آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
معالم الإنسان المنشود

معالم الإنسان المنشود

تاريخ الإضافة: 2004/06/11 | عدد المشاهدات: 3776

أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :

في زمن الاندحار والانكسار ، في زمن الضياع والابتداع ، في زمن تجاهل الذات ونسيانها ، في زمن فراغ الباطن وتيهه يقف الإنسان أو يُضطَر الإنسان من أجل أن يقف هُنَيهَة مع ذاته . ما الذي حَصَّلته ؟ من أنا ؟ لقد تجاوزت ذاتي ، لقد ضيَّعت داخلي وباطني واستقراري ، فهلا وقفت مع نفسي من أجل أن أتدارك ما فاتني فيما يخص نفسي وحق نفسي عليَّ في زمن الضياع ، ألا يجدر بنا أن يسأل الواحد منا نفسه من أنا ؟ ما الصفات التي يجب أن أتحلى بها حتى أكون سوياً حتى أكون عنصراً متماسكاً قوياً يُشكِّل مع غيره من العناصر مجتمعاً متماسكاً متراصاً مستقيماً يستحق أن يكون أنموذجاً ، هلا سألت نفسك عما يُكوِّنك من صفاتٍ تشكل في النهاية ذاتك ، مالذي يكونك ، من أنت ؟
وأنا أفكر بهذا الذي قلته لكم وقعت عيناي على حديث عن سيدي وقرة عيني محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه كما جاء في مسند الإمام أحمد : " أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا " انظر نفسَك على أساسِ هذه الأربع من الخصال " أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا ، حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعِفة في طعمة " هذه مكوناتك ، فهل تراقب نفسك وهل تنظر إلى هذه الخصال فيك ، وبالتالي إن وجدت هذه الخصال حمدت الله وسألته الازدياد وتابعت سيرك لتشكل عنصراً فاعلاً واعياً نافعاً خيِّراً . ما لذي ينقصنا ، ما لذي يجب أن نحصله ؟ هذه الأمور التي جاءت من الذي لا ينطق عن الهوى .
حفظ أمانه : أنت حامل أمانةٍ في كل أحوالك ، وأهم أمانه تحملها هي التكليف ، تكليف الله عز وجل إياك ، فهل أنت تحفظ هذه الأمانات التي هي في رقبتك ، والتي هي على كاهلك وأهم هذه الأمانات تكليف الله إياك ، كلفك ربي وهذه أمانة :
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً الأحزاب : 72 أمانة التكليف : ﴿  فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى الليل : 5-10 حفظ أمانة ، كن أميناً من ناحية التكليف ، وكن أميناً إذا اؤتمنت من قبل الخلق ، من قبل الناس ، من قبل أبيك ومدرسك وأمك وأخيك وابنك وابنتك ، من قبل أستاذك ومن قبل مديرك ، من قبل ضابطك . في كل يوم انظر نفسك ، انظر بعض ذاتك ، انظر بعض ذاتك هل تحفظ الامانة ؟ " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة " هذا ربعك أيها الإنسان فانتبه من أنت .
وصدق حديث : يقول عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في صحيح الإمام مسلم : " اصدقوا إذا حدثتم " وفي البخاري : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب " انظر لسانك ، هل لسانك في كل يوم يحمل صقاً أم كذباً ، قد تكذب ولكنك تعبر عتن هذا الكذب بأنه اجتهاد وأنت لست أهلاً لتجتهد ، قد تكذب وتعبر عن هذا الكذب بأنه تحليل ، وقد كثر المحللون السياسيون والاقتصاديون من غير دراية ، هو كذب ، شئنا أم أبينا ، أنت تكذب ولا تدري بأنك تكذب ، وكان عليك أن تبحث عن استواء اللسان حين تتكلم .
وحسن خليقة : ولعلك تسألني عن حسن الخلق ، أقول لك من منهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال كما جاء في صحيح الإمام مسلم : " صل من قطعك ، واعف عمن ظلمك ، وأحسن إلى من أساء إليك " هذه معالم الخلق الحسن ، فيا أيها الإنسان انظر نفسك ، ربع أول يشكلك حفظ أمانة ، وربع ثان يشكلك صدق حديث ، وربع ثالث يشكلك حسن خليقة . وأما الربع الرابع الذي يشكلك :
عِفَّةٌ في طعمة : هذه ملامح ذاتك ، يروي الطبراني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شرَّه " هل كسبك طيب ، عفة في طعمة ، إن في طعمة الفم ، أو في طعمة الفرج " استحيوا من الله حق الحياء " هكذا قال النبي عليه وآله الصلاة والسلام قالوا : إنا نستحي والحمد لله . فقال : " الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر الموت والبلى " ، " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " ليكن طعامك طيباً " ومن يستعفف يعفه الله عز وجل " نحن بحاجة لأن تتشكل عناصرنا وفق هذه المعطيات التي ذكرناها ، وإلا ففي زمن الضياع ضائعون ، إن أردتم أن نكون في زمن الضياع ثابتين ، أن لا نكون ضائعين ، أن لا نكون في زمن الانكسار والاندحار منكسرين مندحرين ، إن أردتم ذبك فعايروا أنفسكم صباح مساء على ضوء مقولات سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعِفة في طعمة " نريد شباباً ونساء وموظفين ومسؤولين ، ويا حبذا إذ نتوجه بهذا إلى كل شرائح المجتمع وقطاعاته لنقول لهم : أنتم مسؤولون ، لكننا ومن باب الحرص عليكم وعلينا لا بد من أن تعودوا لتعايروا أنفسكم على ضوء هذه المعايير والأسس والمعطيات والمكونات ( حفظ أمانة وصدق حديث وحين خليثة وعفة في طعمة ) عند ذلك سيكون شبابنا على غرار مسؤوليهم ، وسيكون الناس على دين ملوكهم ، نخاطب كل مسؤول في أي بقعة كان ، ونخاطب كل إنسان في أي مكان في أن يتحلى بهذه الصفات التي تشكله وتكونه وتجعل منه عنصراً فعالاً ، يستحق بجدارة أن يكون نواة مجتمع نتنادى إلى إنشائه . أين عفة في طعمة ، وأين حسن خلق رسمنا ملامحه ، وأين صدق حديث ، وأين حفظ أمانة ؟ المسؤولية ليست مكسباً يحرص الإنسان عليه وليست فائدة يريد الإنسان أن يجنيها من خلال منصبه ، وليست امتيازاً ، وإنما بقدر ما تتعمق فيك هذه الأمور الأربعة بقدر ما تكون إنساناً مسؤولاً تستحق بجدارة أن تتبوأ من غير مرسوم سدة الإنسانية وسدة القيادة والمسؤولية ، وإلا إن تخليت عن هذه الخصال الأربع حتى وإن كانت هناك مراسيم في تبويئك منصباً ما فلست بأهل من أجل أن تكون مسؤولاً .
أيها الأب : إن أردت الأبوة الحقة النافعة فهذه معالم إنسان صالح ، أيها المدرس ، أيها الضابط ، أيها الشيخ ، أيتها الأم ، أيتها المعلمة ، أيها التاجر ، هذه معالم إنسان منشود لم نبتدع صفاته ، ولم نأت من أنفسنا بخصاله ، لكننا وقفنا تلاميذ وطوبى لنا إذ نكون كذلك ، وقفنا تلاميذ نجل ونقدر معلماً جعله الله كذلك ، ليس لنا فحسب وإنما لكل الإنسانية ، ولكل العوالم ، وقفنا تلاميذ أمام سيدنا وقرة عيوننا محمد عليه وآله الصلاة والسلام ، نقول له يا رسول الله علمنا فقال لنا هذا الذي ذكرنا .
لم يعدد النبي عليه وآله الصلاة والسلام خصالاً كثيرة من أجل أن تكون هذه الأمور الأربعة قائمة فيك لا تغادر خلدك ولا عقلك ولا تفكيرك ولا سلوكك ولا عاطفتك . إذا قامت فيك هذه الأمور التي يسهل عليك حفظها ، ولكن الإسلام لا يريد منك أن تحفظها فحسب ، لكنه يريد منك أن تتبناها ، وأن تتغنى بها وأن تعيشها وتعايشها ، وأن تترجمها إلى واقع ، أن تستمطر منها ماء يحييك ، أن تستمطر منها ما يعود عليك بالتنفيذ الواعي لها .
أؤكد على أننا في زمننا هذا إن لم نلتفت إلى هذه التكوينات فإننا سنكون عناصر تعطي للمجتمع عنوان الضياع والانحدار والانكسار ، وعنوان تجاهل الذات ، فكفانا أننا نركض ونلهث وراء السراب ونسينا أنفسنا ، كفانا أن الواحد منا أعار بطنه من حيث الأكل الكثير الكثير ، وأعار الكلام الفارغ اهتمتماً كبيراً ، ولكنه نسي نفسه ، ونسي مكوناته وعناصره ، كفانا أن قلوبنا أضحت اليوم مليئة بشيء اسمه الفراغ والضياع والانكسار وقابلية الاستعمار ، كفانا أن عقولنا ملئت حشواً لا فائدة فيه ، وأننا أصبحنا نذهب إلى هاهنا وهاهنا من أجل منافع ستأتينا هذه المنافع بشكل أفضل وأقوى وأحل لو أننا قدنا أنفسنا في مسار سيد الكائنات كما علمنا سيد الكائنات محمد عليه وآله الصلاة والسلام .
يا شبابنا : ما قدر لماضغيك أن يمضغاه لا بد ماضغاه ، ويحك كله بعز ولا تأكله بذل ، المقدر كائن ، ما قدر لك أن تكسبه فستكسبه ، ولكن خذه بأمانة وحسن خليقة وعفة في طعمة وصدق في حديث ، قوة الإنسان من خلال تكوينه عبر هذا الذي ذكرنا .
قوة الإنسان ليست في المال وليست في الجاه ، يا قوم : أنتم في واد وأنا في واد ، هكذا قال العز بن عبد السلام رحمه الله عندما قام أمام أولئك الظالمين ليقول لهم : لا تستحقون أن تكونوا حكاماً لأنكم مملوكون ، ويجب أن تباعوا في سوق النخاسة حتى تعود حريتكم لكم ، وبالتالي لأن الحرية شرط الحاكم ، وأنتم لستم أحراراً ، وخرج الناس مع العز بن عبد السلام يؤيدونه ، لأن الناس كانوا ينظرون ويفحصون ويمحصون أنفسهم على ضوء هذه المعطيات التي ذكرناها ، فلما خرج ومعه الناس قال له قائل : ارجع واعتذر وسيعفو عنك السلطان . فقال : لست في طلبي هذا صاحب نفع ، لكنني أريد الله من ورائه . لا أرضى - إن لم ينفذ هذا الأمر الذي هو أمانة في عنقي – لا أرضى أن يأتي هؤلاء ليقبلوا يدي فضلاً عن أن أعتذر إليهم ، أنتم في واد وأنا في واد .
القضية حينما يتكلم ذلك المخلص الذي كونته حفظ أمانة وصدق حديث وحسن هليقة وعفة في طعمة عندما يتكلم فهو يتكلم لله ولا يريد من وراء ذلك نفعاً لشخصه ولا منصباً لذاته :

إنما الله والنبي هواهم             وجميع الأكوان بعد هباء

لسان حالهم : إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ، إن رضيتم يا رب فهذا شرفي وعزي ، وإن أبيتم فليس لي عز وجل إلا عندكم ، إلا بالالتجاء إليكم , ورحم الله عمرو بن عبيد حينما قال : اللهم أغنني بالافتقار إليك ، ولا تفقرني بالاستغناء عنك .
لنسأل ربنا جميعاً في أن يجعلنا حافظين لأماناتنا ، صادقين في أحاديثنا ، حسنة أخلاقنا ، عفيفين في طعمتنا ، في كل ما نتلقاه ليغطي جوعنا ، إن جوع الفم أو جوع غير ذلك ، اللهم تقبل منا ما كان صالحاً ، وأصلح منا ما كان فاسداً ، وأصلحنا ظاهرا ًوباطناً يا رب العالمين ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق