آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الإنسان بين المعنى والمبنى

الإنسان بين المعنى والمبنى

تاريخ الإضافة: 2004/08/27 | عدد المشاهدات: 3047

أما بعد ، أيها الأخوة المسلمون المؤمنون :

لا شك في أننا إن سئلنا عن الحياة هل هي معنى أم مبنى سنجيب : الحياة مبنى ومعنى ، وإن سئلنا : هل المبنى هو الأهم أم المعنى أعتقد أننا أيضاً سنجيب بأن المعنى هو الأهم ، ولطالما استشهد من استشهد منا بقول شاعرنا :

أقبل على النفس واستكمل فضائلها           فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

وإن أردتُ أن أطرحَ هذا السؤال عليكم أيضاً أظن وأعتقد أن جوابكم سيكون الذي ذكرت ، ومن هنا أنطلق فأقول : إذا كان المعنى هو الأصل مقارنة مع المبنى ، وإذا كان الإنسان بروحه ومعناه قبل أن يكون بجسده ومبناه فهل نحن ماضون في دعم المعنى وتقويته وإشباعه وإروائه كما نحن ماضون في دعم الجسد وإشباعه . إني لأرى السلوك يختلف عن الادِّعاء ، وبالرغم من أننا نقول بأن المعنى هو الأصل لكنني أرى توجهاً إلى المبنى وإلى الجسد ، وأرى إهمالاً منا غير عادي نحو المعنى ونحو ما نسميه الروح والحقيقة والذي من خلاله نسمى إنسانيين . أرجو أن يكون ما أردتُ أن أقوله قد اتضح في أذهانكم . لكنكم ربما تساءلتم : ما المقصود بالتحديد من المعنى الذي يشكل القسيم الأهم للإنسان ؟ ما المقصود بالمعنى ؟ أنت تقول بأن الإنسان جسم وروح ، مادة وروح ، مبنى ومعنى ، فما المقصود تحديداً بالمعنى ؟ أجيب بأن المعنى هو : الصدق ، الأمانة ، اللطف ، الأنس ، الفطرة ، الإخلاص ، الإنسانية ، المقبولية الاجتماعية . المعنى هو جانبك الإنساني الصرف , المعنى رأس ومجمع الفضائل ، القيم النبيلة . تصور لو أنك خالي الوفاض من هذا الذي ذكرنا ، من كل شيء خيِّر ، من إنسانيتك التي تجعل منك مخلوقاً أسمى ، تصور لو أنك خالي الإهاب من هذا الذي ذكرنا ، إذاً لغدوت كتلة ولغدوت حجماً مادياً – كما قال بعضهم - يمكن أن تكون له قيمة ، فالإنسان حينما يُخَلى ويتخلى عن المعنى الذي ذكرنا مفرداته يمكن أن يكون إذا ما وضعناه في مقابل قيمة مادية يمكن أن يساوي بضع ليرات لا أكثر ولا أقل .
كيف نقوي المعنى الذي تحدثنا عنه ؟ أدعو شباب أمتي ورجالاتهم إلى أمور تقوي المعنى لديهم ، تقوي إنسانيتهم وقيمهم النبيلة ، أدعوهم إلى روافد تدعم هذا المعنى الذي تحدثنا عنه ، هذه الروافد لا أريد أن أذكرها كلها ، لكنني أقول : يأتي على رأس هذه الروافد ( الصلاة الواعية ) تلك التي يَعِي من يقوم بها ما يفعل ، الصلاة ذات الركوع والسجود اللذين يعنيان في النهاية خضوعاً لله وإسلاماً له ورضاً به وإيماناً به ، الصلاة ، ولولا أن الصلاة رافد كبير من روافد المعنى الذي نتحدث عنه لما قال النبي عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو داود : " ارحنا بها يا بلال " ولما قال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في سنن النسائي : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " لولا أن الصلاة كذلك لما قال النبي عليه وآله الصلاة والسلام ذلك ، ولما قال أيضاً كما جاء في صحيح البخاري عندما سألته السيدة عائشة عن سر طول صلاته وكثرة ركعاته : " يا عائشة ! أفلا أحب أن أكون عبداَ شكوراً " ولولا ذلك لما قال سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما كما جاء في مَجمع الزوائد : رأيت حبيبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يحافظ على ست ركعات بعد المغرب كل يوم .
أين شبابنا من الصلاة الواعية ومن شكلية الصلاة حتى تقوي هذه الصلاة الواعية المعنى لديهم وهم يقولون : الإنسان بمعناه وروحه وحقيقته وبما ينطوي عليه صدره المعنوي . أين شبابنا من صلاة الفجر ، وأين شبابنا من صلاة العشاء ، أين شبابنا من صلاة الضحى ؟! والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في صحيح مسلم : " كان يحافظ على أربع ركعات في الضحى كل يوم " أين أنت أيها الشاب من صلاة تقف من خلالها بين يدي ربك جلت قدرته ، تترك الكتاب هُنَيهة لتقف بين يدي ربك تستلهم منه تقويةً لمعناك ، لإنسانيتك ، لحقيقتك ، لوجودك . إن شبابنا شَرَدَ عن الصلاة ، حتى وإن صلى فهو في صلاته لا يرى إلا القيام بما فُرِض عليه ، لا يقوم بالصلاة إلا على أنها فرض ولا يقوم بها على أنها غرفة للإنعاش ، ساحة من أجل أن تدعم في داخله القوة المعنوية التي يُعَد الإنسان إذا ما امتلكها إنساناً بكل معنى الكلمة . هذا المعنى هو الذي جعل سيدنا محمداً يقف أمام إغراءات من أغراه ليقول : " والله لو وضعوا الشمس في يميني والفمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه " هذا المعنى هو الذي جعل سحرة فرعون يقولون لفرعون بعد أن تقوى لديهم المعنى هذا :
﴿ فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليعفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى طه هذا هو المعنى المنشود المطلوب . أين مواقف شبابنا أمام إغراءات الفساد وأهله ؟ إنهم في بعد عن رافد قوي يقوي هذا المعنى الذي يجعل منهم أصحاب مواقف أمام الفساد والشر والطغاة . إن هذا المعنى هو الذي تكلم عندما وقف سيدنا الحسين وقال : " هيهات من الذلة " هذه هي المعاني ، هذا المعنى هو الذي جعل العز بن عبد السلام رحمه الله يقول أمام الحاكم الظالم آنذاك ما أمره ربه أن يقوله ، فلما سئل عن سر قوته أمام الحاكم الظالم قال : استحضرت هيبة الله فصار أمامي كالهر .
الصلاة تأتيك بهذا المعنى الذي يحعل منك إنساناً مصلحاً تدافع عن الفضيلة والقيم والأخلاق والحرية ، تدافع عن كل صفة حميدة في الإنسان المخلوق الأسمى الذي أراده الله خليفة في الأرض
﴿ إني جاعل في الأرض خليفة البقرة .
الرافد الثاني القرآن . أين قراءتنا للقرآن وها هي العطلة الصيفية قد شارفت على الانتهاء ، أين القرآن لتعبئ به صدرك ، أين القرآن لتعبئ به عقلك ؟ أين القرآن لتعبئ به أذنك ؟ أين القرآن الذي تدندن به بينك وبين نفسك لترتاح ؟ هذه حقوق المعنى وواجباتك نحوها ، فأين واجباتك بذلك ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الترمذي والحديث حسن صحيح " كان لا ينام في كل يوم حتى يقرأ – هذا ورده القرآني – حتى يقرأ الإسراء والسجدة والزمر وتبارك " أين أنتم يا شبابنا ويا طلابنا ، يا طلاب المرحلة الثانوية والإعدادية والجامعية ، أين أنتم يا تجارنا ، يا معلمينا ، يا مثقفينا . هل تقرأ هذا ؟ لعلك تقول : لا وقت لدي . وأنت تقول هذا الكلام تدرك أن هذا الكلام واهم وليس صحيحاً ، ألا تقعد أمام برنامج تلفزيوني – لا أقول ضار ولكنه نافع – ألا تقعد أماه ساعة أو نصف ساعة ؟! لو خصصت من وقتك ساعة أو نصف ساعة لقرأت . ألا تجتمع بزميلك نصف ساعة على الباب ؟! ألا تجتمع بأصحابك على الطعام ساعة أو ساعات ؟! ألا يحق لي أن أختصر لك وعليك باسم المعنى الذي تقدم نفسك من خلاله ، ألا يحق لي أن أطالبك بأن تختصر من هذه الأوقات لتقرأ الإسراء والزمر والسجدة وتبارك ، وأنت تقول : إنني معنى ولست مبنى ، فأين حق المعنى عليك ! إننا نريد أن نكون أصحاب مَعانٍ لكننا لا نقدم الثمن ولا نصفه ولا ربعه ولا أقل من ذلك ولا أكثر ، وأصبحنا في زمن الادعاء ، زمن ضياع الروح ، زمن ضياع الصدر ، ضياع العقل والفكر ، وهذا لا يجوز .
الرافد الثالث : استغفارٌ وذكرٌ . رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في البخاري كان يقول : " إني لأستغقر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " وقد قلت في لقاء سابق : هل تستغفر ربك في اليوم مائة مرة ؟ هل تذكر ربك في اليوم من أجل أن تتوب إليه مائة مرة ؟ لا تحتجَّ بالوقت فهذا الذي أقوله لك يبارك الوقت الذي تملكه ويمدد الوقت الذي يحوط بك ، إي والله ، إن هذا الذي أقول لك يجعل من وقتك وقتاً متسعاً ، لأنك تذكر ربك ولأنك تحتفل بربك والمحتفَل به ، والمذكور ربٌ كريم يبارك ، وهو الذي ندعوه من أجل أن يبارك لنا وأن يرضى علينا ، وأن يكون متجلياَ علينا بعطاء وعفو ورضوان ومعافاة وغفران إلى آخر ما يمكن أن نقوله في أدعيتنا التي لا تتجاوز ألسنتنا .
أخيراً أذكر شبابنا برافدٍ نحن في غفلة عنه ، برافد أسميته فيما سبق بأذكار المناسبات . يا أيها الشاب ، وأنت العنصر الأهم في مجتمعنا ، لأنك المستقبل المرصود المنشود ، قلت لك فيما سبق وأكرر : أين ذكر أسميه ذكر المناسبات ؟ بمعنى : هل تقول ذكر الاستيقاظ من النوم ؟ هل إذا استيقظت تقول : " الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور " ؟ هل تقول الذكر الذي طُلِبَ منا من قبل النبي عليه وآله الصلاة والسلام أن نقوله ونحن خارجون من بيوتنا ؟ هل تقول : " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء " عندما تأكل وتشرب ؟ هل تقول دعاء علمنا إياه سيدي وحبيبي محمد عليه وآله الصلاة والسلام عندما تلبس الثوب الجديد " اللهم أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " هل تقول هذا ، هل تقول دعاء النوم ، ومن قال دعاء النوم فقد كفاه الله شر الكفر والفسق والضياع والانصهار في بوتقة الكفر والفساد واللهو والشر " باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه " هل تقول : " اللهم أسلمت نفسي إليك ، وألجأت ظهري إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت " هل تقول هذا ؟
أرأيت كيف أن الروافد التي تدعم المعنى جافة لا ماء فيها ولا هواء فيها ـ فكيف تريد بعد ذلك أن تقول لي : بأنني معنى وأن الإنسان معنى ، وأن شاعرنا العربي قال :

لَبيتٌ تخفق الأرواح فيه              أحب إلي من قصرٍ مَنيفِ
ولبس عباءة وتقر عيني              أحب إلي من لبس الشفوفِ

شاعرك العربي كان أقرب إلى المعنى منك حتى وإن كان قبل الإسلام ، شاعرك العربي كان اقرب إلى المعنى منك لأنك حينما تذكر مثل هذا البيت فأنت لا تدعم الروح التي تخفق في الكوخ ، في البيت الفقير ، وإنما تشرأب عنقك وتتطلع عينك إلى قصر مَنيف لا روح فيه ، بل فيه كل المادية الطاغية القاتلة ، وأنت ترضى بها بالرغم من أنها تقتل فيك أسمى ما فيك وهو المعنى وترضى ، وتعكس البيت الذي قلناه في البداية : أقبل على النفس واستكمل فضائلها ، وتقبل على الجسد وتستكمل شهواته وطلباته وتطلعاته فأنت بالجسم لا بالروح غير إنسان ، ولست إنساناً .
هذا ما أردت أن أضعه في أذني أولاً وفي صدري وفي آذانكم وفي صدوركم ، فإلى متى سنظل ندَّعي بأننا أصحاب الروح ولا روح ، وأصحاب المعنى ولا معنى ، إلى متى سنظل نصف الغرب على أنه مادي وعلى أننا روحيون معنويون والحال تكذب هذا . الغرب على عُجَرِه وبجره أقرب إلى المعنى والروح منا ، وانظروا حياته وحياتنا ، وانظروا طعامه وطعامنا ، وانظروا بيوته وبيوتنا ، وانظروا كلامه وكلامنا ، وانظروا لهوه ولهونا ، وانظروا صناعته وصناعتنا ، وهكذا دواليك .
لا يجوز ولا يليق بأمة عندها القرآن العظيم والنبي الكريم أن تكون بهذا المستوى الذي وصلت إليه اليوم ، ولا سيما وأن فطرتها تناديها :

أقبل على النفس واستكمل فضائلها            فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

أسأل الله أن يوفق شبابنا ونساءنا ورجالنا من أجل صلاة واعية ، ومن أجل قرآن متلو ومقروء ومُتَدَبَّر ، ومن أجل استغفار راشد ، ومن أجل ذكر يبقى أثره في الداخل ليحرك الإنسان في عالم الظاهر تحريكاً يستشعر من يرى هذا الإنسان بأنه خليفة الله في أرضه لا خليفة الشيطان على هذه البسيطة التي كرمنا الله يوم خلقنا عليها : ﴿ إني جاعل في الأرض خليفة البقرة اللهم وفقنا لذلك ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق