أما بعد ، أيها الإخوة
المسلمون :
كل عام وأنتم بخير ، كل عام وأمتنا العربية بخير ، كل عام وأمتنا الإسلامية في
كل مكان بخير ، واسمحوا لي أن أتابع التهنئة لأقول : كل عام وألسنتنا بخير
وكلامنا بخير وحديثنا بخير وإعلامنا بخير .
لعل سؤالاً يتبادر إلى أذهانكم : ما معنى أن أقول : كل عام وألسنتنا بخير
وكلامنا بخير . لعلكم تلاحظون وألاحظ أو لقد لاحظتم ولاحظتُ أن السياسيين في
بلادنا كثروا ، وأن المشتغلين بالسياسة صاروا أكثر من عدد السكان ، وأن الذين
يحللون القضايا السياسية حدِّث عن عددهم ولا حرج ، ففي كل مكان وعبر قنوات
التلفاز يطلع علينا واحد ليحلل ، وآخر ليردَّ عليه ، وثالث يشتم ، ورابع يجابهه
بسفاهة ، وخامس يصفُّ بجانب فلان من القادة والزعماء ، وسادس يدافع عن ذاك
الرئيس أو هذا القائد ، وسابع يعلن نبوءته فيما يتعلق بالمستقبل القادم وهو لا
يملك مقومات التنبؤ ، لا أقول التنبؤ الغيبي ولكن حتى التنبؤ السياسي . كثر
الكلام واللفظ عبر قنوات التلفاز وفي مجالسنا وإبَّان لقاءاتنا ، وكما قلت :
أضحت القضية عبارة عن فوضى لا تَمُتُّ إلى الحقيقة بصلة . شاهدتم وشاهدنا على
بعض قنوات التلفاز برامج . هذا ينادي بمعاكسة فلان ، وذاك يطلب من فلان رأيه
وهو لا رأي له ، وثالث ينادي بضرورة أن يكون الرأي الآخر محترماً ، ورابع وخامس
وسادس وسابع يتكلم والمستمعون والمشاهدون يقولون كلامه صحيح ويعطونه بصمة
الموافقة وكأنهم حَكَمٌ لا يرد لهم حُكم ، هذا ما يقوله صحيح وذاك الذي يقوله
الآخر غير صحيح ، وهكذا أنظر إلى أولادنا ، إلى شبابنا ، إلى طلابنا ، أرحمهم
وأقول لهم : تُرى ماذا سيستقبلون وماذا سيقع في أخلادهم ، وبأي شيء سيحاكمون ،
وكيف يتلقون ؟ أنظر إلى أجيالنا فأرحمهم لأني أراهم يوماً مع ذاك المحلل الذي
لا يعرف التحليل ، ويوماً مع المحلل الآخر الذي تدفعه أموره الشخصية لتحليلٍ
يبثه علينا وينثره علينا ، وفي اليوم الثالث يعدلون ويقولون : لا ، بل المحلل
الأول هو الذي يقول الكلام الصحيح .
أيها الإخوة : أما آن لنا أن نتمسك بمقولات سيد من تكلم ، سيد البشر عليه وآله
الصلاة والسلام حينما قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو
ليصمت " أما آن لنا أن نتقيد وأن نطبق حديث النبي عليه وآله الصلاة والسلام
القائل : " على مثل الشمس فاشهد ، وإلا فدع " أما آن لنا أن نتقيد بكلام سيد
المنطق محمد عليه وآله الصلاة والسلام يوم أن قال : " كفى بالمرء إثماً أن
يُحدِّث بكل ما سمع " ، أما آن لنا أن نتقيد بحديث سيد الساسة الواعين وسيد
الاجتماعيين العالمين وسيد الاقتصاديين الفاهمين حينما قال يخاطب الأمة : "
حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟! " أما آن لنا أن نفكر
ملياً قبل أن نتكلم ، أما آن لنا أن نوثق ما نسمع وما نتكلم وما نقول ، ألم
يأنِ لنا أن تكون كلماتنا كلمات بخير ، وخير كلماتنا ما كانت موثقة النسبة
لكلام الله عز وجل ولكلام النبي عليه وآله الصلاة والسلام .
وجدت من سنة أو أكثر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحببت بعد هذه
المقدمة أن أجعله موضوع خطبتي وأن أكتفي بذكره وبروايته . أخرج ابن حبان في
صحيحه واللفظ له ، وأخرج الحاكم في مستدركه وصححه عن أبي ذر رضي الله عنه قال :
قلت يا رسول الله : ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالاً كلها ، منها :
أيها الملك المتسلّط المبتلى المغرور – وليسمع كل المسؤولين من آباء وأساتيذ
ورؤساء وملوك – أيها المتسلط المبتلى المغرور : إني لم أبعثك لتجمع الدنيا
بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها وإن كانت
من كافر " لا يرد ربنا دعوة المظلوم ولو كانت من كافر ، قفوا بجانب المظلوم بعد
أن تتأكدوا من مظلوميته ، قفوا بجانبه وادعوا الله أن ينصر المظلوم على الظالم
، فإن لم تعرفوا من هو فاذكروا الصفة ، وقولوا : اللهم لا تدع مظلوماً إلا
نصرته ، ولا ظالماً إلا قصمته . أحيلوا التشخيص على الله ، أحيلوا التجسيد إلى
الله هو الذي يعلم المظلوم والظالم ، إن كنتم غير واثقين من تسمية المظلوم
وتسمية الظالم : " فإني لا أردها ولو كانت من كافر " وعلى العاقل ما لم يكن
مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات ، فساعة يناجي فيها ربه . هل لك ساعة تناجي
فيها ربك ؟ وساعة يحاسب فيها نفسه . هل لك ساعة تحاسب فيها نفسك ما قلت ؟ ما
تكلمت ؟ ما حللت ؟ ما أذعت ؟ ما شرحت ؟ وساعة يتفكر فيها في صنع الله عز وجل ،
وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً أي
مسافراً إلا لثلاث : تزود لمعانٍ ، تريد أن تستفيد علماً ، معنىً ، شيئاً يعود
على دينك بالعمق ، على وعيك بالتأكيد ، على عقلك بالازدياد ، على علمك بالنمو
والازدهار ، أو مَرَمَّةٍ لمعاش ، تسافر لتحصيل عيشك وتظعن وتمشي لتحصيل معاشك
أو لذة في غير محرم ، تحصل لذة حلال ، لذة لا إثم فيها ، تسافر لتُسَرَّ ،
والسرور في الإسلام مطلوب ، ولكن لا سرور فيما حرم ربي ، ولا لذة فيما منع ربي
، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه , حافظاً للسانه وهذا
الذي أريد أن أؤكد عليه , حافظاً للسانه ، ومن حَسَبَ كلامه من عمله قَلَّ
كلامه فيما لا يعنيه : " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " وإن كنت لا تعلم
شيئاً عن هذا الذي تتحدث فيه فذاك لا يعنيك ، أي لا يعنيك الحديث فيه ، وإن كان
يعنيك لأنك جزء من المجتمع ، لذلك عليك أن تستمع ممن يعلم لا أن تستمع ممن لا
يعلم ، وأن تتكلم فيما تعلم ، قلت – والقائل أبو ذر – يا رسول الله : فما كانت
صحف موسى عليه السلام ؟ قال : كانت عِبَراً كلها ، منها عجبت لمن أيقن بالموت
ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك ، عجبت لمن آمن بالقدر ثم هو
ينصب ( يتعب ) ويجعل قلبه في حالة قلقة ، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها
ثم اطمأن إليها ، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ، قلت : يا رسول الله
أوصني . قال : أوصيك بتقوى الله ، فإنها رأس الأمر كله " .
أيها الملوك ، أيها الزعماء ، أيها الرؤساء ، أيها المرشحون ، أيها القضاة ،
أيها الأطباء ، أيها الشيوخ ، أيها العلماء ، أيها المواطنون : عليكم بتقوى
الله فإنها رأس الأمر كله ، رأس الأمر تقوى الله . قلت يا رسول الله زدني . قال
: " عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في
السماء " عليك بتلاوة القرآن . هل نعلم أولادنا القرآن وتلاوته ، أم أننا عدلنا
عن القرآن حتى الذين يتكلمون باسم الإسلام عدلوا عن القرآن وسنة النبي ، أضحوا
يتكلمون بلغة لا مرجعية قرآنية لها ، وحسبوا أنفسهم في ذلك دعاة . قلت يا رسول
الله زدني . قال : " إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه . قلت
يا رسول الله زدني . قال : " عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي . قلت يا رسول
الله زدني . قال : عليك بطول الصمت " . نحن أمة متكلمة ، نحب الثرثرة . " عليك
بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على دينك " يأتي الشيطان ألف مرة لمن
يتكلم ، ويبتعد ألف مرة عمن صمت . قلت يا رسول الله زدني . قال : " أحب
المساكين وجالسهم . قلت يا رسول الله زدني . قال : انظر في أمور دنياك إلى من
هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله " انظر من هو
أفقر منك في أمور المال حتى تشكر الله ولا تنظر من هو أعلى منك في المال . قلت
يا رسول الله زدني . قال : " قل الحق ولو كان مراً . قلت يا رسول الله زدني .
قال : ليردعك عن الناس ما تعلمه من نفسك " . إياك أن تعيب على الناس أمراً أنت
ترتكبه ، نعيب على الناس أموراً ونحن نعلم أنها تعيش معنا وتلازمنا ، لكننا لا
نراها عيباً ، ونكتفي بتعيير الناس بها وهي ألصق بنا من الناس " ليردعك من
الناس ما تعلمه من نفسك ، ولا تجد عليهم فيما تأتي " أي لا تجد من نفسك شيئاً
من الحقد والضغينة والاشمئزاز على الناس في أمر وأنت تأتي بهذا الأمر ، كفى بك
عيباً أن تعرف عن الناس ما تجهله من نفسك ، ربما أكثرنا يعرف عيوب الناس ، وإن
سألته فصَّل لك في عيوبهم ، فهذا عيبه كذا وكذا ، وذاك يتصف بصفات قبيحة هي كذا
وكذا ، ولكن إن سألته عن نفسه قال : لا أعرف من نفسي إلا الخير ، إن سأل نفسه
عن نفسه تراه يذكر عيوب الآخرين وينسى عيب نفسه ، أنت تحمل على الناس لأمر أنت
تأتيه وتفعله وترتكبه . لا عقلك التدبير ، لا عقلك التدبير ، ولا ورعك الكف ،
وحَسْبُك الحَسَب ، ولا حَسَب كحُسن الخلق . نريد أخلاقاً حسنة . هذه وصايا
إبراهيم وصحف موسى وبعض وصايا سيد الكائنات محمد عليه وآله الصلاة والسلام .
كفانا أن نتحدث عن السياسة ، كفاناً كلاماً عن فلان وفلان ، عن الوضع الفلاني .
أيتها القنوات العربية . عَتَبي عليك شديد ، تريدين إثارات ولا تريدين علوماً
ولا حقائق ولا معرفة ، حتى في مجالات الدين ، حتى في مجالات التدريس الديني
تريدين إثارات وفوضى ، تريدين أن تلعبي – كما يقال – بعواطف الناس الموهومة .
هذه مهمتك – إلا من رحم الله وقليل ما هم ، قليل جداً أيتها القنوات العربية .
كفاك هدراً ، لقد أُتخم شعبي من مقولات فارغة تصدر عنك بأحاديث لا تمت إلى
الحقيقة ولا إلى المعرفة ، شتمٌ ما تتكلمون ، سخافةٌ هذا الذي نسمع ، إن ما
نسمع أضحى وبالاً ومرضاً . أيتها القنوات العربية كفي عن السياسة وحدثي الناس
بأحاديث موثقة بكلام صحيح ، حدثيهم عن التربية ، عن الاجتماع من خلال القرآن
والسنة الصحيحة الثابتة . قلت لكم منذ أسابيع : إن القنوات تصنع مشاهير ،
وهؤلاء المشاهير يُسّلَّم لهم الزمام وهم يتكلمون ، ونحن قمنا بفحص بعض الذين
تكلموا فإذا هم سواء في كل الميادين ، في الميدان السياسي والديني والاجتماعي
والاقتصادي . الحديث غير موثق ، والمضمون ضعيف ، والتهريج واضح ، والأخذ
بالعواطف الموهومة جليٌّ وبيِّن . لا نريد إلا أن نكون متبعين لوصايا النبي صلى
الله عليه وآله وسلم : " عليك بالصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك
" . اللهم اجعلنا ممن إذا قالَ قال خيراً وقال فغنم أو سكت عن شر فسلم . اللهم
اجعلنا على قدم الاتباع لسيد البشر سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام في
أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا وأخلاقنا .
كل عام وأنتم بخير ، وألسنتنا بخير ، وجوارحنا بخير ، وعواطفنا بخير ، وقلوبنا
بخير ، وبلادنا بخير ، وقدسنا بخير ، وكعبتنا بخير . كل عام وأمتي كلها بكلها
بألف خير ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات