آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
والعاقبة للمتقين

والعاقبة للمتقين

تاريخ الإضافة: 2012/06/08 | عدد المشاهدات: 6313

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

رحم الله الشهداء الأبرياء وحمى أوطاننا من كل مكروه وسوء.

أيها الإخوة:

قال لي أحد الأساتذة منذ فترة غير قريبة: تعالَ نقرأ بعض آيات القرآن الكريم ونعرض أنفسنا عليه لنرى مدى انسجامنا ومدى ارتباطنا ومدى تطبيقنا لهذه الآيات التي نعتمدها كلاماً من عند الله منزلة.

قلت له هيا. قال لي فلنقرأ قول الله تعالى: ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين﴾ تعالَ من أجل أن نعرض أنفسنا على هذه الآية: كم لنا من رصيدٍ إيجابي من هذه الآية ؟ ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين﴾.

أيها الباحثون عن عاقبةٍ فالحة، أيها الباحثون عن نهاية خيّرة، أيها الباحثون عن نتيجة مرضية: الله عز وجل قال: ﴿والعاقبة للمتقين﴾، القضية محسومة بالنسبة لنا نحن الذين نؤمن بكتاب الله عز وجل ونحن الذين نؤمن بمحمد على أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، العاقبة للمتقين، العاقبة الخيّرة والنتيجة الحسنة والنهاية الطيبة في الدنيا والآخرة للمتقين، الجواب إذاً أصبح واضحاً: أتريد أن تكون لك العاقبة الخيّرة ؟ إذاً كن من المتقين، أتريد ان تكون منتصراً بالحق وللحق وعلى الباطل ؟ إذاً كن من المتقين، أتريد ان تكون ذا سمعة طيبة وذا عطاء خيّر وأن تكون ناجحاً ؟ إذاً كن من المتقين، الله يقول: ﴿والعاقبة للمتقين﴾. لكنك ستسألني من المتقي ؟ وكيف أكون متقياً حتى تكون العاقبة لي ؟ أقول لك أيها الإنسان: أتريد أن أختصر لك التقوى ثمَّ أفصِّل فيها بعض الشيء.

التقوى بكل اختصار: أن ترى الله في كلِّ فعلٍ تفعله وفي كل قول تقوله، إذا ما أردت أن تفعل أي فعل إن رأيت الله وأنت تفعل هذا الفعل وإن هممت بقولٍ فرأيت الله وأنت تقول هذا القول فأنت من المتقين ولذلك كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم كما جاء عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: "إني لأرى الله قبل الفعل وعنده وبعده". فإن رأيتَ الله عند فعلك وقبل فعلك وبعد فعلك فأنت من المتقين، لكن إن غاب عنك ربك وأنت تفعل وأنت تقول فبالله عليك هل يمكن أن تكون أنتَ من المتقين ؟ سأضرب مثالاً ما قالته امرأة العزيز ليوسف عليه السلام: ﴿وغلَّقتِ الأبوابَ وقالت هيت لك﴾ نظر يوسف عليه الصلاة والسلام فرأى الله قبل أن يفعل وبالتالي دلَّه الله، من رأى الله دلَّه ومن رأى الله هداه، نظر الله فقال: ﴿معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي﴾ إن رأيتَ الله وأنت تفعل وأنت تقول فأنت من المتقين، إن كنت ترى الله في كل حركة في سكناتك وحركاتك وذراتك كما يرى المحب محبوبه في كل حركة. أما سمعتم قول هذا الذي يحب:

أنتم فروضي ونفلي                   أنتم حديثي وشغلي

يا قبلتي في صلاتي                    إذا وقفت أصلي

جمالكم نصب عيني                  إليه وجهت كلي

أما سمعتم قول محبٍ آخر:

فإن تكلمت لم أنطق بغيركمُ                   وإن سكت فشغلي عنكمُ بكمُ

إن رأيت الله وأنت تفعل وأنت تقول وإن لم يغب عنك ربك في كل فعلٍ وقول فأنت من المتقين، هذا بالإجمال.

الآن لو عرضنا أنفسنا على هذا المعنى فهل نحن من المتقين ؟ هل ترى الله وأنت تأكل ؟ هل ترى الله وأنت تشتغل ؟ وأنت تصنع وأنت تعمل وأنت تزرع وأنت تصلي ؟ إن الله يغيب عنا حتى ونحن نصلي، إنا لا نرى الله حتى ونحن نصلي، هل ترى الله وأنت تحكم ؟ هل ترى الله وأنت تقضي بين الناس ؟ هل ترى الله وأنت تحاور فلاناً من الناس ؟ هل تنظر الله وأنت تخرج من المسجد وأنت تدخل المسجد ؟ هل ترى الله عز وجل وأنت تبيع وتشترى ؟ هل ترى الله وأنت تقول: "إن الله يريد كذا ولا يريد كذا، والله يحرّم كذا ويحلل كذا"، حتى حين تتحدث عن أحكام الله هل ترى الله وأنت تتحدث عن أحكام الله ؟ تلك هي المشكلة، ولعل العاقبة للمتقين الذين يرون الله عند كل فعلةٍ وقبلها وبعدها، يرون الله في كل فعلة تصدر عنهم وفي كل قول يصدر عنهم. هذه هي الخلاصة وإن أردتم التفصيل بعض الشيء فإليكموه.

الأمر الأول: الابتعاد عما يؤثر سلباً على نظرتك لربك في كل فعل: ﴿لئن بسطتَ إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين﴾. الابتعاد عن كل ما يخدش ويؤذي هذه العلاقة وهذه الحال التي لك مع ربك.

الأمر الثاني: التخلق بالخلق الحسن مع الناس، لذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الترمذي: (اتقِ الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحُها وخالقِ الناس بخلقٍ حسن) وقال كما في الترمذي أيضاً: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) أن تتخلق بالخلق الحسن حتى لا تشوِّه، لأنك إن لم تتخلق بالخلق الحسن ستشوه صورة ربك عند الناس، سيقول الناس هذا الذي يتصل بربه ويفعل هذا فما الذي استفاده من صلته بربه ؟ تخلَّق بالأخلاق الحسنة حتى لا تشوِّه صورة ربك عند الناس، وهذا ما نفعله اليوم، المسلم منا يشوِّه صورة ربه لأنه لا يرى ربه عند فعله ولا عند قوله وبالتالي لا يتخلق بالأخلاق الحسنة مع الناس وبالتالي أيضاً يشوِّه الصورة وينفِّر الناس من ربه من إلهه من الله، بالخلق السيء تنفِّر الناس من ربك، وبالخلق الحسن تحبِّب الناس من ربك، فالتخلق بالخلق الحسن، وبذلك فهمتُ قوله تعالى: ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ أي إن تقدّموا ربكم للناس على ما هو من العظمة والرحمة والعطاء ينصركم، لكن إن لم تنصروا ربكم فقدمتموه مشوهاً - حاشاه جلَّ وعلا - للناس فلن ينصركم لأنكم لم تنصروه فكيف ينصركم.

الأمر الثالث: الانصياع للحق حيثما لاح وعدم العناد، لاحظوا يا إخوتي كيف قال الله عز وجل: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ لقد مسَّنا طوائف من الشيطان فلمَ لا نتذكر ؟ لأننا لسنا من المتقين، بكل بساطة، مسَّنا طائف وطوائف من الشيطان فلم نتذكر ولم نبصر لأننا لسنا من المتقين، مَن الذي يتذكر ؟ من الذي ينصاع للحق إذ يلوح له ؟ المتقون: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾، ﴿قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبُهِت الذي كفر﴾ ولو أنه كان من المتقين لانصاع من السؤال الأول، فبهت الذي كفر. الانصياع للحق: ﴿الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه﴾ وقلت لكم منذ أكثر من سنة على هذا المنبر: عنوان أزمتنا الآن حصحص الحق، على كلنا وعلى الجميع ولا أستثني أحداً، فإن رأى الحق في الجانب الآخر فليعلن انصياعه وليترك عناده وليتوكل على ربه، فاليوم ربما مر من غير حساب في الدنيا لكن الحساب الدقيق ينتظرك في الآخرة يا من تؤمن بالآخرة كما تقول وكما تدعي.

رابعاً: أن تتقن عملك الذي أسند إليك: (إن الله كتب الإحسان) والإحسان إتقان (على كل شيء) كما جاء عن سيدنا المتقي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح) اتقن عملك، هل تتقن عملك هل تتقن صلاتك، زراعتك، صناعتك، حكمك، قضاءك، مشيختك... ؟ هل تتقن موالاتك، هل تتقن معارضتك، هل تتقن الذي أنت تتحدث عنه وتتمظهر من خلاله أم أنك في غيبوبةٍ عن هذا، لا تعرف الإتقان ولا تشمّ رائحته بل أنت بعيد عن الإتقان والإحسان بعد المشرقين، قلت لكم هذا أيضاً: الإنسان إحسان نون النشأة وحاء الحياء، الإنسان هو الإحسان وهناك جناسٌ ناقص كما يقول اللغويون، هنا نون النشأة وهنا حاء الحياء، والإنسان بالحياء يحسن، ومن استحيا أحسن، ومن كان على حياء كان على إتقان وإذا لم تستح فاصنع ما شئت فأنت لن تكون ذا إتقان أو ذا إحسان.

هلا دعونا الدعاء الذي دعاه سيدنا وحبيبنا وسيد المتقين صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في صحيح الجامع الصغير، أتدرون ما كان يدعو به النبي الأعظم والمصطفى المكرَّم المبجّل، أتدرون ماذا كان يقول ؟ هل تقولون أنتم هذا الدعاء، كان يقول: (اللهم طهر قلبي من النفاق) رسول الله يقول هذا ونحن لا نقول (وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة العين وما تخفي الصدور) ادعو الله بهذا الدعاء يا إخوتي أم أنكم تربؤون بأنفسكم أن تكونوا من المنافقين بقلوبكم ؟ قولوا لأن قلوبنا ملئت نفاقاً ولأن أعمالنا ملئت رياء ولأن ألسنتنا قضى عليها الكذب حتى لم يجد الصدق على اللسان مجالاً ولا مقعداً ولا قيد أنملة، وأيضاً امتلأت أعيننا خيانة فصرت أخاف من عينك وتخاف من عيني وتستعيذ بالله من لساني وأستعيذ بالله من لسانك وأصبح عملك تفوح منه رائحة الرياء وأصبح قلبك لا يشعر بالأمان فقلبك منفصلٌ عن لسانك ولسانك منفصلٌ عن قلبك، قولوا: اللهم طهِّر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

يا رب المتقين يا محبوب المتقين طهر قلوبنا جميعاً من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا، وهنا اسمحوا لي أن أقول وألسنتنا وإعلامنا، لأن إعلامنا هو اللسان، وإعلامنا من الكذب، طهِّر أعييننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 8/6/2012

 

التعليقات

شاركنا بتعليق