آخر تحديث: الثلاثاء 03 ديسمبر 2024      
تابعنا على :  

بحوث و مقولات

   
رؤية مسلم حول الإنسان والأخلاق

رؤية مسلم حول الإنسان والأخلاق

تاريخ الإضافة: 1970/01/01 | عدد المشاهدات: 5702

الأخلاق ثابتة أنى كان الإنسان
والعادة هي التي تتغير بتبدل الزمان وتحول المكان

1 - جدلية العلاقة بين الخلق والخلق
الإنسان ذو تجليين اثنين:
1- خلقي ، مادي، شكلي، ظاهري:
لا دخل للإنسان فيه سوى الإقرار بأنه تجلٍ متميز عن بقية المخلوقات في خلقها،ويكمن هذا التميز:
أ - في طبيعة الإنشاء الأول، والإيجاد الأساسي، الذي تم بطريقة نوعية، جاء وصفها في الكتب الدينية بشكل متشابه، وخلاصتها:
( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ص/17-27.
ب - في الاستمرار والمتابعة، عبر عملية التكاثر والتناسل، التي تختلف أسلوبا عن كل عمليات التكاثر والتناسل لدى المخلوقات الأخرى ، وقد وصفت الطريقة هذه في ثنايا آيات كثيرة ، منها:
" فلينظر الإنسان مم خلق ، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " الطارق/7.
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء"النساء/1.
ج - ويستمر التميز الخلقي أيضا ليظهر في الشكل الأرقى والأقوم:
" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " التين/4.
" يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك " الانفطار/6.

2- والتجلي الثاني هو التجلي المعنوي :
والذي يشكل الوجه الآخر للخلق، وقد اطلقنا عليه اسم التجلي الخلقي - بضم الخاء - وليس لهذا التجلي وجود أصلا لدى المخلوقات الأخرى، وهو محل تكليف بالنسبة إلى الإنسان، ولعله الأمانة التي حملها، وأبى حملها غيره من المخلوقات، فكل القواعد والنظم التي تحكم هذا القسيم تشكل - الخُلق - في مقابل ؛الخَلق"الذي يخضع لقواعد ونظم يطلق عليها القواعد المادية، أوالجسمية، أوالصحية.
ومن هنا وجب البحث عن نظام للخُلق يعادل نظام الخَلق من حيث تميزه ورقيه وحسنه، وبدون هذا النظام الخُلقي تنسلخ عن الإنسان إنسانيته، لأنه ما حازها إلا لأنه جمع بين المظهرين:
الخَلقي المقوم المسوى، المكرم به فضلا دون تكليف.
والخُلقي العظيم، المكلف به حماية ، ورعاية ، وارتقاء.
فليس الإنسان محض خَلق مادي، كما إنه ليس محض خُلق معنوي مثالي، وإنما هو هما معا ، ولذلك قلنا:
الخُلق أنسنة الخَلق، وبالخُلق يتأنسن الخَلق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(اللهم كما حسنت خَلقي، فحسن خُلقي) (1).

2 - ثلاثية التصور والموقف والأسلوب

وينقسم هذا التجلي المعنوي، من حيث محاله في الإنسان، إلى:
1- تصور،
2- وموقف،
3- وأسلوب أداء.
ولا بد من قواعد حاكمة لهذه المحال ، تشكل بمجموعها المنظومة الخُلقية، ولا بد لهذه القواعد من مُقعِّد وواضع ، وأولى مفرزات البديهة تشير إلى أن من سوَّى الخَلق هو الأولى بوضع نظام للخُلق، يكلفنا به،ويأمرنا أن نساوي بينه وبين النظام الخَلقي، فالذي قوّم الخَلق هو أعلم بما يقوم الخُلق . وبناء على ذلك فليلتزم الإنسان القواعد الناظمة والحاكمة والمؤسسة لتصوره حين تكون من الخالق. وليتبن الأحكام الضابطة والمغطية لموقفه، أومواقفه، إذ تصدر عن الخالق أيضا . وليأخذ بالشروط والأسس المكونة لأسلوب الأداء، التي يقدمها الخالق جل شأنه، أيضا . فالنظام الخُلقي، إذا ، كل هذا الذي سبق: مبادئ التصور، وأحكام الموقف والسلوك ، ومناهج الأداء والممارسة ، الصادرة عن الخالق ، الموثوقة النسبة إليه ، المتناسبة مع الإنسان، من غير تنافر معه، كلا أوبعضا فالإنسان عقل وجسم وقلب. ومن هنا نتحدث عن الإسلام، وعن دين الله الكامل التام، نظاما خُلقيا يغطي التصور بقواعد الإيمان وأركانه، ويغطي الموقف والسلوك بأحكام الشريعة ونظمها، وأسلوب الأداء بالإحسان وقيمه: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ؛الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ".قال: صدقت . فعجبنا له، يسأله ويصدقه ! قال: فأخبرني عن الإيمان ? قال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".قال: صدقت. فأخبرني عن الإحسان ? قال صلى الله عليه وسلم:أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (2). وهذا الإحسان، أي مبادئ ضبط أسلوب الأداء، هو الذي سيكو ن المضمون الاصطلاحي للأخلاق، وستقتصر دلالة الأخلاق على هذا فقط، بعد أن كانت تشمل الجميع، لما لهذا الأمر من أهمية، وسنبين هذا. ولن تجد في الإيمان، الذي هو تكليف التصور; وفي الإسلام، الذي هو تكليف الموقف والسلوك; وفي الإحسان، الذي هو تكليف الأسلوب، لن تجد في هذا التكليف ما ينافي العقل، أويجافي القلب، أويمضي ضد مسيرة الإنسان الواعية الرشيدة.

3 - تحديد وتبيان

فالإيمان والإسلام والإحسان - في أصل الدلالة - مقومات النظام الخُلقي، ثم خصص الخُلق للدلالة على مبادئ الأسلوب وقواعد الممارسة، أي خصص للإحسان فقط، حسب المصطلح الإسلامي، وإن شئت قل: للتحسين والتجويد، للقول والفعل، أداء للأول، وممارسة للثاني. وعلى هذا صار الخُلق: الأسلوب الأمثل للتعبير عن أسس التصور، وأداء الأقوال المرغوبة وممارسة الأفعال المطلوبة. فالفعل والقول - على هذا التبيان - لهما مستويان: مستوى مضموني، من حيث المضمون أوالموضوع. ومستوى أسلوبي، من حيث الأسلوب أوالأداء. وقد جاء التكليف بكليهما، وتفردت الأخلاق بالمستوى الثاني دون الأول، كما بينا، وبالدلالة عليه، وذلك لأهمية أسلوب الأداء، وشكلية ممارسة الفعل، فكم من فعلة ذات مضمون خير، وموضوع حق ، رفضت وسقطت، ولم تعتبر، نتيجة تخلفها عن أسلوب الممارسة، أي نتيجة فقدانها القواعد الفضلى الحاكمة لأسلوب ممارستها، قال تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) البقرة/362، فالصدقة فعلة ذات موضوع ومضمون جميل وراق ، لكنها مشروطة - لتبقى حميدة - بأسلوب أمثل يكتنف ممارستها، وإلا سقطت من الاعتبار. خلاصة الفكرة: إن الأخلاق، وبعد أن كانت تشمل كل القواعد التي تغطي التصور، والأحكام التي تغطي المواقف، والمناهج التي تغطي أساليب الأداء، تحولت في الدلالة من أجل أن تدل فقط على مناهج الأسلوب، أسلوب الأداء، وعلى الكيفيات التي تمارس من خلالها الأفعال والأقوال والحركات المطلوبة والمرغوبة، فالأخلاق هي إذا الركن الثالث، وهي الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". والخُلق: أسلوب أمثل في التعبير عن الأقوال المرغوبة، وممارسة الأفعال المطلوبة.

4 - الأخلاق عامة وشاملة

كل شيء خاضع لثنائية المضمون والأسلوب، لا تتخلف مفردة في عالم التصور أوالسلوك عن هذا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته) (3).
فالخلق يكتنف كل أمر، دون استثناء، ولكل شيء خُلقه، أي قواعد ناظمة لأسلوب أدائه وممارسته، وقد تسمى هذه القواعد آدابا . وإذا أخذنا الحج مثالا قلنا: هناك أحكام للحج، وأخلاق للحج، وكلاهما فرض.
أما الأحكام: فالإحرام، والطواف، و ... وأما الأخلاق: فالقواعد الناظمة لكيفية أداء الأحكام من فرائض وسنن وغيرها، فالآية القائلة:
( وليطّوّفوا بالبيت العتيق ) الحج/92، تبين حكما يتعلق بالحج من حيث المضمون والموضوع، وأما الآية
القائلة: ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) البقرة/791، فتبين خلقا ، لأن ذلك يتعلق بأسلوب الأداء والممارسة. ولابد من التأكيد على أن المطلوب في القول والفعل أسلوب أدائه وممارسته، كما يطلب مضمونه وحقيقته، بل إن الأولوية للأسلوب وصيغة الأداء، ومن هنا قال ابن عطاء ا&: ؛رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا ".
وقال الفضيل بن عياض: ؛لأن يصحبني فاجر حسن الخلق، أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق".
والشاعر العربي يقول: بشاشة وجه المرء خير من القِرى
وأعظم الأخلاق على هذا الاعتبار السعة والاستيعاب، في خط الأداء والممارسة، حتى إن الحضارة في - أحد تعريفاتها - سعة واستيعاب - فمن وسع واستوعب وتحمل فهو الحضاري المالك لزمام الأخلاق، القادر على بسط مقولاته ونشرها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم حسن خلق وبسط وجه) (4)، حتى تستطيعوا دعوتهم ونشر مبدئكم فيهم. والمنافسة اليوم تجري في العالم على الاستيعاب والسعة، فمن استوعَب فهو الأقوى، ومن استُوعِب هو الأضعف.

5 - مؤيد الأخلاق

يحيل بعضهم المؤيد في الأخلاق على الضمير، ضمير الإنسان، ولكنهم إذ يحيلون، لا يوضحون ما الضمير؟
ما مكوناته ؟ ما أبعاده ؟ ما مرتكزاته ؟
الضمير - إذ نعترف به - محل وظرف، ولا بد له من مضمون ومظروف، ولا يمكن أن تكون مضامينه ومظروفاته من التراكمات الإنسانية أومن التجربة الإنسانية المتعاقبة لأننا لو قلنا بذلك ظلمنا من سلف على حساب من خلف.
الضمير: محل الشعور وموطنه، هذا صحيح، ولكن لا بد للشعور من متعلَّق، ومن لازم لا ينفك عنه،وإذا كنا نتحدث عن الإنسان المخلوق، فأ ولى بهذا الضمير - من أجل تأييد الأخلاق ودعمها - أن يغرس فيه شعور الإيمان بالخالق، وأنه مطَّلع عليه ويراه، ويعلم ما يخفيه صدر الإنسان، ولهذا جاء الإحسان معرَّفا بهذا، في الحديث الصحيح: (أن تعبد الله كأنك تراه).
العبادة: اعتقاد بأركان الإيمان، وتطبيق لأحكام الإسلام الشاملة لكل نواحي الحياة.
والإحسان، أي الأخلاق: الأداء الأمثل لكليهما - الإيمان والإسلام - بمؤيد الرقابة الإلهية، ويزداد الشعور
بالرقابة هذه بزيادة الإيمان والحب : (فإذا أحببته كنت سمعه ... وبصره) (5).
رقابة الله - إذاً - مؤيد الأخلاق، ومحتوى الضمير، وعلى المؤدبين والمربين أن يسعوا إلى تقويتها في نفوس الناس لأن السر أساس الجهر والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحة) (6).
وننادي الأمة اليوم من أجل هذا مناداة حريص عليها، محب لها، وننادي الإنسان عامة أيضا ، لنقول: إن هذا المؤيد، أعني رقابة الله، يفوق كل المؤيدات الأخرى، المادية منها والمعنوية. فرقابة الدولة مهما قويت، ورقابة الناس مهما اشتدت، ورقابة الإنسان هو على ذاته مهما ارتقت، فلن تصل جميعها إلى مستوى رقابة الله، الذي يعني لدى المؤمن به، المطلع على السر والجهر، والصغير والكبير والخلجات والحركات، وقد قال الله: ( ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ق/61.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) تبارك/41.
إذاً فمؤيد الأخلاق رقابة، وهذه الرقابة يقوم بها المسلم، أويتفاعل معها المسلم على أنها من مفرزات الإيمان، فأنا أؤمن بالله، إذا أنا أستشعر رقابته، ويكفي هذا من أجل أن يكون مؤيدا للأخلاق، وأعتقد أنه يفوق أي مؤيد آخر.

6 - دافع الأخلاق

إذا كانت الأخلاق أسلوبا أمثل في أداء الأقوال، وممارسة الأفعال، والتعبير عن الاعتقاد، فلا بد من دافع يقبع خلف هذا الأسلوب ليكون أمثل ومستمرا ، وليكون أفضل ومتابعا ، وهذا يعتمد على طبيعة العلاقة بين المتخلّق وبين المخلّق، أي بين صاحب الأخلاق و بين محددها ومقعدها، ولا بد من اقتناع الإنسان بأنها واجب لازم، تتمم إنسانيته، وقضية لازمة أكيدة، تدعم تميزه، ولكن هذا أيضا يحتاج إلى قناعة المتخلق بقدرة المخلق، وبعلمه، وحكمته، ومعرفته. وحين يقر الإنسان بأنه مخلوق، وأن هناك خالقا أنعم عليه فخلقه، وينعم عليه فيمده، فإنه سيجد نفسه خاضعا لهذا الخالق، يستلهم منه، ويأخذ عنه القواعد والأحكام (7). وترتقي هذه العلاقة من شعور بسيادة الواجب - الذي أوجبه من هو جدير بالإيجاب - لتصل إلى مرحلة أقوى، وهي الحب ، حب المخلوق لخالقه، وعندما يقف الحب خلف تحسين الأداء والممارسة، ويغدو الماء الذي يسقي نسغ الأساليب وكيفيات الممارسة، فسيكون الأداء على الشكل الأرقى، وستكون الممارسة على الأسلوب الأمثل، وسيكون هذا المحب وهو يصدر القول والفعل بالأسلوب الأمثل، ذا خ لق عظيم، وهذا حال الرسول [ في كل تصرفاته وسلوكياته: وإنك لعلى خ ل ق عظيم القلم/4.
و(رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى) (8)، كما ورد عن
النبي صلى الله عليه وسلم.

7 - مصدر الأخلاق

تعددت النظريات الباحثة عن مصدر الأخلاق وقواعدها. من الذي قعَّدها ؟ من الذي وضع معاييرها ؟ من الذي أسَّسها ؟ من الذي نظَّم بيانها ؟ ولا نريد هنا عرضا للنظريات الكثيرة، لكننا نذهب داعمين تلك النظرية القائلة بأن مصدر قواعد الأخلاق بقايا تعاليم السماء، وقد ازداد رصيد القائلين بهذه النظرية يوما بعد يوم، حتى تكاد أن تبقى وحيدة في عالم النظريات، وتسقط كل نظرية سواها، وبمعنى آخر نقول: إن مصدر الأخلاق الله عز وجل.
فالقواعد الناظمة للأسلوب الأمثل، والمؤسّسة للشكل الأفضل، والطريقة الأنجع، جاءت آيات في كتاب الله، وشرحت مِن قِبَل مَن بيَّن هذه القواعد وهذه الآيات، وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وإن فيما قدمناه في البداية - حين تحدثنا عن جدلية الخَلق والخُلق، فألمحنا وأشرنا إلى أن الذي تولى الخَلق هو الأجدر بتولي نظام الخُلق - لداعماً لمن يقول: إن مصدر الأخلاق وقواعدها تعاليم السماء. لقد سلَّم العقل بأن الخَلق فعل الخالق، فليسلِّم - بالضرورة التابعة - بأن الأولى والأجدر بوضع نظام الخُلق هو الخالق نفسه، فالخالق أعلم بالمخلوق، من المخلوق بالمخلوق، وهوأدرى بما يناسبه من خُلُق. وبالعودة العملية إلى القرآن الكريم كتابا من عند الله نرى أن آياته مملوءة بما يحكم ذلك، ولا بد من أن نذكر هنا أن الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله قد صنف كتابا بعنوان "دستور الأخلاق في القرآن" جمع فيه ما ورد في القرآن الكريم من آيات تتعلق بالنظام الأخلاقي، أي التي تتعلق بقواعد الأسلوب، والممارسة، والمنهج المرتبط بالصيغ المثلى لممارسة أركان الإيمان، وأركان الإسلام، ولممارسة المطلوب من الإنسان، عملا وقولاً، فعلاً وكفَّاً عن الفعل،أي اجتنابا .

8 - معيار الأخلاق

إذا كان لكل شيء معيار ومقياس، فما معيار الأخلاق ؟ ومن يحكم بمناسبتها للإنسان، أوبعدم مناسبتها ؟
والجواب: إن المعيار والحََكَم هو الإنسان نفسه، حقيقته، داخله، مضمونه.
أنت أيها الإنسان،فطرتك، عودتك لذاتك، انكفاؤك على مقولة جوَّانيك، لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البِرُّ حُسن الخُلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) (9). وفي حديث آخر، عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : (جئت تسأل عن البر ?). قلت: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبَك. البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) (10). إذا المعيار أنت أيها الإنسان، فطرتك التي في داخلك، وأنت في نظر الإسلام لست آلة، وإنما إنسان محاكم، وأهم من تحاكم ذاتك، وفعلك، وما يمكن أن يكون قاعدة تشكل لك الأساس في انطلاقتك القولية والفعلية والحركية، وأظن أن هذا الحديث كاف في توضيح المقصود، وتبيان المراد، ونحن نتبنى ما تبناه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فعد إلى نفسك أيها الإنسان لتحكم على ما تتلقاه من قواعد أخلاقية بالمناسبة بينها وبينك أو بعدم المناسبة، فأنت بفطرتك، وبعقلك، وبتفكيرك، قادر على التمييز: ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره )القيامة/41.
ولتكن صريحا بينك وبين ذاتك، جريئا في إظهار ما وصلت إليه في سرك، فالمهم الجرأة ، وعدم المعاندة، ومتابعة القناعة، ولا تكن كمن وصفهم الله تعالى: ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) النمل/41.

9 - الأخلاق والعادة

هناك ضابط هام وفارق أساسي لا بد أن نذكره ونحن نتحدث عن الأخلاق والعادة،إذ كثيرا ما يخلط الناس بين الأخلاق والعادة، نذكر هذا الفرق في مستهل هذه الفكرة لنقول:
الأخلاق مرتبطة بالإنسان، والعادة مرتبطة بالبيئة، والظرف الاجتماعي، ومن هنا فالأخلاق ثابتة حيث كان الإنسان، وأما العادة فتتغير من بيئة إلى بيئة، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن مكان إلى مكان، ومن بقعة إلى بقعة، ومن زمن إلى زمن. ومشكلة إنساننا اليوم أنه أنزل العادة منزلة الأخلاق فتمسك بعادته الخاضعة لبيئته تمسكه بالأخلاق، بل أقوى، وراح يسعى إلى تصديرها على أنها عامة شاملة، وهي ليست كذلك. ولما صادمت عادته عادات أخرى، وكان من الطبيعي أن يحصل هذا التصادم، لم يتنازل عن عادته، ودافع عنها دفاعه عن أخلاقه، فحدثت الفوضى الكبيرة، والاختلاط العجيب بين الأخلاق وبين العادة. قد نرى أن الإسلام يُرفض أحيانا ، وذلك لأنه حمل عاداتنا على أن ها جزء هام منه، وعلى أنها جزء من أخلاقه، ولطالما طبع بعضنا عاداته - التي تكونت نتيجة بيئته - بطابع الإسلام، وراح يدعو إليها على أنها أخلاق الإسلام، أوعلى أنها أخلاق الإنسان، أوعلى أنها أخلاق قابلة للتصدير عبر القارات، وعبر الأزمنة لكل الإنسان. ولذا فنحن نطالب بفصل العادة عن الخُلُق، حين نقدم الإسلام مصدرا للأخلاق، وحين نقدم قواعد أخلاق الإسلام.
أيتها الأمة التي تحكّمت بك العادة، فأضحت خُلقا، وغابت عنك الأخلاق فكانت تاريخا يحكى، وقصصا تتلى،والناس اليوم تحتاج إلى أخلاق تمارَس وواقع يعاش، أزيلي أيتها، الأمة أو أيها الإنسان الساعي إلى خير الإنسان، أزل عن الإسلام ما ليس منه، وما هو من فعل العادة، وجرِّد الإسلام من كل ما ألحقته به مما لا يحتمله. لقد استبدلنا بالأخلاق عادات، وبالإنسان الواسع محدودا صغيرا ، وأطلقنا على عادات المحدود والصغير إسلاما وأخلاقا ، وعرضناها على الناس فرُفضت ، فلما رُفضت - وحُق لها أن تُرفض، وحُقَّ للناس أن يرفضوها نادينا عندها معاتبين صارخين: لقد رُفض الإسلام. والحقيقة أن ما رُفض عادات ربطناها بالإسلام زورا وبهتانا ، وليست هي من الإسلام.

خاتمة

الأخلاق أسلوب، ولكل قول أخلاقه، كما إن لكل فعل أخلاقه.
في الأول - أي القول - تتجلى الأخلاق في الأداء، والأداء يجب أن يتصف بالإحسان: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا )الأحزاب/23.
وفي الثاني - أي الفعل - تتجلى الأخلاق في الممارسة، والممارسة يجب أن تتصف بالإحسان أيضا :
(فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) (11). كما تتجلى الأخلاق في صيغة التعبير عن الاعتقاد: ( ولاتسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عَدواً بغير علم ) الأنعام/801.
و (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم) (21).

والحمد لله رب العالمين

التعليقات

شاركنا بتعليق