (ت:297هـ).
2- أمَّا الاتِّجاهُ الثَّاني: فيُمثِّلهُ صُوفيُّونَ أقلُّ عدَداً من ذَوي الاتِّجاهِ الأَوَّل، انطلَقُوا مِن حالِ الفَناء إلى القَولِ - علَى سَبيلِ الشَّطْح - بالاتِّحادِ والحلُولِ، ويُمثِّل هذا الاتِّجاهَ نفَرٌ منهُم: البَسطاميُّ أَبو يَزيدَ (ت:261هـ)، واسمُهُ طَيفورُ بنُ عيسَى بنِ شَروشَان، فقَد غلَبَتْ عليهِ حالُ الفَناءِ عَن ذاتهِ فأَسفَرَ عَن عباراتٍ تَحكي الحلُولَ والاتِّحادَ، ومِن ذلِكَ قولُهُ - مثَلاً-: (سُبْحاني مَا أَعظمَ شَاني)، وقولُهُ: (إنِّي أَنا اللهُ)(40). وعلَى غِرارِ البَسطاميِّ ذاتِه يَطلُعُ علَينا الحُسَينُ بنُ مَنصورٍِ الحلَّاج (ت:309هـ)، الذي أَفضَى بهِ شعُورُهُ بالفَناءِ أَيضَاً إلَى القَولِ بالحلُول(41)، ويَعني حلُولَ الطَّبيعةِالإلهيَّةِ في الطَّبيعةِ الإنسانيَّةِ إذا مَا تهيَّأَ لهذِه الطَّبيعةِ الإنسانيَّةِ أَو النَّاسُوتيَّةِ الصَّفاءُ الكافي، علَى أَنَّهُ - معَ إعلانهِ الحلُولَ - يَعودُ فيُثبِتُ التَّنزيهَ لله تعالَى، ويَذهبُ في بابٍ آخرَ إلَى القَولِ بِقِدَمِ النُّورِ المُحمَّديِّ، حتَّى أَمسَى قولُهُ هذَا أَساساً مُعتَبراً لما قالَهُ مُتفَلسِفَةُ الصُّوفيَّةِ عَن الحقيقةِ المُحمَّديَّة التي هيَ أَوَّلُ تَعيُّنٍ فاضَ عَن اللهِ، ومنهُ استَمدَّ الأنبياءُ وانْتهَلَ الأَولياءُ منذُ القِدَم، ويَبدُو جليَّاً هاهُنا أَثرُ الأَفلاطُونيَّةِ المُحدَثةِ ونظَريَّتُها الذَّائعةُ في قضيَّةِ (الفَيْض).
وقَد شَهِدَ القَرنانِ المُشارُ إلَيهما ظُهورَ الطُّرقِ الصُّوفيَّةِ في صُوَرٍ أَوَّليَّةٍ، فكانَ منهَا: (المَلامَتيَّةُ) المَنسُوبةُ إلى حَمدُون القصَّارِ النَّيسابُوريِّ (ت:271هـ)، والطَّيفوريَّةُ المَنسُوبةُ إلى أبي يَزيدَ البَسطاميِّ (ت:261هـ)، وأَضْحَتْ كلمةُ (طَريقَة) إشارةً إلى مَجمُوعةِ الآدابِ والأَخلاقِ والأَفكارِ التي تتَحلَّى بهَا طَائفةُ الصُّوفيَّة، حتَّى إنَّ أَبا القاسمِ القُشَيريَّ (ت:465هـ) يجعَلُها قَسيماً لِطَريقةِ أَربابِ العَقلِ والفِكْر.
ومِن بَينِ المواضِيعِ المُدارَةِ أَيضَاً في أَحاديثِ صُوفيَّةُ القَرنَينِ؛ الثَّالثِ والرَّابع، قضيَّةُ الطُّمَأْنينةِ والسَّعادَةِ، فقَد وَضَعُوا لأَنفُسِهم في هذَا البابِ لُغةً اصطِلاحيَّةً رَمزيَّةً، قصَدُوا بهَا الكَشْفَ عَن معانيهِم لأَنفُسِهم، غِيرةً منهُم علَى أَسرارِهِم أَن تَشيعَ في غَيرِ أَهلِها، إِذْ لَيسَتْ حقائقهُم مَجمُوعةً بنَوعِ تكلُّفٍ أَو مَجلُوبةً بضَرْبِ تَصرُّفٍ، بلْ هيَ معانٍ أَوْدعَها اللهُ قلوبَ قومٍ، واسْتَخْلصَ لحقائِقها أَسرارَ قومٍ، علَى تَعبيرِ القُشَيريِّ في رِسالَتهِ(42).
وعلَى امتدادِ القَرنِ الخامسِ الهجريِّ استمرَّ الاتِّجاهُ الأوَّلُ بوضُوحٍ، وأُطلِقَ علَيهِ الاتِّجاهُ السُّنِّيُّ، في حِين ذَوَى الاتِّجاهُ الثَّاني أَو كادَ، ثمَّ عاودَ الظُّهورَ تارةً أُخرَى في صُورٍ متنوِّعَةٍ علَى أَيدي أَفرادٍ مِن مُتفَلسِفَةِ الصُّوفيَّة ابتِداءً منَ القَرنِ السَّادسِ الهجريِّ، أمَّا ذُوِيُّ الاتِّجاهِ الثَّاني في القَرنِ الخامسِ فرَاجِعٌ إلى غلَبةِ مَذهَبِ أَهلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ الذي انتَصرَ لهُ أَبو الحسَنِ الأَشعريِّ (ت:324هـ) مطالِعَ القَرنِ الرَّابعِ، وإلَى مُحارَبةِ الغُلوِّ الذي فشَا في التَّصوُّف.
ولعل أَظْهرَ صُوفيَّةِ القَرنِ الخامسِ أَبو حَامدٍ الغزاليُّ الطُّوسيُّ (ت:505هـ)، وأَبو القَاسمِ عبدُ الكريمِ بنُ هَوازِن القُشَيْريُّ (ت:465هـ)، وأَبو إِسماعيلَ عبدُ اللهِ بنُ محمَّدٍ الهرَويُّ الأَنصاريُّ (ت:481هـ)، وقَد جَهِدَ الغزاليُّ في الدِّفاعِ عَن التَّصوُّفِ السُّنِّيِّ القائمِ علَى عَقيدَةِ أَهلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ وعلَى سُلوكِ مَسلَكِ الزُّهدِ وتَربيةِ النَّفسِ وإصلاحِها، ويَرى الغزاليُّ أنَّ طريقةَ الصُّوفيَّةِ لا تَسْتَتِمُّ إلَّا بعِلْمٍ وعمَلٍ معاً، وحَاصِلُها التَّخلُّق.
ومنذُ القَرنَيْنِ الهجريَّين؛ السَّادسِ والسَّابع، انكشَفَ التَّصوُّفُ مِن جَديدٍ عَن تيَّارَينِ متقابِلَين؛ أَحدُهُما فلسَفيٌّ، والثَّاني عمَليٌّ سُلُوكيٌّ، تمثَّلَ الأَوَّلَ مُتفَلْسِفَةُ الصُّوفيَّة، وانْتَهجَ الآخرَ أَصحَابُ الطُّرُق.
والمَقصُودُ بالتَّصوُّفِ الفلسَفيِّ أَن يَعمِدَ ذَووهُ إلى تَخميرِ أَذواقِهم بأَنظارِهمُ العقليَّةِ، وهذَا اللَّونُ منَ التَّصوُّفِ دُونَ غيرِه هُو الذي نُسلِّمُ بتأثُّرِه بمَصادرَ أَجنبيَّةٍ؛ يُونانيَّةٍ أَو فارِسيَّةٍ أَو هِنديَّة، بقَصدٍ أَو دُونَ قصدٍ، علَى أَن هذَا ليسَ يَنفِي عنهُ بحالٍ جانبَ الأَصالَةِ والابتكارِ، في نِسَبٍ واسِعةٍ أَو ضيِّقَة. وثمَّةَ طابعٌ آخرُ يَميزُ هذَا التَّصوُّفَ الفَلْسَفيَّ، ونَعنِي بهِ طابعَ الإبهامِ والغُموضِ والمَجازِ في مواطنَ كثيرَةٍ، ولذَلِكَ لا يُمكِنُ عَدُّهُ فلْسَفةً مَحضةً مِن جَانبٍ، لكونِه قائِماً علَى الذَّوْقِ، كما لا يُمكِنُ عَدُّهُ تَصوُّفاً خَالِصاً مِن جانبٍ آخرَ لأَنَّ التَّعبيرَ عنهُ يجيءُ غالِباً بلُغةٍ فَلسَفيَّةٍ رامِزَةٍ، وقَد استُهدِفَ مُتصوِّفُو هذَا الطِّرازِ مِن قِبَلِ الفُقهاءِ، جرَّاءَ ما أَعلَنُوهُ أَو دوَّنوهُ مِن مَقالاتٍ في نظريَّةِ وَحدةِ الوُجودِ، ونظريَّةِ القُطبيَّةِ أَو الحقيقَةِ المُحمَّديَّة، ونظريَّةِ وَحدةِ الأَديانِ.
ولعلَّ مِن أَوائلِ الرُّوَّادِ في هذَا القَبيلِ شِهابُ الدِّين يَحيَى بنُ حبَشٍ بنِ أَميرك السَّهرَوَرْدِيُّ المَقتولُ عامَ (587هـ)(43)، بأَمرٍ مِن صَلاحِ الدِّين الأيُّوبيِّ، وهُو صَاحبُ كتابِ (حِكْمةِ الإشْراقِ)، وكانَ السَّهرَوَرْديُّ ضَالِعاً في الفلسَفةِ اليونانيَّةِ والفارسيَّةِ القَديمَةِ والهُرمُسيَّةِ، وعالماً بمَذاهبِ فلاسِفَةِ الإسلامِ، وحِكمتُهُ الإشراقيَّةُ مؤسَّسةٌ علَى الذَّوقِ لا الفِكر، ولهُ كذلكَ نظريَّةٌ في الوجُودِ عبَّر عنها بلُغةٍ رَمزيَّةٍ فيها انْبِعاثٌ مِن نظريَّةِ الفَيْض، ويرَى فيهَا أنَّ العوالِمَ الفائضةَ عَن مبدَأ الوجُودِ ثلاثةُ عَوالم؛ عالمُ العُقولِ، وعالَمُ النُّفوسِ، وعالمُ الأَجْسَام.
وتُوقِفُنا مَسيرةُ التَّصوُّفِ الفلسَفيِّ علَى عَلَمِها العِملاقِ، وشَيْخِها الأكبَرِ مُحيي الدِّينِ ابنِ عَربيٍّ (ت:638هـ)، وهُو أَوَّلُ واضعٍ لمذهَبِ وَحدَةِ الوجُودِ في صُورتهِ الكامِلَةِ، وقَد عبَّر عَن ذلكَ المَذهَبِ في إيجازٍ بعبارتِهِ الشَّهيرَة: (سُبْحانَ مَن خَلَقَ الأَشياءَ وهُو عَينُها)، ولا يُؤمنُ ابنُ عربيٍّ بالخَلْقِ مِن عَدَمٍ، وإنَّما يتَّخِذُ نظريَّةَ الفَيضِ مُنطلَقاً لمَذهبِه، فَوجُودُ المُمكِناتِ هُو عينُ وجُودِ اللهِ، فإذا نظَرْتَ إلى الذَّاتِ الإلهيَّةِ مِن حيثُ ذاتُها قُلْتَ: هيَ الحقُّ، وإذا مَا نَظرْتَ إلَيها مِن حيثُ صفاتُها قُلْتَ: هيَ الخَلْقُ.
وكانَ مِن أَشهَرِ تَلاميذِه الصَّدرُ القُونَويُّ محمَّدُ بنُ إسحاقَ (ت:672هـ)، وعَفيفُ الدِّينِ سُلَيمانُ بنُ عليٍّ التِّلمِسانيُّ (ت:690هـ)، وغيرُهُم، وامتدَّتْ آثارُ ابنِ عربيٍّ في وَحدةِ الوجُودِ إلَى عُصورٍ تاليَةٍ، لِتَجِدَ لهاَ تُبَّاعاً وأَنصاراً كُثُر، منهُم: عَبدُ الكريمِ الجِيلي (ت:832هـ)، صَاحبُ نظريَّةِ الإنسانِ الكاملِ، والكَرْمانيُّ (ت:697هـ)، وعَبدُ الرَّحمن ابنُ أحمدَ الجامِي (ت:898هـ)، والنَّابلسيُّ عبدُ الغنيِّ (ت:1143هـ).
وثمَّةَ صُوفيَّةٌ مُتَفلسِفُونَ عاصَرُوا ابنَ عربيٍّ، بيدَ أنَّ لهُم مذاهبَ مُختلِفةً عَن مَذهَبهِ، كشرَفِ الدِّينِ عُمرَ بنِ الفَارِض (ت:632هـ)، الذي يَصدقُ تَفسيرُ مذهبِهِ بوَحدةِ الشُّهود لا بوَحدةِ الوجُود، وكذلكَ ابنُ سَبعينَ؛ قطبُ الدِّينِ عبدُ الحقِّ بنُ إبراهيمَ (ت:668هـ)، الذي أَمْعنَ في إنكارِ وجُودِ المُمكِناتِ ولَم يُثبِتْ غيرَ وجُودٍ واحدٍ هُو اللهُ.
وظهرَ في فارسٍ شعراءُ منَ الصُّوفيَّةِ طبَعُوا شَاعريَّتَهُم بطابعٍ فلسَفيٍّ أَيضاً، منهُم: جلالُ الدِّين الرُّوميُّ (ت:672هـ)، صَاحبُ المَثْنَويِّ الشَّهير، وحافِظُ الشِّيرازيُّ (ت:791هـ).
وأَخيراً، هانَحنُ أُولاءِ نَحُطُّ الرَّحْلَ عندَ التيَّارِ العمَليِّ في القَرنَيْنِ الهِجريَّين؛ السَّادسِ والسَّابع، وقَصْدُنا بهِ أَصحابَ الطُّرق، هذَا التيَّارُ لا جرَمَ أنَّ لهُ اتِّصالاً وَثيقاً بالغزاليِّ وتُراثِهِ الصُّوفيِّ، إذْ كانَ تصوُّرُهُ للطَّريقِ ولقَواعدِ السُّلوكِ ذا أَثرٍ بالغٍ على رجالاتِ القَرنِ السَّادسِ، وكانَ أَشهرَهُم: السيِّدُ عَبدُ القادرِ الجَيلانيِّ (ت:561هـ)، مُؤسِّسُ الطَّريقَةِ القادريَّة، والسيِّدُ أَحمدُ الرِّفاعيُّ (ت:578هـ)، مؤسِّسُ الطَّريقةِ الرِّفاعيَّة، وأَبو الحسَنِ الشَّاذِليِّ (ت:656هـ)، مُؤسِّسُ الطَّريقةِ الشَّاذِليَّةِ، وتلميذُه المُرسيُّ أَبو العبَّاس (ت:686هـ)، وتلميذُهما ابنُ عطاءِ الله السَّكَندريِّ (ت:709هـ)، ويُساقُ في هذَا التيَّارِ العمَليِّ أَيضاً السيِّدُ أَحمدُ البَدَوِيُّ (ت:675هـ)، مُؤسِّسُ الطَّريقةِ الأَحمديَّةِ، والسيِّدُ إِبراهيمُ الدُّسُوقيُّ (ت:676هـ)، مُؤسِّسُ الطَّريقةِ البُرهانيَّة، وعَن هذِه الطُّرُقِ تَفرَّعَتْ طرُقٌ أُخرى كثيرةٌ، وغَدَتْ لَفظةُ (الطَّريقَة) عندَ مُتأَخِّري الصُّوفيَّةِ اسماً علَى طائفةٍ منَ النَّاسِ يَنتَسِبُونَ إلى شَيخٍ مُعيَّن، ويَخضَعُونَ لنِظامٍ دقيقٍ في السُّلوكِ، ويَحْيَوْنَ حياةً جماعيَّةً في الزَّوايا، أَو يَجتمِعونَ اجتماعاتٍ دَوريَّةً في مُناسَباتٍ مُعيَّنةٍ، ويَعقِدُونَ مَجالِسَ الذِّكرِ.
واختلَفَتْ أَسماءُ الطُّرُقِ في العالمَيْن؛ العربيِّ والإسلاميِّ، باختلافِ أَسماءِ مُؤسِّسِيها، واستمرَّتْ في الظُّهورِ والانتشَارِ والافْتِراعِ إِبَّانَ القُرونِ اللَّاحقَة، فَفي القَرنِ الثَّامنِ ظهَرَتْ -مثَلاً- الطَّريقةُ النَّقْشَبَنديَّةُ، علَى يدِ مُؤسِّسِها بَهاءِ الدِّين نَقشْبَند البُخاريِّ (ت:791هـ)، وانتَشرَتْ في بُلدانٍ إسلاميَّةٍ عديدَةٍ، وظهَرَتْ كذلِكَ الطَّريقةُ الخَلْوَتيَّةُ، وهيَ طَريقةٌ فارسيَّةٌ، نشَرَها في مصرَ مُصطفَى كمالُ الدِّين البكريِّ (ت:1162هـ). وفي تُركيَّا رَاجَت الطَّريقةُ البكتاشيَّةُ التي أَسَّسَها حاج بكتاش (ت:738هـ)، إلَى جَانبِ الطَّريقةِ المَوْلَوِيَّةِ المَنسُوبةِ لمولانا جلالِ الدِّين الرُّوميِّ..، وهكذا، فالطُّرقُ الصُّوفيَّةُ في تَزايدٍ وشُيوعٍ إلى أيَّامِنا هَذِه.
علَى أنَّ ثمَّةَ نشَاطاً مُهمَّاً ورائداً مِن نَوعٍ آخرَ لِلطُّرقِ القادريَّةِ والشَّاذِليَّةِ والتِّيجانيَّةِ والسَّنوسيَّةِ والمَرغينيَّة بدَا في العصرِ الحديثِ بحيثُ لا يُنكَرُ، وهُوَ أنَّ مُريدِي هذِه الطُّرقِ ورِجالاتِها كانَتْ لهُم سِهامٌ وافرةٌ في نَشرِ الإسلامِ في إِفريقيَة الوثنيَّةِ، وزادَتْ بعضُ الطُّرُقِ علَى هذَا، كالسَّنوسيَّةِ، بأَن كانَ لها حضُورٌ بالغٌ ودَورٌ حيٌّ في مُقاوَمةِ الاستِعمَار.
ثالثاً: التَّصوُّف: التَّقويمُ أَو النَّقدُ بعدَ العَرض:
* أ. التَّصوُّفُ في مُعادَلاتٍ ( رُؤيَتي ):
جَهِدتُّ كثيراً في إِحكامِ التَّصوُّفِ في قواعدَ، مُستثنِياً مِن ذلكَ (التَّصوُّفَ الفَلسَفيَّ)، مُقتَصِراً علَى التَّصوُّفِ السُّلوكيِّ المَعرِفيِّ السُّنِّيِّ، فهوَ الذي يُشكِّلُ الجُزءَ الأعظمَ في جسمِ التَّصوُّفِ، ويَشغَلُ القِسْمَ الأكبرَ مِن مِسَاحةِ التَّصوُّفِ العامِّ، علَى أَنَّني في هذَا لَسْتُ أَسلُبُ التَّصوُّفَ الفلسَفيَّ معنَى التَّصوُّفِ، رُغمَ ما يُبديهِ كثيرونَ إزاءَهُ مِن رَفْضٍ أَو امْتِعاضٍ أَو نَكيرٍ، وحَسْبي أَن أَقولَ حِيالَه: إنَّ أُولئكَ الصُّوفيِّينَ المُتَفَلسِفينَ مَا نَقَمَ منهُمُ المُناوِئونَ إلَّا أَنَّهم قالُوا بالحلُولِ والاتِّحادِ وقِدَمِ الحقيقةِ المُحمَّديَّةِ والفَناء، فَهذِه أَكبرُ المآخذِ علَيهِم من منظُورِ الخُصومِ، وتلكَ هيَ جملةُ شُذُوذاتِهم كما يُقالَ، لكنَّني في مَقامي هذَا أَستَميحُ المُخاصِمينَ والمُهاجِمينَ عُذْراً لأَقول:
إنَّ مَنْ قالَ بما قالَ مِن حُلُولٍ واتِّحادٍ وما أَشبَهَ لَم يكُنْ يَقُولُ ذلكَ إلَّا وهُو راكنٌ إلى حقيقةِ الإيمانِ باللهِ ورُسُلهِ وكتُبهِ واليَوِم الآخِرِ والقَدَر، وهذِه - كما هُو مَعلُومٌ - أَركانُ الإيمانِ، فإِنْ هُو أَخطأَ - في نظَرِكَ - فإنَّما خطَؤهُ في التَّعبيرِ والبَيانِ لا يُجاوِزُهُما، وما كانَ التَّعبيرُ والبيانُ بِانْفرادِهِما عَن المعنَى والإيمانِ في يَومٍ منَ الأيَّامِ مِعيارَ الكُفْرِ وعدَمهِ، اللَّهُمَّ إلَّا إِنْ سَلَّمَ مُسلِمٌ بِتَكفيرِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ يومَ فاهَ بكلِمةِ الكُفرِ اضطِّراراً(44)، ومثلُهُ الَّذي قالَ مِن شدَّةِ الفَرَح: (اللَّهُمَّ أَنتَ عَبدِي وأَنا ربُّك)(45)، أَوَ يَصحُّ رَميُهُ بتُهمَةِ التَّجسيمِ أَو التَّعطيلِ، ومَعهُ الكَثرةُ الكاثرَةُ من أُمَّتِنا، إنَّ مثلَ هذَا الاتِّهامِ رَميٌ في عَمايَة، فَيا أَيُّها المارُّونَ قَهْراً عبرَ القُلُوبِ الرَّقيقةِ الأَسيرَةِ رُويدَكُمْ لا تَعجَلُوا.
وأَعودُ لأَذكُرَ المُعادلاتِ التي أَرى التَّصوُّفَ من خلالِها، وهيَ:
1- التَّصوُّفُ إِحسَانٌ، والإِحسَانُ أُسلُوبٌ أَمْثلُ في مُمارسَةِ الأَفعالِ والأَقوالِ المَطلُوبةِ علَى أَساسٍ مِن مُراقَبةِ العَبدِ ربَّهُ، ويَزدادُ الأُسلُوبُ أَمْثَلِيَّةً بازْدِيادِ الوِصالِ وارتقاءِ طَبيعةِ العلاقةِ بينَ العَبدِ ورَبِّه، واستِحالَتِها مِن عَلاقةِ عَبدٍ بِرَبِّهِ إلى عَلاقةِ مُحبٍّ بِمَحبُوبهِ، قالَ رَسولُ اللهِ ص: (الإِحسَانُ أَن تَعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ، فإِن لَم تَكُنْ تَراهُ فإنَّهُ يَراكَ)(46).
2- التَّصوُّفُ قَلْبٌ ورَبٌّ يَصِلُ بَينَهُما حُبٌّ، وتُصبِحُ المُعادَلَةُ: (قَلْبٌ مُحِبٌّ ورَبٌّ مَحبُوبٌ)، وأَعلَى تَعبيرٍ لِلحُبِّ، بَلْ أَعظَمُ تَجلٍّ لهُ طاعةٌ وامْتِثال، وانْشِغالٌ واشْتِغال:
أَنتُم فُروضِي ونَفْـلي |
|
أَنتُم حَديثي وَشُغلِي |
وقالَ آخرُ:
فإن تكلَّمتُ لَم أَنطِقْ بغَيرِكُمُ |
|
وَإِنْ سَكَتُّ فَشُغْلِي عَنكُمُ بِكُمُ |
3- التَّصوُّفُ تَصوُّفان: تَصوُّفُ سُكْرٍ، وتَصوُّفُ ذِكْرٍ:
- فأمَّا الذِّكرُ: فَيَعني الاستِحضارَ والاستِعانَةَ، ومَن ذَكرَ اسْتَحضَرَ، ومَن اسْتَحضَرَ اسْتَعانَ، وإِذْ تَسْتَحضِرُ وتَسْتَعِينُ فإنَّ المُستَعانَ يَحضُرُ ويُعينُ أَيَّما إِعانَةٍ: (ومَا يَزالُ عَبدي يَتقرَّبُ إِليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإِذا أَحبَبْتُهُ كُنتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بهِ، وبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ بهِ)(47).
- وأَمَّا السُّكْرُ: فهُو الغِيابُ عَن السِّوَى، وشُهودُ المَعبُودِ، فَما ثَمَّ -في الحقيقَةِ- إلَّا هُو، والعِبرَةُ هاهُنا لِلفاعليَّةِ المُؤثِّرةِ، فَـ(إِنْ لَم يكُنْ بكَ علَيَّ غَضَبٌ فَلا أُبالي)، كما في الدُّعاءِ النَّبويِّ(48).
4- التَّصوُّفُ -مِن حَيثيَّةٍ أُخرَى- تَصوُّفانِ: تَصوُّفُ عِرفَانٍ، وتَصوُّفُ سُلُوكٍ، والعِرفانُ غَيرُ المَعرِفَةِ، إِذا مَا لَحظْنا طَريقَ كلٍّ مِنهُما، فالعِرفانُ وَسيلتُهُ الكَشفُ والمُشاهَدَةُ والبَصيرَةُ، أمَّا المَعرِفةُ فوَسيلَتُها الحواسُّ والتِّجرِبةُ والمُلاحَظَةُ، ومَوضُوعُ العِرفانِ (اللهُ)، حتَّى وإن انْطَلقَ العارِفُ مِن نَفسِه، فَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فقَد عَرَفَ رَبَّهُ.
* ب. التَّصوُّفُ والغَربُ (قَبْلاً وبَعدَاً):
في الدِّراساتِ الصُّوفيَّةِ يُسلِّمُ الباحثُونَ بالتأثيرِ الواضِحِ والإضافاتِ المُهمَّةِ التي أَعْقَبتْها شَخصيَّاتُ التَّصوُّفِ الإسلاميِّ في ميدانِ التَّصوُّفِ المَسيحيِّ في العَصرِ الوَسيطِ، وكذَا في إنتاجِ الفِكرِ الأَوروبِّي منذُ بَواكيرِ النَّهضَة، وقَد كانَ لتلكَ الشَّخصيَّاتِ حظٌّ وفيرٌ مِن درَاساتِ المُستَشرِقينَ المُحدَثينَ والمُعاصِرينَ، فقَد عرَفَ المَدرَسِيُّونَ في أَوروبَّا الغزاليَّ وفَلسَفَتَهُ مِن طَريقِ ما تُرجِمَ مِن بَعضِ كتُبهِ في العَصرِ الوَسيطِ وأَوائلَ عَصرِ النَّهضَة، فقَد تَرجمَ (كنديسا لفو) (مقاصدَ الفلاسِفَةِ ) إلى اللَّاتينيَّة، ونُشِرَ في فيينَّا عامَ (1506م)، وتَرجمَ ( كالونيموس) (تَهافُتَ الفلاسِفَةِ) إلى اللَّاتينيَّةِ أَيضاً، وتَرجِمَ إلى العِبريَّةِ الكتابَينِ المَذكورَين، وتُرجِمَتْ أَجزاءٌ مِن (إحياءِ علُومِ الدِّين) إلى لُغاتٍ أَوروبِّيةٍ أُخرَى، كالإنكليزيَّةِ والإسبانيَّة، وتَرجَمَ (هومز) و(ألباني) (كيمياءَ السَّعادة) إلى الإنكليزيَّةِ عامَ (1873م)، وترجَمهُ إلى الإنكليزيَّةِ (دي فيلد) في لُندُن عامَ (1910م)، وتَرجمَ من قبلُ (باربييه دي مينارد) (المُنقِذَ منَ الضَّلالِ) إلى الفِرنسيَّةِ سنةَ (1838م)، وتَرجَمهُ إلى الفرنسيَّةِ أَيضاً (شمو يلدرز)، وإلَى الإنكليزيَّةِ تَرجمهُ (دي فيلد). وهناكَ عناوينُ أُخرَى وتَرجماتٌ كثيرَة، وقَد عدَّ المُستَشرِقُ الإسبانيُّ (هرنانديس) أَكثرَ مِن أَربعينَ دراسةً في أَوروبَّا تَناوَلَتْ حياةَ الغزاليِّ بأَطوارِه المُختلفَةِ وأَفكارَهُ المؤثِّرَةَ في الفكرِ الغربيِّ.
كذلكَ كانَ لابنِ عربيٍّ أَثرٌ جليلٌ وعَميقٌ علَى أَعلامٍ مِن مُفكِّري أَوروبَّا، ولعلَّ الفَضلَ في بَيانِ هذا الأَثرِ الأكيدِ عائدٌ إلى المُستَشرِقِ الإسبانيِّ (آسين بلاثيوس)(49) الذي أَثبتَ تأثُّر (دانتي) في (الكوميديا الإلهيَّة) برِسالَةِ (الإسراءِ والمعراجِ) لابنِ عربيٍّ، وقَد اكتُشِفَ الأَصلُ اللَّاتينيُّ المُتَرجَمُ لرِسالةِ ابنِ عربيٍّ هذِه بعدَ وفاةِ بلاثيوس عامَ (1946م)، ويَذهبُ (بلاثيوس) إلى أنَّ جميعَ الصُّوفيَّةِ الذين أَتَوا بعدَ ابنِ عربيٍّ -في الشَّرقِ والغَربِ علَى السَّواء- قَد تأثَّروا بهِ في نِسَبٍ كبيرَةٍ أَو قليلَة، بلْ إنَّ ابنَ عربيٍّ كانَ مَعرُوفاً عندَ المَدرَسيِّينَ في أَوروبَّا قبلَ (دانتي).
وفي عِدادِ الشَّخصيَّاتِ الصُّوفيَّةِ التي عُرِفَتْ في أَوروبَّا وكانَ لها تأثيرٌ في التَّصوُّفِ المَسيحيِّ يجيءُ محمَّدُ بنُ عبَّادٍ الرَّنديُّ الصُّوفيُّ الأَندلسيُّ (ت:792هـ)، وهُو صُوفيٌّ شاذِليٌّ شَرحَ حِكمَ ابنِ عطاءِ الله(50)، حتَّى إنَّ (بلاثيوس) أكَّد في دراسةٍ لهُ أنَّ الإسبانيَّ (يُوحنَّا الصَّليبيَّ) المُتوفَّى سنةَ (1591م)(51) مُتأثِّرٌ بابنِ عبَّاد.
ومِن بَينِ المُتصوِّفةِ الذينَ عَرفَتهُم أَوروبَّا ابنُ سَبعينَ؛ عبدُ الحقِّ بنُ إبراهيمَ (ت:668هـ)، إذْ أَرسلَ إلَيهِ الإمبراطُورُ (فردريك الثَّاني ت:1250م) حاكمُ صِقلْيَة أَسئِلةً أَربعةً حولَ بعضِ المَسائلِ الفَلسَفيَّةِ فأَجابَهُ عَنهَا بكتَاب: (جَوابُ صَاحبِ صِقلْيَة)(52).
وقَد بيَّنَ المُستَشرِقُ الإنكليزيُّ رينولد نيكلسون (ت:1945م) كيفَ تعلَّمَ الغربُ منَ التَّصوُّفِ الإسلاميِّ قائلاً: (أمَّا فيما يتَّصلُ بالمَسائلِ الصُّوفيَّةِ، مِن ناحِيَتِها السَّيكلُوجيَّةِ والنَّظريَّةِ، فالغَربُ لا يزالُ يتعلَّمُ الكثيرَ عَنها منَ المُسلِمينَ، وإنَّ دَيْنَ الغَربِ لِلمُسلِمينَ كانَ، ولا شكَّ، عَظيماً، بلْ قَد يكونُ غَريباً حقَّاً أنَّ رِجالاً مثلَ القدِّيس تُوماس الإكوينيِّ وإيكهَارت ودانتي لَم يَصِلْ إِلَيهِم أَثرٌ مِن هذَا المَصدَرِ، فإَّن التَّصوُّفَ كانَ المَيدانَ الذي اتَّصلَتْ فيهِ مَسيحيَّةُ القُرونِ الوُسْطَى بالإسلامِ اتِّصالاً وَثيقاً)(53).
هذِه الشَّواهدُ وأَمثالُها غيضٌ من فَيضٍ أَو دينارٌ من قِنطَارٍ، ولَن نُحاوِلَ الحصرَ هاهُنا فَضلاً عَن أَن ندَّعيَه، ولكنَّنا نَزيدُ علَى ما سُقناهُ معنًى آخرَ، وهُو أنَّ تأثُّرَ الغَربِ بالتَّصوُّفِ لَم يَقِفْ عندَ حدِّ دراستِه، بلْ بلغَ بكثيرٍ من عامَّتِه وخاصَّتِه مبلَغَ اعتناقِ الإسلامِ، وهكَذا كانَ التَّصوُّفُ -أَو كادَ أَن يكونَ- البوَّابةَ الوَحيدَةَ التي اتَّخذَها مُسلِمُو الغَربِ مُدخلَ صِدقٍ إلَى رحابِ الإسلامِ، وهُنا نَذكرُ تَحليلاتٍ لهذا الذي أَشرنا إلَيه:
فلَقَد وجدَ الغربيُّونَ في التَّصوُّفِ -أَوَّلاً- المَلاذَ الأَخلاقيَّ بعدَ أَن ارتكَسَتْ بلادُهُم في وَهدَةِ الأَزمةِ الأَخلاقيَّةِ، أَوَلَيْسَ التَّصوُّفُ كلُّهُ أَخلاقاً؟، ومَن زادَ علَيكَ في التَّصوُّفِ زادَ عليكَ في الأَخلاقِ، كما قرَّرنا في الصَّفحاتِ السَّالِفَة؟.
وفي التَّصوُّفِ لاحَتْ للغَربِ -ثَانياً- بَوارِقُ أَملٍ في إِحقَاقِ التَّواصُلِ الإنسانيِّ المَنشُودِ فِطْرةً، ولاسيَّما أنَّ هنالكَ فَلسَفاتٍ صُوفيَّةً مُتعدِّدةً تَتحَدَّثُ عَن الكمالِ والتَّكامُلِ الإنسانيِّ ضِمْنَ خَطِّ الاتِّصالِ معَ اللهِ، تتَّسِعُ حدُودهَا اتِّساعَ الوجُودِ الإنسانيِّ بكُلِّ دياناتِه ومَذاهبِهِ وأَطيافِه، ومِثلُ هذِه الفلسَفاتِ والرُّؤى الصُّوفيَّةِ تكفُلُ للغَربيِّين الَّذينَ أَسلَمُوا مِن طَريقِ التَّصوُّفِ اسْتِمرَارَ التَّعايُشِ معَ سَائرِ النَّاسِ في مَواطِنِهِم، دُونَما تحرُّجٍ أَو تأَثُّمٍ، وتَحيدُ بهِم عَن مَزالِقِ القَطيعَةِ أَو العداوَةِ التي قَد يَزِلُّونَ فيهَا لَو أَنهُم أَسلَمُوا أَو عرَفُوا الإسلامَ مِن طَريقِ الجهَادِ والسَّلَفيَّةِ وما شَابَه(54).
وثَالثاً، فإنَّ الغَربيِّينَ، وتَحتَ ضَغْطِ المادَّةِ الجاثِم، قَد بَحثُوا عَن خَلاصٍ أَو دَواءٍ يَنجُو بأَرواحِهِم التي باتَتْ بجَنْبِ المادَّةِ المَعرُوشَةِ خَاوِيةً علَى عُروشِها، فتَنادَوا مُصبِحينَ: أَنِ اغْدُوا علَى أَرواحِكُمْ مُنعِشينَ، فَوَجَدُوا في الصُّوفيَّةِ طَلِبَتَهُم، ووَقعُوا منهَا علَى الدَّواءِ الذي يُزكِّي القَلْبَ ويُطهِّرُ السِّرَّ ويَصِلُ بالحيِّ القيُّومِ ويُحرِّرُ الأَرواحَ مِن أَصفَادِ المادَّةِ النَّاهِكَةِ، ومَا إلَى ذلِكَ مِن خَواصٍّ ارتقائِيَّةٍ، فهَلْ مِن مُدَّكِر؟.
وأَخيراً، فإنَّ التَّصوُّفَ قَد أَعطَى المَرأةَ حقَّها الذي يُريدُهُ لَها الغَربُ المتطوِّرُ، ومنحَها الوَضعَ الأَكثرَ مُناسَبةً لَها في تِلكَ البلادِ، ولهذَا قالَت الباحثَةُ الأَلمانيَّةُ أَنّيماري شيمِل (ت:2003م): "إنَّ التَّصوُّفَ كانَ أكثرَ تَأييداً لتَطوُّرِ النَّشاطَاتِ الأُنثَويَّةِ ممَّا كانَتْ علَيهِ أَفْرُعُ الإسلامِ الأُخَر"(55).
وإِذا مَا رُحْتَ تَحكي حكايةَ رَبائِبِ التَّصوُّفِ منَ الشَّخصيَّاتِ النِّسائيِّةِ فسَيُعييكَ الحصرُ لكَثرَتِهِنَّ، فمِنْ نَفيسَةِ العلُومِ، إلَى رابعةَ العدَويَّةِ، ومِن مَرْيمَ البَصريَّةَ إلى رَيحانةَ الوالِهَة، ومِن فاطِمةَ النَّيسابُوريَّةِ إلى فاطِمةَ القُرطبيَّة، ونظَائِرُهُنَّ كُثُر(56)، حتَّى لَقَد قالَ ابنُ عربيٍّ عَن المَرأةِ عامَّةً أَو نَوعاً: (إنَّها مَجْلَى الكمالِ الإِلهيِّ أكثرَ مِن الرَّجُل)، بَلْ لَم يتَحرَّز منَ القَولِ بإمكانِ أَن تَكُونَ المرأةُ بينَ الأَبدالِ والأَقطابِ في هرَميَّةِ الأَولياءِ(57)، ولَم تكُن أَمثالُ تلكَ الأَحوالِ والأَفكارِ قَصْراً علَى فئةٍ منَ المتصوِّفةِ دُونَ أُخرَى، بلْ كانَتْ دَيْدَنَ الجميعِ حيثُما وُجِدُوا؛ مِنَ المَشرِقِ إلَى المَغرِبِ، ومنَ الشَّمالِ إلى الجَنُوبِ.
واللَّافِتُ للنَّظَرِ أنَّ لِربائبِ التَّصوُّفِ استِمراراً وحضُوراً في العَصرِ الحديثِ أَيضَاً، ولا يَزالُ شأنُ (الشَّيخاتِ) أَو المُوجِّهاتِ في فَاعليَّةٍ وتنامٍ.
* ج. التَّصوُّفُ ؛ هَل هُو الحلُّ للأَزَماتِ ( العَوْلَمةِ ) الإِنْسَانيَّة:
لا أُرانِي مُبالِغاً إذا قُلتُ ابتِداءً: إِنِّي وَجدتُّ في التَّصوُّفِ حلَّاً لأَزَماتي النَّفسيَّة، ومَا أَزَماتي -في طبيعَتِها- إلَّا تَقطيرٌ لِغَمامِ أَزَماتِ عالَمٍ أَعيشُهُ وأُحِسُّه، فتَتهاوَى تلكَ الأَزماتُ كِسَفاً في وعَاءاتِ عَقلي وقَلبي وجَوارِحي. وبعدَ ذلِكَ، إنْ أَنا أَو أَنتَ سأَلْنا العالَم اليَومَ عَن أَزماتِه بَادرَنا بِعَدِّها دِراكاً: العُنفُ، والإِرهابُ، والبَطَرُ، والأَثَرةُ، والبَغضاءُ، وطُغيانُ المادَّةِ، والتَّفحُّشُ، والجِنْسُ، والعُجْبُ، والكِبْرُ...، ويكادُ لا ينتَهي. فَبماذا نُجيبُه؟
وجَوابِي الذي أَرتَضيهِ: إنَّ التَّصوُّفَ في أَوْلَى وَظائفِه لا يَعدُو أَن يَتناولَ أَجناسَ هذِه الصِّفاتِ والأَحوالِ المَريضَةِ، ليَأْتيَ علَيها بالعافِيَة والإِبراءِ، فيَمحُوَهَا مِن القَاموسِ الإنسانيِّ مَحواً تامَّاً، في مُستَوَياتِ الفِكرِ والعمَلِ والسُّلوكِ جميعاً، يَفْعَلُ هذَا باسمِ (التَّخلِيَة)؛ يُخلِّي النَّفسَ الإنسانيَّةَ والمُجتَمَعَ الإنسانيَّ مِن تلكَ الصِّفاتِ المَريضَةِ المُتخلِّفَةِ ليُحلَّ محلَّها -في خُطوةٍ تَالِيةٍ- صِفاتِ الصحَّةِ والحضَارَةِ مِن: تَسامُحٍ، وطُمَأنينَةٍ، وأَمنٍ، وزُهْدٍ، وإيثارٍ، وعلاقاتٍ متَوازِنَةٍ في كلِّ مجالٍ، يفعَلُ هذَا باسمِ (التَّحلِيَة)، فالتَّصوُّفُ إذاً: تَخلِيةٌ وتَحلِيةٌ، فأَخلِق بهِ حلَّاً جديراً بالتَّبنِّي والاعتبارِ، ولاسيَّما أَنَّهُ يُؤسِّسُ ما يُؤسِّسُ مِن سُلُوكاتٍ وصِفَاتٍ علَى قاعدةٍ مِن عِرفانٍ شفَّافٍ ويَقينيٍّ.
أَجَلْ، التَّصوُّفُ هُو الحلُّ الذي ليسَ منهُ بدٌّ أَو بَديلٌ، ودَعني مِن تَصوُّفٍ فاسدٍ أَو مُدَّعًى أَو خَمولٍ أَو كَسُولٍ أَو جَهولٍ، فأَنا لا أَبغيهِ مُدافِعاً عنهُ، بل الذي أَعنيهِ وأَحفَلُ بهِ في قَصدٍ وعنايَةٍ هُو الذي يُحاكِي ما أَورَدناهُ مِن تَعريفاتٍ في مُستَهَلِّ بَحثِنا، وهوَ الذي يتناسَبُ حَالاً وقَالاً وسلُوكاً معَ تلكَ الشَّخصيَّاتِ المُؤسِّسَةِ التي عَرَّجْنا علَى ذكرِ بَعضِها، وهوَ الذي يَقْبلُ -بعدَ ذلِكَ- أَن يكونَ استِمراراً صالِحاً يُجانِسُ سَيرُورةَ التَّصوُّفِ التي أَشَدْنا بهَا ونوَّهنا بِتأثيراتِها الإيجابيَّةِ غَرباً وشَرقاً.
التَّصوُّفُ المَنشُودُ -يا ناسُ- هُوَ: راحةُ الأَجسامِ في قلَّةِ الطَّعامِ، وراحةُ النَّفسِ في قلَّة الآثامِ، وراحةُ القلبِ في قلَّةِ الاغتمامِ؛ الاغتمامِ اللَّافِتِ عَن التَّفكيرِ والتَّفكُّر، وراحةُ اللِّسانِ في قلَّةِ الكلامِ.
التَّصوُّفُ: أَن تُحِبَّ اللهَ فيدفعَكَ هذا الحبُّ إلى تَحسينِ عَملِكَ، وتَسديدِ قَولِكَ، وتَحريرِ نيَّتكَ؛ أَن تكونَ مُوجَّهةً لغَيرِ الله.
التَّصوُّف: تَخلُّقٌ بأَخلاقٍ حسَنَةٍ؛ تَبتدِىءُ بالإخلاصِ، وتَمرُّ بِكفِّ الأَذى وكَسْبِ الحلالِ، وتَؤولُ إلى احتمالِ الأَذى والمُواجهَةِ بِالإنصافِ والحِلْمِ والكَرَمِ.
التَّصوُّف: انتِقالٌ مِنَ الشَّكِّ إلى اليَقينِ، ومِنَ التَّردُّدِ إلى العَزْمِ، ومِنَ التَّكبُّرِ إلى التَّواضُع، ومِنَ العَداوةِ إلى المحبَّة، ومِنَ الضِّيقِ إلى السَّعَة، ومِنَ الطَّمعِ إلى القَناعةِ، ومِن سَفاسِفِ الأُمورِ إلَى المَعالِي.
التَّصوُّفُ: مُجاهَدَةُ الهوَى، وكَبْحُ جماحِ دَاعي الشَّهَواتِ، واحترازٌ شَديدٌ عَن الاتِّهام، والخطأُ في تَركِ أَلفِ كافرٍ في الحياةِ أَهْوَنُ مِن الخطَأ في سَفْكِ دمِ مُسلِمٍ واحدٍ.
أمَّا بعضُ التَّصوُّفِ المَرفُوضِ اليومَ فقَد أَمسَى خِرقَةً علَى الجسَدِ بعدَ أَن كانَ حُرقةً في القَلْبِ، وغَدا اكتِسَاباً بعدَ أَن كانَ احتِسَاباً، وهَاهُو يُرى جَريَاً وراءَ الطَّعامِ والشَّرابِ بعدَ أَن كان قَفْواً واتِّباعاً للآلِ والأَصحابِ..، فَـ﴿ حَسْبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكيلِ ﴾ امْتِثالاً للآيةِ الكَريمَة.
ورُغمَ هذَا، فكَبيرُ الأَملِ يَحدُوني وأَنا أَقرأُ الآيةَ التي بعدَها، وأُعيدُ قراءَتها: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ [آل عِمران:174]، علَى أَنَّ واوَ الجماعَةِ شاخِصةٌ في العالَمِ كلِّه، أمَّا النِّعمةُ فهيَ الإسلامُ الحقُّ، يُعلِنُهُ الإنسانُ بكلِّهِ، طواعيةً للهِ، ووَفاءً بعَهدِهِ، وتَصديقاً بوَعدِه.
والحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ
(1) رَ: القُشَيريّ، أَبو القاسمِ عبدُ الكريم بنِ هَوازِن النَّيسابُوريِّ (ت:465 هـ): الرِّسالَة القُشَيريَّة، تَحقيق: مَعرُوف زريق وعَلي عَبد الحميد ، ط2، دارُ الجيلِ ، بَيرُوت ، 1990م .
(2) رَ: الطُّوسي، أَبو نَصرٍ السِّراجُ: اللُّمع: ص42-43، تَحقيق: د. عَبد الحليم محمُود، وطَه عَبد الباقي سُرور، دار الكتُب الحديثة، القاهرَة، 1960م .
(3) رَ: الطُّوسي: اللُّمع: ص42 .
(4) يقولُ ابنُ هشام (ت:213هـ): ( وكانَت صُوفَةُ تدفعُ بالنَّاسِ من عَرفَةَ وتُجيزُهم إذا نَفَرُوا من مِنًى، فإذا كانَ يومُ النَّفْرِ أتَوا لرَمْي الجِمار، ورَجلٌ من صُوفةَ يَرمي للنَّاس، لا يَرمون حتَّى يَرمي، فكان ذَوو الحاجات المُعجِّلون يأتونَه فيقولُون لهُ: قُمْ فارْمِ حتَّى نَرميَ معكَ ) وكان آخرَهمُ الذي شهدَ عهدَ الإسلام ( كَرِبُ بنُ صَفوان ). رَ: السِّيرة النَّبويَّة : 1/250، وتاريخ الطَّبري: 1/507 .
(5) رَ: الطُّوسي: اللُّمَع: ص43 .
(6) - تُوفّيَ عامَ (105هـ) .
(7) رَ: الطُّوسي: اللُّمع: ص44، وابنُ الجوزي، عبد الرَّحمن بنُ عليٍّ: صفَة الصَّفوة: 2/185، ط2، مؤسَّسةُ الكتُبِ الثَّقافيَّة، بَيروت، 1992م .
(8) رَ: ماسِينيون ومُصطَفى عبد الرَّازق التصوُّف (دائرَة المعارِف الإسلاميَّة): ص27، ط، دار الكتاب اللُّبنانيِّ، بَيروت، 1984م .
(9) مُساورُ بنُ سِوار بنِ عَبدِ الحميد الكوفيُّ، شاعرٌ مُقلٌّ ومن أَصحابِ الحديثِ ورُواتِه، رَ: الأغاني: 18/153.
(10) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالة القُشَيريَّة: ص280، والسَّهروَردي، شهابُ الدِّين أَبو حَفصٍ عُمَرُ بنُ محمَّدٍ: عَوارِفُ المعارِف: ص79 ، مُلحَق بإحياءِ علومِ الدِّين للغزالي، دار الفِكر، بيروت، د.ت .
(11) رَ: السُّلمي، أَبو عَبد الرَّحمن محمَّدُ بنُ الحُسين: طَبقاتُ الصُّوفية: ص19، تحقيق: نور الدِّين شريبة، ط3، مكتبة الخانجي، القاهِرة، 1986م .
(12) رَ: السُّلَمي: طَبقاتُ الصُّوفيَّة: ص498 .
(13) رَ: الطُّوسي: اللُّمَع: ص45 .
(14) رَ: السَّهرَوَردي: عَوارِفُ المعارِف: ص81 .
(15) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص282.
(16) رَ: السُّلَمي: طَبقات الصُّوفيَّة: ص340 .
(17) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص280.
(18) رَ: السُّلَمي: طَبقاتُ الصُّوفيَّة: ص374 .
(19) رَ: الطُّوسيّ: اللُّمَع: ص45 .
(20) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص283 .
(21) رَ: المصدَر السَّابقَ، والصَّفحةَ عينَها.
(22) رَ: المصدَرَ السَّابقَ، والصَّفحةَ ذاتَها .
(23) رَ: السُّلَمي: طَبقاتُ الصُّوفيَّة: ص119 .
(24) رَ: ابن عرَبيّ: الفُتوحاتُ المكِّية: 11/344، تحقيق وتَقديم: عُثمان يَحيى، تَصدير ومُراجعة: د. إِبراهيم مَدكور، ط2، الهيئَة المصريَّة العامَّة للكِتاب، القاهِرة، 1985م .
(25) رَ: المَوسُوعَة الفَلسفيَّة العربيَّة: المُجلَّد الثَّاني، إشراف: مَعن زِيادَة، مَعهد الإنماءِ العربيِّ، بَيروت، 1996م .
(26) رَ : الكلاباذِي، أَبو بكرٍ مُحمَّد: التَّعرُّف لمذهَبِ أَهلِ التَّصوُّف: ص34-35، تَحقيق: محمود أَمين النُّوري، ط2، مكتَبة الكلِّيات الأَزهريَّة، القاهِرة، 1980م .
(27) احتدمَ جدَلٌ كبيرٌ بينَ دارِسي التَّصوُّف منَ الأَوربِّيين المُستَشرِقينَ منذُ القَرنِ التَّاسعَ عشرَ حولَ أُصولِ التَّصوُّفِ الإسلاميِّ، وهَل هُو آتٍ مِن مصادرَ أَجنبيَّةٍ في حضَاراتٍ سَالِفَة، فكانَ من ذلكَ أَربعةُ اتِّجاهاتٍ في هذِه المَسألَة: فأحدُها يَردُّ التَّصوُّفَ الإسلاميَّ إلى مَصدَرٍ فارسيٍّ، والثَّاني إلَى مَصدَرٍ هنديٍّ، والثَّالثُ إلى مَصدَرٍ مَسيحيٍّ، والرَّابعُ إلَى مَصدَرٍ يُونانيٍّ. غيرَ أنَّ المُعاصِرينَ من المُستَشرِقينَ يرُدُّونَهُ -بعدَ السَّبرِ والتَّحقيقِ- إلَى مَصدَرٍ إسلاميٍّ كما أَثبَتنا في المَتنِ أَعلَاه. فَليُنْظَر .
(28) رَ: الطُّوسيّ: اللُّمَع: ص21 .
(29) لابنِ خلدُون تجربةٌ في الكتابَةِ الصَّوفيَّةٌ في كتابِه (شِفاءُ السَّائل وتَهذيبُ المَسائِل)، ولكنَّها نَزعةٌ لَم تُهَيمِن علَيهِ حتَّى يُعرَفَ بِها، أَو تَدخُلَ بهِ مداخلَ القَومِ .
(30) رَ: ابن خلدُون: المُقدِّمة: ص514، تَحقيق: درويش الجويدي، ط1، مكتبة العصريَّة، بَيروت، 1995م .
(31) رَ: نيكلسون، رينولد: في التَّصوُّف الإسلاميِّ وتاريخِه، ترجمة: د. أَبو العُلا عَفيفي، مَطبعة لجنةِ التَّأليفِ والتَّرجمةِ والنَّشر، القاهِرة، 1956م .
(32) رَ: ماسينيون، لويس: بَحثٌ في أُصولِ المُصطلَح الفنِّي للصُّوفيَّة المُسلمين، باريس،1922م، والغُنَيمي التَّفتازاني،د.أَبو الوَفا: مدخَلٌ إلى التَّصوُّفِ الإسلاميِّ:ص48،دار الثَّقافَة للنَّشر والتَّوزيع،القاهرَة، 1979م.
(33) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص433 .
(34) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص433، والسَّهروَردي: عَورِاف المعارِف: ص78 .
(35) رَ: السَّهروَردي: عَورِاف المعارِف: ص78 ، والقُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص433 .
(36) رَ: القُشَيريّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص 428 .
(37) رَ: السُّلَمي: طَبقات الصُّوفيَّة: ص 48-53 .
(38) رَ: المُقدِّمة: ص210 .
(39) أَبرزُ رجالِ مَدرَسةِ المدينَة سعيدُ بنُ المسيِّب (ت:91هـ)، وأَبرزُهم في البَصرةِ الحسَنُ البَصريُّ (ت:110هـ)، وفي الكُوفةِ سعيدُ بنُ جُبَير (ت:95هـ )، وسُفيان الثَّوري (ت:161هـ)، وفي مِصرَ اللَّيثُ بنُ سَعد (ت:175هـ)، وفي خُراسانَ إبراهيمُ بنُ الأَدهم (ت:161هـ)، والفُضَيلُ بنُ عِياض (ت:187هـ) .
(40) يَرى بعضُ الدَّارسينَ أَنه دُسَّتْ عليهِ مثلُ هذِه الأَقوالِ، أَو فاهَ بها وهُو في حالِ غَيبةٍ تامَّة. رَ: الطُّوسيّ: اللُّمَع: ص391، وعبد الرَّحمن بدَوي: شَطَحاتُ الصُّوفيَّة: ص28 فما بعدَها .
(41) قَضَى الحلَّاجُ قَتْلاً، بمُقتَضى فَتوى صدَرتْ ضِدَّه عَن عدَدٍ من مشايخِ عَصرِه، واختلَفَ النَّاسُ حولَ عقيدَتهِ في حَياتهِ وبعدَ مماتِه اختِلافاً عَريضاً، وقَد درَسَهُ بتَوسُّعٍ جمعٌ منَ المُستَشرقينَ، كانَ أبرزَهُم لويس ماسينيون (ت:1962م) .
(42) رَ: القُشَيريَّ: الرِّسالَة القُشَيريَّة: ص280-281 .
(43) قيلَ: إنَّ صلاحَ الدِّينِ أَوعزَ إلى ابنِه بقَتلِه، فقَتلوهُ جُوعاً، إذْ منعُوا عنهُ الطَّعامَ حتَّى تلِفَ وماتَ، ويلتَبسُ علَى بعضِ الدَّارسينَ في مواردَ كثيرَةٍ السَّهرَورديُّ المَقتولُ هذَا بالسَّهرورديِّ شهابِ الدِّين أَبي حَفصٍ عُمَرَ بنِ محمَّدٍ الصُّوفيِّ الشَّافعيِّ المُتوفَّى سنةَ (632هـ)، وهُو صاحبُ كتابِ (عوارفِ المعارِف)، فليُتنبَّه.
(44) والاضطِّرارُ لا يكونُ دَوماً بدافعِ تَهديدٍ خَارجيٍّ، بَلْ قَد يكونُ استِجابةً لِنداءٍ داخليٍّ مُلِحٍّ وضَاغِطٍ فَلا يُطيقُ الإنسانُ لهُ دَفعاً، ولا يَستطيعُ مَعهُ اختِياراً ولا تَفكيراً، وهُو الذي يُسمِيهِ عُلَماءُ النَّفس (الإِغْلَاق) .
(45) أَخرجهُ مُسلِم في صَحيحِه: كتاب التَّوبَة، باب الحضِّ على التَّوبةِ والفرَح بها: 4/2102، رقم (2675). ولابنِ سَبعينَ في هذَا المَعنَى أَبياتٌ يقولُ فيها:
مَظـاهرُ الحـقِّ لا تُـعَدُّ |
|
والحـقُّ فـيـهَا لا يُحَـدُّ= |
(46) أَخرَجَهُ الشَّيخانِ؛ البُخاريُّ في: كتابِ الإيمان، بابُ سؤالِ جبريل النَّبيَّ ص: 1/27، رقم (50)، ومُسلِم في: كتابِ الإيمان، باب بَيان الإِيمان والإسلام والإِحسَان: 1/36، رقم (8) .
(47) جُزءٌ من حَديثٍ شَريفٍ أَخرجَهُ البُخاريُّ: كتاب الرِّقاق، باب التَّواضُع: 5/2384، رقَم (6137) .
(48) رَ: ابن هِشَام: السِّيرَة النَّبويَّة: 2/268.
(49) رَاجِع مَثلاً كتابَه: ( ابن عربيٍّ، حياتُه ومَذهبُه)، تَرجمة: د. عَبد الرَّحمن بدَوي، مكتبة الإنجلُو المِصريَّة، القاهِرَة، 1965م .
(50) في كتابِه: (غَيثُ المواهبِ العليَّة في شَرح الحِكَم العطائيَّة).
(51) يُوحنَّا الصَّليبيُّ رَأسُ المدرسةِ الكَرمليَّةِ المسيحيَّةِ التي تتبنَّى الزُّهدَ مِنهاجاً، حتَّى الزُّهد في الكراماتِ، وتُنادي بالإخفاءِ ومُناهَضةِ الظُّهور .
(52) رَ: الغُنَيمي التَّفتازاني، د. أَبو الوَفا: ابن سَبعين وفَلسفتُه الصُّوفيَّة، دار الكتابِ اللُّبناني، بيروت، 1973م.
(53) رَ: مجلَّة الجمعيَّة الفَلسفيَّة المِصريَّة: العدَد الرَّابع، كانون الثَّاني، 1996م .
(54) حولَ هذَا المعنَى كتبَ كثيرٌ من المُستَشرِقين، رَاجِع مثلاً: أَبعَاد صُوفيَّة للإسلام، للألمانيَّة أنِّيماري شيمِل، والإسلامُ يَسكُنُ مُستَقبلَنا: لرُوجيه غَارودي، والأَلفيَّة الثَّالثَة؛ ديانةٌ في صُعودٍ: لمُراد هوفمان، والإسلامُ كَبديلٍ: لمُراد هُوفمان أَيضاً، وأَزمةُ العالَم المُعاصِر: لرينيه غينون (عبدالواحد يَحيي)، وسِواهُم .
(55) رَ: شِيمِل: أَبعادٌ صُوفيَّةٌ للإسلامِ: ص573 .
(56) راجِع في هذَا ما أَحصاهُ أَبو عَبد الرَّحمَن محمَّدُ بنُ الحُسَين السُّلَمي الأَزدي (ت:412هـ) في ذيلِ كتابهِ (طبقاتِ الصُّوفيَّة) تَحتَ عُنوان:(ذكرُ النِّسوَةِ الصُّوفيَّات).
(57) رَ: شيمِل: أَبعادٌ صُوفيَّةٌ للإسلامِ: ص583 .
التعليقات