آخر تحديث: الجمعة 26 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
السّعة: خلقٌ حضاري

السّعة: خلقٌ حضاري

تاريخ الإضافة: 2011/03/04 | عدد المشاهدات: 3001

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

من خلال ما أسمع من تربية الوالد لولده أو الأم لابنتها أو الأخ الأكبر لأخيه، أعجبني خُلُق يربي فيه مجتمعنا الكبير الصغير، ويربي عليه الأب ولده، وتربي عليه الأم ابنتها، أعجبني هذا الخُلُق، أتدرون ما هو ؟ أوما تسمعون من آبائكم أو من أمهاتكم أو من الكبار عندكم من يقول لك أو لأخيك: يا بني كن واسعاً، اتسع لأخيك، يا أخي، يا جاري كن واسعاً، الإناء الأكبر يتسع للإناء الأصغر، أعجبني هذا الخلق وقلت في نفسي لأثبتنه ولأتحدث عنه ولأبرهن للناس على أنه خُلق ثبته الإسلام ودعا إليه وأمر به الإسلام.

السّعة عنوان الحضارة، حتى إن بعضهم عرّف الحضارة بأنها سعة، إذا كنت تتسع للآخر فأنت حضاري وإن لم تكن تتسع للآخر فلست بحضاري ومن أجل أن نقرّب السعة إلى أذهانكم فلنذكر ما ورد فيها من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأوسع صدراً على الإطلاق بين بني البشر، يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما في الترمذي: (صِل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك). ويقول صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي أبو يعلى: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم حسن خلق وبسط وجه). ويقول صلى الله عليه وآله وسلم كما في البخاري: (يسروا ولا تعسروا وبشّروا ولا تنفروا). وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في البخاري أيضاً: (ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم - وهنا موطن الشاهد أكثر - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه في شيء قط)، انظر أنت أتريد أن تختبر نفسك فيما إذا كنت واسعاً للناس هل تنتقم لنفسك ؟ أعتقد أن جميعنا ينتقم لنفسه قبل أن ينتقم لربه، إلا من رحم الله، إلا أن تُنتَهك حرمة الله فينتقم لله تعالى. من منا ينتقم لله ومن منا ينتقم لنفسه ؟ من منا إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما ؟ من منا يصل من يقطعه ويعفو عمن يظلمه ويحسن إلى من أساء إليه ؟ من منا ييسر ولا يعسّر ؟ يبشّر ولا ينفّر ؟ إذا كنت كذلك فأنت واسع، ولنعمَ ما تفعل وأنت إذاً على قدم الاتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت المؤتسي بهذا النبي الكريم والسيد السند العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلا فأنت مُدَّعٍّ، نحن أمة سعة.

في البخاري يدخل أعرابي وهذا تطبيقٌ للسعة على المستوى العام، يدخل أعرابيٌ المسجد لأول مرة وإذ به يبول في المسجد، يقوم الصحابة إليه ويعنفونه، ويدخل رسول الله وهم في الحال ينظر إليهم ويحكم لا تزرموه، لا تؤذوه لا تقطعوا عليه بوله اتركوه لأنكم إن قطعتم عليه ذلك فسيصاب بأذى، لا تزرموه، فلما انتهى الأعرابي تقدّم النبي وقال لأصحابه: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). الشيخ يعسّر في درسه، والأب يعسّر في أسرته، والمرأة تعسّر والأستاذ يعسّر، والضابط يعسّر والطبيب يعسّر والمستشفى يعسّر، والقاضي يعسّر والمحامي يعسّر، وكلنا يعسّر على كلنا، وكلنا لا يبحث عن تيسير لكلنا، المسؤول يعسّر والمدير يعسّر، (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). ثم أخذ الأعرابي جانباً وقال برفق ولطف: (إن المسجد لا يصلح لشيء من هذا). هذا تطبيق للسعة أتقدرون أن تطبقوا مثل هذا أنتم أيها الناس أينما كنتم في أي المناصب كنتم حيثما وجدتم هل تستطيعون أن تطبقوا هذا ؟ إن استطعتم ذلك فأنتم أصحاب سعة وأنتم مشروع حضارة وإلا فلنبكِ على أنفسنا.

يروي البخاري أيضاً عن أنس قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أيها المحبون لرسول الله اسمعوا أيها الباحثون عن اقتداء بالنبي، أنصتوا أيها المدعون بأنكم تحبون هذا النبي، تجملوا بالاتباع لهذا الذي تسمعون، كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه بردٌ نجراني غليظ - سميك - فأدركه أعرابي فجذبه جذبةً شديدة، يقول أنس فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله وقد أثّر حاشية البرد في صفحة العنق احمرّت، تأثرت، خدشت وقال هذا الأعرابي يا محمد مر لي بعطاء من هذا المال الذي عندك، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضحك وأمر له بعطاء، هل تستطيع أن تفعل هذا ؟ أم أنك تفعل العكس إذا ما أردت أن تعطي إنساناً ما من زكاة المال التي هي حق السائل في مالك فإنك إن ضربته عليه أن يسكت وإنك إن شتمته رفعت رأسك لترى نفسك مزهواً وعليه أن يصمت وأن يقول لك عوضك الله ولك أن تفعل ذلك.

لا، يا أخي ما هكذا تورد يا سعد الإبل، ما هكذا تكون السعة، أيها المدير هل إذا غلط معك آذن أو موظف بسيط تلتفت إليه وتضحك وتقول له إذا كان يطلب منك إجازة خذ الإجازة إذا كان يطلب منك علاوة خذ العلاوة. هل تتصورون أن يحدث هذا ؟ أنا لا أتصور إلا من رحم الله ولا بد من أن نستثني وإن كنا نشك في المستثنى، وهل المستثنى موجود لكننا مضطرون للاستثناء لأن الأمة لا تخلو بشكل عام من خيرٍ فيها، لكنني أتحدث عن الأغلب عن الأعم عن الأكثر.

التطبيق الثالث من زمن مضى في البخاري أيضاً: يقول ابن مسعود كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبياً من أنبياء بني إسرائيل ضربه قومه حتى أدموه فجعل يمسح الدم عن جبينه وهو يقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) وفي رواية (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) هل تسعى من أجل أن تعامل جارك بهذا الشكل ؟ هل تسعى من أجل أن تعامل الجندي عندك أيها الضابط على صورة مقاربة من بعيد لهذه الصورة التي طرحتها عليك وقرأتها عليك، أنا أقول ما أظن لكنني أدعو إلى أن نتبع النبي في هذا الخلق العظيم وأن نمتثل أوامر الآباء والأجداد عندما يطلبون منا أن نكون واسعين ومتسعين.

الحضارة سعة يا طلاب العلم، الحضارة سعة أيها الأساتيذ، الحضارة سعة أيها المسؤلون في أي المناصب كنتم، أتدرون ثواب أولئك الواسعين المتسعين ؟ جاء في الجامع الصغير والحديث حسن: "يقال يوم القيامة أين أهل الفضل ؟ فيقوم ناسٌ وهم يسيرون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة رأيناكم سراعاً إلى الجنة فمن أنتم ؟ قالوا: نحن أهل الفضل. تقول الملائكة: فما فضلكم ؟ يقولون: كنا إذا ظُلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا حلمنا". وهذا في الأكبر عمراً مطلوب، في الأكبر منصباً، في الأكبر والأكثر مالاً، أنت مدعوٌ إلى هذا الخلق أيها الكبير أكثر من الصغير عندما تتقابلان، كنا إذا ظُلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا حلمنا. فهل تفعل هذا مع الصغير مع الموظف البسيط أنت أيها الكبير، الكبير ليس من خلال جبروته وليس من خلال نقمته وليس من خلال سرعة انتقامه وإنما الكبير من خلال صبره من خلال حلمه من خلال التمثل بهذا الذي ذكرنا، يا طلاب العلم بشكل خاص لأنكم أنتم ترسمون المواقع الأولى في أمتنا ولا أخاطب طلاب العلم الشرعي فحسب ولكن أخاطب كل طلاب العلم وكل العلماء وكل المسؤولين أتريدون أن تنتسبوا للحضارة انتساباً فعلياً ؟ إذاً تحققوا بأمورٍ أربعة: تحققوا بسعة الصدر ونور الذكر وقوة الفكر وروح العصر. إن تحققتم بهذه الأمور الأربعة فأنتم للحضارة ماضون وإلا فأنتم عن الحضارة معرضون، ومن منا يريد أن يكون عن الحضارة معرضاً ؟ ألا هل بلّغت ؟ اللهم اشهد. أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت في الجامع الأموي الكبير بحلب بتاريخ 4/3/2011

التعليقات

شاركنا بتعليق