أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون :
في العاشر من كانون الأول
عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ، أي منذ
خمسة وخمسين عاماً ، أصدرت هذه الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً أسمته
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ويقع هذا الإعلان في ثلاثين مادة ، يتحدث هذا
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن حق الإنسان في الحياة ، وعن حق الإنسان في
التعبير ، وعن حق الإنسان في التعليم ، وعن حق الإنسان في تكوين الأسرة ، وعن
حق الإنسان في الوطن ، وعن حق الإنسان في البراءة ، وعن حق الإنسان في أمور
كثيرة . ولو أني كنت في محاضرة لاستعرضت معكم هذه المواد الثلاثين ، لكنني وأنا
في خطبة جمعة أحب أن أعلِّق بمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لإعلان حقوق
الإنسان من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ، أحب أن أقول :
أولاً : إن كثيرا ًمن كتابنا منذ ذلك الزمن وإلى يومنا هذا تحدثوا وقارنوا
وكتبوا عن حقوق الإنسان في الإسلام ، وآمل من مثقفينا وكتابنا ودارسينا أن
يعودوا إلى مثل هذه الكتب ليروا بأم أعينهم ماذا قدم الإسلام في ميدان حقوق
الإنسان .
ثانياً : بعد دراسة لهذه المواد الثلاثين قلت في نفسي : ألا تُختَصر ، أو
بالأحرى أليس هنالك من أساسات لهذه المواد ؟ فكرت في اختصار هذه المواد ، وفكرت
في البحث عن أركان هذه المواد وعن أساسات هذه المواد ، وانقدح في ذهني أن كل
حديث عن حقوق الإنسان إنما يتفرع عن أمور أربعة ، فإذا ما كانت هذه الأمور
الأربعة متوفرة ووفيرة وحاصلة في مجتمع ما ، في مبدأ ما ، فإن هذا المجتمع وهذا
المبدأ يكون قد راعى حقوق الإنسان . هذه الأركان الأربعة متصلة ، متسلسلة
ببعضها ، تفتتحها الحرية ، وتُختَم بالأخلاق ، وبين الحرية والأخلاق يأتي الحق
والعدل ، فنحن أمام أمور أربعة هي : الحرية ، الحق ، العدل ، الأخلاق . وكما
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن معايير لمعرفة الإنسان نتحدث هنا عن مجتمعات ،
نتحدث هنا عن مبادئ ، نتحدث عن مجتمعات نعايرها على هذه الأمور الأربعة ،
ونتحدث عن مبادئ نعايرها ونمحصها على هذه المبادئ الأربعة . هذه الأركان هي
الحرية ، هي الحق ، هي العدل ، هي الأخلاق . وكما قلت لكم : هذه الأركان
متشابكة لا يمكن للركن الثاني من هذه الأركان أن يكون من غير الركن الأول ، ولا
يمكن للركن الثالث من هذه الأركان أن يكون من غير الركن الثاني ، ولا يمكن
للركن الرابع من هذه الأركان أن يكون من غير الركن الثالث .
الحرية بكل بساطة هي الشعور بالقدرة على الاختيار . أنا أشعر بأني قادر على أن
أختار هذا أو أختار ذاك ، والله عز وجل قال : ﴿
ونفس وما سواها .
فألهمها فجورها وتقواها ﴾
الشمس : 7 -8 أي
أشعرها بأنها قادرة على فعل الفجور وعلى فعل التقوى ﴿
ونفس وما سواها .
فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها ﴾
الشمس : 7-10
وتحدثنا منذ أكثر من أسبوعين عن الحرية الإيجابية والحرية السلبية .
إذا كانت الحرية شعوراً بالقدرة على الاختيار بين أمرين ﴿ فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر ﴾ الكهف : 29
السؤال : مَنْ
يُشعِر مَنْ بالقدرة على الاختيار ؟ القوي هو الذي يشعر الطرف الآخر بأنه قادر
، ويُحِسُّ بقدرته على الاختيار ، فالدولة هي التي يجب أن تشعر الفرد بأنه حر
وبأنه قادر على أن يفعل الممكنات ، والله عز وجل هو الذي يشعر الإنسان بأنه
قادر على فعل الخير والشر وعلى فعل الخير رقم 1 ، والخير رقم 2 وهكذا دواليك .
نتوجه إلى الأقوى في الطرفين لنقول للأب : أنت من يجب أن تشعر ولدك بأنه حر ،
وبأنه قادر على الاختيار وبعد ذلك عليك أن توجهه وأن تضع أمامه بشكل مقنع ما
يجره إلى الخيبة وما يجره إلى الفلاح ، وعليك أن تتركه ليختار بملء إرادته ،
بملء قناعته ، وإلا كل الكلام عن حقوق الإنسان لا قيمة له . الطرف الأقوى هو
الذي يشعر الطرف الآخر بأنه حر ، وعلى الدولة أن تشعر رعاياها بأنهم يتمتعون
بالحربة وبأنهم قادرون على أن يقولوا هذا وأن يقولوا ذاك ، على أن يقولوا ما
يسرها وما لا يسرها ، وأنا أذكر في هذا الميدان قصة للتوضيح ليس إلا ، يوم قال
رجل من الرعايا لرئيس الدولة آنذاك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال له : اتق
الله يا عمر . وعمر على ما أفهم كان قد أشعر رعاياه بقدرتهم على الاختيار بين
الأمور . اتق الله يا عمر . أراد بعض الناس منع هذا الرجل من أن يتابع حديثه ،
ولعل مثل هؤلاء المانعين يتكررون في كل زمان ، يكثرون ويقلون ، لكنهم في زماننا
كثر ، حاول بعض الناس أن يمنع هذا الرجل ، وإذ بعمر يقول : لا ، لا تمنعوا هذا
، " لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نسمعها " . الحرية عنوان
لمجتمع يحرص على أن يكون في ساحة رعاية حقوق الإنسان ، وإلا فهو مقصر ، مقصر ،
مقصر شئنا أم أبينا ، نريد حرية في التعبير ، ونريد حرية في الفعل ، ونريد حرية
في الممارسة ، وإن أي عهد لم تكن تلك الحرية وهي إشعار الدولة رعاياها بأنهم
قادرون على أن يقولوا الأمرين عهد لا ينتمي انتماء كاملاً للإسلام ، لأن
الإسلام يحرص على أن تكون مجتمعاته حرة بالمعنى الذي ذكرنا .
بعد ذلك من الحرية نفتح باباً على الحق . للإنسان حقوق ، وعلى الإنسان واجبات ،
وعلى المجتمع أن يكون مثقفاً بمعرفة ما له وما عليه ، على الدولة أن تعرف
حقوقها وواجباتها ، وعلى الأفراد أن يعرفوا حقوقهم وواجباتهم ، لكن المشكلة أن
الدولة أو أن الشعب أو أن الأب أو أن الابن يريد أن يعرف حقوقه ، ولكنه يرفض أن
يتعرف على واجباته ، يريد أن ينال حقوقه ، ولكنه في عمى ، في غياب عن ممارسة
وعن فعل واجباته ، للدولة حق عليك ، ولك حق على الدولة ، وعليك أن تشعر بأنك
على معرفة بهذه الحقوق ، وبالتالي عليك أن تقول للمسؤول عنك : عرفني حقوقي .
عليك أن تعرف حقوق الله عليك ، وحقوقك على الله ، والنبي عليه وآله الصلاة
والسلام كان يعلم أصحابه ، ففي الطبراني قال النبي عليه وآله الصلاة والسلام :
" أتدرون ما حق الله على العباد ؟ " ثم قال لهم : " أتدرون ما حق العباد على
الله ؟ " حقوق يجب أن تعرض بقوة ، اقرؤوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد
وضحت هذه المواد الثلاثون ما على الدولة من حقوق وما على الشعوب من حقوق ، وما
للدولة من حقوق ، وما للشعوب من حقوق ، اقرؤوا ذلك ، فذلك موجود في هذا الإعلان
، وطبعاً موجود في القرآن الكريم ، في السنة الشريفة ، وقد عددت أكثر من مائة
كتاب في حقوق الإنسان في الإسلام ، وكل هذه الكتب تتحدث عن مستندات الحقوق في
القرآن الكريم ، في السنة الشريفة ، في السيرة النبوية الرائعة العطرة ، ارجعوا
إلى ذلك أيها الحقوقيون ، ارجعوا إلى ذلك أيها القضاة ، ارجعوا إلى ذلك أيها
المسؤولون .
الركن الثالث العدل : ها أنت قد شعرت بأنك قادر على أن تختار هذا وأن تختار ذاك
، ثم أنت عرفت حقك وحق الآخر ، بغض النظر عمن كان هذا الآخر يأتي العدل ليقول
لك : إني ممارسة لهذا الذي عرفت ، ممارسة وفية للحق الذي عرفت ، ممارسة وفية
للواجب الذي عرفت ، العدل ممارسة أمينة تستند إلى معرفة الحق ، ومعرفة الحق
تستند إلى شعور بالحرية ، شعور بالاختيار بين أمرين ، يأتي العدل ليكون ممارسة
وفية للحق ﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾
النساء : 58
﴿ ولا يجرمنكم شنآن ثوم على أن لا تعدلوا ﴾
المائدة : 8
إذا كنت تبغض إنساناً فما عليك إلا أن تعطيه حقه ، وعلى البغض أن لا يكون
ضاغطاً عليك لتمنع هذا الإنسان حقه ، ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
﴾ النساء : 58
على أن تمنعوا الناس حقوقهم ، لا تجعلنكم البغضاء مجرمين ، الشنآن هو البغضاء ،
لا يجعلنكم الشنآن تظلمون ، الظلم عاقبته وخيمة ، الظلم لا يمكن أن تكون معه
فضيلة ، رأس الرذائل الظلم " الظلم ظلمات يوم القيامة " ، " يا عبادي إني حرمت
الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا " .
نأتي إلى الركن الرابع الذي هو الإحسان أو الأخلاق . بعد أن شعرت بالحرية
والقدرة على الاختيار ، وبعد أن عرفت الواجب ومارست هذا الحق وهذا الواجب
بأمانة غير متأثر ببغضاء أو بمحبة عليك بعد ذلك بالإحسان ، الذي هو أسلوب أمثل
في أداء الواجب والحق ، عليك أن تكون صاحب أسلوب رائع أمثل ، جميل ، في عطاء
الواجب وفي أخذ الحق ، يجب عليك على سبيل المثال أن تدفع الدين لفلان ، فعليك
أن تدفعه إليه برفق ، يجب على فلان أن يدفع الدين لك ، عليك أن تطالبه برفق ، "
رحم الله امرءا ًسمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا قضى ، سمحاً إذا
اقتضى " . الأخلاق والتي أسميها الإحسان هي الركن الرابع من أركان حقوق الإنسان
، الإحسان ، أن تؤدي واجبك بسماحة ، وأن تطالب بحقك بسماحة ، أن لا تعذب من دون
دليل ، وأن لا تحاكم وتسجن زيادة على المستحق ، لا تتهم ، ولا تُتْبِع الاتهام
ما لم تمتلك الدليل القاطع ، لا تتبع الاتهام ، مجرد الاتهام ، بتعذيب وتنكيل ،
وإلا فأنت في مجتمع أعلن براءته من حقوق الإنسان ، لا تتبع الاتهام بتعذيب ،
الإنسان بريء حتى تثبت إدانته ، فما بالنا يعامل بعضنا بعضاً على أن الإنسان
متهم حتى تثبت براءته ، عكسنا الآية ، هكذا نتعامل ﴿ إن جاءكم فاق بنبإٍ
فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادين ﴾
الحجرات : 94
تبينوا ، وفي قراءة ( فتثبتوا ) تثبت ، تبين ، ولكن التبين والتثبت ليس بالضغط
، ليس بالقوة ، ليس بالمحاصرة ، ليس بلقمة العيش ، التثبت والتبين بالأدلة ،
بالظروف التي تلف الموضوع ، باتباع المثبتات والبراهين القضائية العادلة ، ولا
يكون التثبت بالقتل ، ولا يكون التبين بالتعذيب ، كم من أناس اعترفوا بأنهم
أجرموا نتيجة القتل ، وبعد الدراسة والبحث تبين أن اعترافهم غير صحيح ، ولكنهم
يريدون أن ينتهوا من القتل الذي ألم بهم ، كان اعترافهم مخالفاً للحقيقة ،
لكنهم اعترفوا بما لم يفعلوا ، فثبتوا أنفسهم على أنهم فعلوا هروباً من القتل
الذي رفعه الإنسان الذي أمامهم ، ما هكذا تورد يا سعد الإبل ، لا ورب الكعبة ،
وأنا أخاطب كل المجتمعات على الإطلاق ، ولا أقصد مجتمعاً دون مجتمع ، أبتدئ
بالمجتمع الأول لأنتهي إلى مجتمعنا الراهن ، وإلا يا إخوتي ما ينفعنا إن تحدثنا
عن عظمة لنا في السابق ولكن ممارساتنا اليوم تفتقر إلى انتماء بسيط لهذا الذي
نتحدث عنه ، أتريدون أن نبقى نذكر ما كان قد حدث ولكننا نذكر ما حدث ليس وفق ما
حدث ، وإنما نذكره كما نريد أن يكون ، وهذا زيادة على في إمعان البعد عن
الحقيقة وعن مراعاة حقوق الإنسان ، نريد لبلدنا أن يكون عنوانه مراعاة حقوق
الإنسان ، نريد لأسرنا ، لآبائنا ، لأمهاتنا ، لقضاتنا ، لمحامينا ، لثكناتنا ،
لسجوننا ، لكل مكان أن يعلو فيه عنوان مراعاة حقوق الإنسان ، وبعد ذلك يمكننا
أن نخاطب الآخرين المقصرين في رعاية حقوق الإنسان ، بعد ذلك يمكننا أن نخاطب
الغرب الذي قصر في رعاية حقوق الإنسان ، لكننا إن خاطبنا الغرب قبل أن نتبين ما
نحن عليه فللغرب ألف حجة علينا في أننا مقصرون ، للغرب ألف حجة ودليل علينا في
أننا مقصرون في رعاية الإنسان ، سيقول لنا : انظروا أنفسكم ، انظروا معاملاتكم
فيما بينكم ، وكيف تجزأ ، أمة في أكثر من سبع وخمسين دولة نسميها الأمة
الإسلامية فأي تسمية لأمة إسلامية تقبع في سبع وخمسين دولة وهي في هذا التدويل
ليست متوافقة ولا منسجمة ، وحتى القرارات التي تصدرها لا تلتزم بها ، فأين
قرارات مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي ، وقرر فيه المؤتمرون إعانة إخواننا في
فلسطين وإنشاء صندوق ، أين هذا الصندوق ، وأين تلك الإعانة وقس على ذلك أموراً
كثيرة . حينما نتحدث عن ذلك فمن باب الوفاء لأمتنا ، ومن باب الوفاء لبلدنا ،
ونريد لبلدنا هذا أن يكون أنموذجاً يحتذى في تطبيق حقوق الإنسان ، ولا سيما
بأنه يقول بأنه مسلم . نطالب أنفسنا وبلدنا بالحرية ، نطالبه بالحق ، نطالبه
بالعدل ، نطالبه بالإحسان ، وإلا فلسنا له بناصحين ، وعلينا أن نمارس النصيحة
التي هي دين فيما بيننا ، وصدق عليه وآله الصلاة والسلام إذ قال : " الدين
النصيحة " قلنا : لمن يا رسول الله ؟ الدين النصيحة وليست الممالأة ، وليست
المجاملة ، وإن كانت المجاملة مطلوبة ، ولكن المجاملة في الأسلوب وليس في
المضمون ، " الدين النصيحة " قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ، ولرسوله
، ولكتابه ، ولملائكته ، ولأئمة المسلمين وعامتهم " الدين النصيحة ، فاللهم
اجعلنا من الناصحين المنصوحين الذين ينصحون لله ، ويسعون جاهدين من أجل أن
يقبلوا النصيحة إرضاء لله أيضاً ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات