أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون :
كثيراً ما نتحدث عن ضرورة ترابط أبناء
مجمعاتنا ، وكثيرا ًما يرغب بعضنا إلى بعض من أجل أن يتحد الجميع وأن يأتلف
الجميع ، وأن يشكل الجميع لحمة واحدة ، ولكن السؤال الذي يتبدى في مثل هذا
الحديث هو وقد سألني بعضهم هذا السؤال : كيف يمكنني أن أكون مقبولاً لدى
الآخرين ، وأن يكون الآخرون مقبولين عندي ؟ بعبارة أخرى : كيف أكون ذا ظل خفيف
عند الآخرين يرغبون بي ولا يرغبون عني ، وكيف يمكن أن يكون الآخرون مرغوباً
فيهم وليس مرغوباً عنهم ؟ بكل بساطة واختصار يقول علماء الإنسان : إن الإنسان
صفات ، أنت صفات ، وإذا كان الإنسان صفات – كما يقول علماء الإنسان والذين
يشتغلون بالاجتماع وبالنفس ، وأصبح هذا العلم يمزج بين الاجتماع والنفس ، وقد
سمي بعلم الاجتماع النفسي – إذا كان الإنسان صفات ، فما الصفات التي تجعل منك
إنساناً مقبولاً ، وما الصفات التي تجعل منك إنساناً مرفوضاً . أيضاً يمكن أن
نسمي الصفات التي تجعل منك إنساناً مقبولاً بالصفات الجاذبة ، ويمكن أن نطلق
على الصفات التي تجعل منك إنساناً مرفوضاً الصفات النابذة . من خلال قراءات شتى
ومتعددة لهذا الذي ذكرنا وجدت أن الصفات الجاذبة هي : الحكمة والعلم ، والتواضع
والحلم ، والكرم والرحمة والصبر . صفات سبع وجدتها من خلال الأنموذج الأول الذي
هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلال الصحابة الكرام ، ومن خلال العقلاء
عند غير المسلمين ، ومن خلال الدراسات وجدت أن الصفات الجاذبة التي تجعل منك
إنساناً مقبولاً عند الآخرين هي : الحكمة والعلم ، والتواضع والحلم ، والكرم
والرحمة والصبر . وها أنا أقول لنفسي ولكم : انظروا صفاتكم ، انظروا أنفسكم ،
قفوا أمام مرآة النقد الذاتي بينكم وبين أنفسكم ، فإن وجدتم أنفسكم أنكم
تتمتعون بالحكمة والعلم ، والتواضع والحلم ، والكرم والرحمة والصبر فاحكموا على
أنفسكم بأنكم مقبولون ، واحكموا على أنفسكم بأنكم أهل لأن تكونوا في عالم
الانسجام الظاهري والباطني مع الآخرين ، افحصوا أنفسكم على ضوء قراءة مستفيضة
لهذه الصفات ، وبعد أن تكون القراءة قد أودت بكم إلى ساحة التمكن المعرفي منها
انظروا أنفسكم ، وهل أنتم ظلال ، وهل أنتم تجليات ، وهل أنتم محددات لهذه
الصفات ؟ فاطمئنوا بعدها إن كان الجواب بالإيجاب إلى مقبوليتكم عند الآخرين .
إذا نظرنا إلى الصفة الأولى الحكمة ، والحكمة تعني العقل الواثق المطلع الفاهم
الذي يتحرك في مصلحة الإنسان ، والذي يتحرك في مصلحة المخلوقات كلها ، ولا
أدلَّ على حكمة الإسلام مما ورد في القرآن الكريم من دعوة إلى التحلي بها ، ومن
تشجيع للأفراد من أجل أن يتصفوا بها ، ولطالما كررنا في مثل هذه المواقف قصة
الأعرابي حسب ما جاء في مسند الإمام أحمد يقول هذا الأعرابي : دخلت إلى رسول
الله ، إلى محمد – ولم يكن قد أسلم – وخرج يعلن الشهادة والإسلام ، فقالوا له :
لم ، وكيف ، وما الذي جعلك مسلماً ؟ فقال : والله ما أمر بأمر قال العقل ليته
نهى عنه ، ولا نهى عن شيء قال العقل ليته أمر به .
الحكمة والعلم ، والعلم مدعو إليه في القرآن الكريم ، يقول ربنا عز وجل :
﴿
وقل رب زدني علماً
﴾
طه : 114
ويقول النبي عليه وآله الصلاة والسلام - افحص نفسك يا أخي كما كان النبي عليه
وآله الصلاة والسلام يفحص نفسه في كل صباح - فيما يخص صفة العلم ، فقد قال كما
جاء في الطبراني بسند حسن : " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى
الله ، فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " الحكمة والعلم .
افحص نفسك على التواضع لأن من الصفات الجاذبة التواضع ، اقرأ حديث النبي القائل
كما في صحيح مسلم : " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ،
ولا يفخر أحد على أحد " واقرأ سيرة سيد المتواضعين عليه وآله الصلاة والسلام
الذي روى الترمذي عنه أنه : كان يشهد الجنائز ويعود المرضى ، ويحكي مع العبد ،
ويكرم العبد ، وقد رئي يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف وعليه إكاف من
ليف . اقرأ سيرة المتواضعين وافحص نفسك هل أنت متواضع أم أنك لا تعرف للتواضع
سبيلاً ، أم أنك تدَّعي التواضع وشتان بين ادعاء الصفة وبين التحقق بالصفة ،
أكرر فأقول : الحكمة والعلم ، والتواضع والحلم .
افحص نفسك على قانون الحلم الذي وردت الدعوة إليه في القرآن الكريم ، يوم قال
ربنا عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك
﴾
آل عمران : 159
وكان النبي عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في الحاكم وأبو داود عندما جاءه
اليهودي زيد بن سعنة وقد قرأ هذا الرجل في العهد القديم ، قرأ عن النبي عليه
وآله الصلاة والسلام أن حلمه يسبق جهله وأن شدة الجهل عليه تزيده حلماً ،
والقصة معروفة ، هذا الرجل أقرض النبي عليه وآله الصلاة والسلام قرضاً لأجَل ،
وجاء قبل حلول الأجل يطالب النبي بغلظة ، يقول : يا محمد أعطني حقي – قبل حلول
الأجل – ثم قال : يا بني هاشم : إنكم قوم مطل . تؤخرون الدين ، لا تؤدون الدين
في وقته ، علماً أن هذا الرجل جاء قبل حلول الأجل ، وإذ بسيدنا عمر بن يقول :
يا رسول الله دعني أضرب عنقه . فالتفت النبي عليه وآله الصلاة والسلام إلى عمر
وقال : مَهْ يا عمر . عليك أن تأمره بحسن الاقتضاء ، وأن تقول لي بحسن الاقتضاء
، يا عمر إن لصاحب الحق مقالاً ، أعطه دَيْنه وزده أجر ما روعته " عند ذلك قال
هذا الرجل الحبر في يهوديته : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
إن الصفات الجاذبة – وهذا من باب التحديد – وقد درست ذلك دراسة مفصلة : الحكمة
والعلم ، والتواضع والحلم ، والكرم والرحمة والصبر .
افحص نفسك على الكرم ، هل أنت كريم
﴿
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
﴾
الحديد : 7
﴿
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
﴾
آل عمران : 92
هذا عنوان الكرم أن تنفق مما تحب ، أن تنفق كرائم المال ، أن تقدم وأنت محتاج ،
ولذلك ورد في الترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام فقال له
: يا رسول الله ! أعطني . فقال له النبي عليه وآله الصلاة والسلام : " ما عندي
شيء ، ولكن اذهب فابتع علي " اقترض على حسابي ، خذ الذي تريد وسجل الحساب علي ،
اذهب وابتع علي فإن جاءني شيء قضيته ، فالتفت إليه سيدنا عمر وقال : يا رسول
الله ! ما كلفك ربك هذا وما عندك شيء . وإذ بالنبي عليه وآله الصلاة والسلام
يقطب وجهه . لا ، لا أريد أن يقول لي أحد هذا . فقام رجل من الأنصار وقال : يا
رسول الله ! أنفق ، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً . فالتفت النبي إلى ذلك الرجل
متبسماً وقال لأولئك الذين كانوا معه : " بهذا أمرت " وأنا أغتنم هذه الفرصة
لأقول لأغنيائنا : كونوا كرماء ، كونوا كريمين ،
﴿
أنفقوا مما جعلكم مستخلفين
﴾
الحديد : 7
أنفقوا مما تحبون ، أقول لأغنيائنا ، لفقرائنا أيضاً : أنفق ينفق عليك ، حتى
ولو كنت محتاجاً . ألتفت إلى الدولة لأقول : أيتها الدولة الكريمة ! كوني كريمة
في عطائك ، إن شعبنا ، إن موظفينا بحاجة إلى زيادة الرواتب ، وبالتالي يجب على
كل دولة تريد أن تكون مقبولة من قبل شعبها أن تزيد في عطائها ، أن تزيد فيما
تعطيه لأبنائها ، أن تتمتع بالكرم ، نحن ندعو من خلال حرصنا على دولة محبوبة من
قبل الشعب ، وعلى شعب يحب حكومته ، ويحب دولته ، ويحب قيادته . إن الكرم صفة
جاذبة ، نضع هذا في آذان مسؤولينا ، حتى لا يقول الأغنياء ما لكم اجتمعتم علينا
تطالبوننا بالإنفاق ؟! أوليست دولتنا قادرة بدراسة ما أن تكون أيضاً كريمة ،
على أن تكون معطاءة . نحن نطالب بهذا ، نطالب بكرم الدولة فيما يخص موظفيها
وعمالها ، لا نريد لموظف أن يتبناه غير الدولة إذا مرض الموظف ، ولا نريد لعامل
أو موظف أن تتبناه غير الدولة إذا كان بحاجة إلى مأوى ، ولا نريد لعامل عند
الدولة أن تتبناه غير الدولة إذا كان بحاجة إلى زواج ، كما نقول لصاحب المعمل
ولصاحب المصنع ولصاحب المتجر : اكفِ هؤلاء الموظفين عندك ، ولا تحوجهم إلى أن
يذهبوا إلى غيرك من التجار ، أو من الصناع ، أو من الزراع ، بل كن على يقظة من
إشعارهم ومن تحسسهم بكفايتهم .
بعد الكرم افحص نفسك : هل أنت رحيم ، على أساس الرحمة
﴿
فبما رحمة من الله لنت لهم
﴾
آل عمران : 159
يروي الشيخان ومعهما أبو داود أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام في عودته من
الطائف جاءه جبريل ومعه ملك الجبال : إن شئت يا محمد أطبق عليهم الأخشبين ؟ قال
: " لا . عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله "
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
" ارحموا من في الأرض يرحمكم من في
السماء " الرحمةَ الرحمة أيها المواطنون ، الرحمةَ فيما بينكم ، أيتها الدولة :
الرحمةَ الرحمة بشعوبك ، أيها الشعب : الرحمةَ الرحمة بحكومتك ، أيها الأغنياء
: الرحمةَ الرحمة بالفقراء ، أيها العاملون : الرحمةَ الرحمة بأعمالكم التي
أوكلت إليكم . الرحمة .
﴿
فبما رحمة من الله لنت لهم
﴾
آل عمران : 159
وما أملك إن كان الله قد نزع من قلوب
بعضنا الرحمة .
والصفة الأخيرة الصبر ، وتحدثت عن الصبر أكثر من مرة ، الصبر ثبات ، الصبر
تضحية ، الصبر متابعة ، الصبر أن تقول بينك وبين نفسك : يا رب ! ثبتني على دينك
، يا رب ! اجعلني ممن يفي بعقد أبرمه الله معك يوم قال ربنا :
﴿
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
﴾
التوبة : 111
الصبر استمرار ومتابعة ، والنبي عليه وآله الصلاة والسلام سيد الصابرين تحمل في
سبيل مبدئه الحق تحمل المشاق ، أكل القليل ، كسرت رباعيته ، خلع كتفه ، وبقي
يقول : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " الصبرَ الصبر أيها الإخوة
المقاتلون في فلسطين ، وأغتنمها مناسبة لكي أذكر إخواننا في فلسطين ، آمل أن لا
ينفد صبركم ، فإني أرى أحياناً بعضاً من نفاد الصبر عندكم ، وذلك ما لحظته
عندما وقَّع بعض منكم ، وأنا لا أريد هذا منكم ، عندما وقع بعض منكم وثيقة جنيف
في سويسرا ، لا أريد هذا ، إن في توقيعكم هذه الوثيقة تفريطاً بالحقوق ، إن في
توقيعكم هذه الوثيقة تنازل عن حق العودة ، ونحن لا نريد هذا ، وهذا إن دل على
شيء – ونحن لا نسيء الظن بكم – لكننا ننصح أنفسنا لوجه الله أن لا ينفد صبركم
وأن تتابعوا طريق المقاومة لأناس لا يرقبون في الإنسان إلا ولا ذمة ، ورب
الكعبة إنهم لمُجَرَّبون ، أعني اليهود الإسرائيليين ، لئن وقعوا معكم اليوم
وثيقة فهم الذين لا يحترمون عقودهم ، ولا يحترمون توقيعهم ، ومن جَرَّب
المُجَرَّب كان عقله أقرب إلى المُخَرَّب ، لا تجربوهم فقد جَرَّبهم التاريخ ،
وأثبتت كل قواعد مفرزات التاريخ أن هؤلاء لئيمون ولؤماء ، وأن هؤلاء لا يرعون
عهداً ولا عهداً ، وأن هؤلاء لا يصلح معهم إلا المقاومة ، المقاومة من قبل كل
المسلمين ، من قبل كل العرب ، من قبل القادة والشعوب ، المقاومة الموحدة ،
المقاومة التي تبتغي وجه الله عز وجل . أرجو أن لا ينفد صبركم أيها الإخوة
الفلسطينيون ، وأرجو أن لا يلجئكم نفاد الصبر إلى ما لا يحمد عقباه ، اجتمعوا
واصبروا وصابروا ورابطو واتقوا الله .
الصفات الجاذبة : حكمة وعلم ، وتواضع وحلم ، وكرم ورحمة ، ويجمع ذلك كله الصبر.
اللهم إنا نسألك أن تمتعنا بالصفات الجاذبة من أجل أن نعيش إخوة متحابين ،
نسالم من سالمت ، ونحارب من حاربت ، نعم من يسأل أنت
، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات