- بدعوة من مديرية الثقافة
في مدينة الرقة شارك فضيلة الدكتور محمود عكام في ندوة انعقدت في دار الثقافة
في مدينة الرقة بتاريخ الأحد 13/2/2005 م تحت عنوان : مسلمون ومسيحيون في
مواجهة التحديات .
وكانت مشاركة فضيلة الدكتور تحت عنوان : أنا والآخر : وهم التنافر وضرورة
التعايش .
وكان مَنْ شارك في الندوة : الأستاذ الدكتور جورج جبور ، والأستاذ الأديب سهيل
العروسي العضوان في مجلس الشعب السوري .
وهذا نص مشاركة فضيلة الدكتور محمود عكام :
أنا والآخر
وهم التنافر وضرورة التعايش
مقدمة :
من المعترف ومن المعترف به ، من سار في خط الاعتراف بالآخر انطلق من الاعتراف
بنفسه . ومن رفض الاعتراف بالآخر انطلق من رفضه نفسه فأنا المعترِفُ تارة ،
والمعترَفُ به تارة أخرى ، وأنت المعترِف تارة ، والمعترَف به تارة أخرى ،
وكلانا نتناوب نتداول : فلم أنا " أنا " على الدوام ولم أنت " الآخر " على
الدوام ؟ ولم أنت أنتَ باستمرار ولم أنا " الآخر " أبداً ؟
لنعد إلى البداية :
لقد سبقني إلى الوجود كثيرٌ من الناس فكنتُ بالنسبة إليهم " متأخراً " وسبقتُ
كثيرين فكانوا بالنسبة إليّ " آخرون " متأخرين ، وهكذا تتتابع السلسلة .
فإن تحدثنا عمّا سوى " الوجود " فتطرقنا إلى "الدين " فقبلي كثيرون يدينون بنفس
الدّين الذي أدين ، فأنا معهم " آخر " متأخر وبعدي كثيرون فهم معي " آخرون "
وإن عدلنا عن الوجود والدين فبحثنا في " القوة والمنعة " فالمعادلة في التناوب
بين " أنا والآخر " ذاتها ، فمن هم أقوى مني كثر وأنا " آخر " معهم ومن هم أضعف
مني كثر وهم معي " آخرون " .
حتى وإن تناولنا اعتبارات أخرى وركَّبنا عليها معادلاتنا المحورية السالفة
فالنتيجة واحدة ، فتعال يا " أنا " ويا " آخر " نتناصف ونعتدل وليأخذ كل منا
على سبيل التناوب تارة ساحة " الأنا " وتارة ساحة " الآخر " فسنكتشف في النهاية
أن القضية لعبة مخترعة لاستهلاكنا مجاناً ، ولاستثمارنا من دون مقابل ، بل
ولتحويلنا إلى " سفسطائيين " نعيش ونلهو بالحروف الحادّة الجارحة ، وكان
المأمول أن نعيش لنرقى بالحروف الجادة الجامعة فنلتقي على " ألف " الأمل و "
باء " البهاء و " حاء " الحياء و " جيم " الجماعة وهكذا بدلاً من أن تضيعنا "
ألف " الأنانية و " باء " البَطَر و " حاء " الحُنق و " جيم " الجهالة والجهل
وهكذا ...
ولنعُد إلى الشرق الأوسط الذي لا يختلف في رأيي عن الشرق الأدنى ولا عن الشرق
الأقصى ولا عن الغرب المقابل في شيء مما يخص المعادلة التي سجلناها أنفاً .
بل على الشرق الأوسط أن يكون أنموذجاً يُحتَذى في تطبيق العدل والإنصاف ومبادئ
الخير والحوار وثقافة التعايش الآمن المسالم ؛ لأن هذا الشرق هو مهد الديانات
السماوية ، ومنبع الحضارات الإنسانية الجادة .
ومنه انطلقت معالم إنسانية قويمة واعية ، تعم على الشرق الأوسط أن غَدَوا
ملاذاً لمن أراد الأمان وحقلاً ميدانياً لمن أراد دراسة السلام واقعاً وفعلاً .
ودعونا ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍمن
دِين يُفرق ولا يجمع ، ومن حضارة تُنفّر ولا تؤلف ، ومن مبدأ يُشرد ويهجّر ،
ولا يؤمّن ويطمئن ، ولا تحتجوا بإسرائيل المزروعة فينا زوراً وبهتاناً ، فإنها
امتحان ومَحكّ لنا ، وليست مشجباً لنعلق عليه تخلفنا وتفرقنا وتنابزنا بالألقاب
. ولو أننا مسلمين ومسيحيين وقوميين وعلمانيين وحتى يهود عملنا على أن نلتقي
ونتفق ونتحد في مواجهة الباغية المعتدية إسرائيل لزالت منذ زمن ، بل ولما وجدت
أصلاً . فها هو الله يمتحننا بها وفيها ، فهل نجتاز الامتحان بنجاح ؟ وإذا
جانبنا الامتحان فلم نعمل له ، صارت أخلاق إسرائيل السيئة أخلاق فئاتٍ منا تدين
بديننا ، وتتكلم لغتنا ، فراحت تمارس علينا ما تمارسه إسرائيل علينا من عدوان
وإرهاب وبغي ، ولعلكم عرفتم ، فالتطرف هو المَعني والمقصود ، وقد لَبِس ألف
لَبوس واتخذ أشكالاً وأشكالاً ، ولا حاجة لذكر عناوينه البراقة ولا أسمائه
اللامعة التي نحسبها ظاهراً ذهباً وهي في حقيقتها حمم من نار جهنم .
تعالوا إلى كلمة سواء ، إلى كلمة الخير لنكون من أهلها ، ومن ثم فكلمة الشر
بأهلها لن تقوى على مواجهتنا لأننا تعلمنا من ديننا أن الخير أصل ، وأن الشر
طارئ وعَرَضٌ وعابر ، ولا يتحول إلى ماكث إلا إذا فقد الخير أنصاره أو قرر أهل
الخير أن يتفرقوا بعضهم عن بعض .
والآن هما كلمتان : فإما الخير نتبناه وننتمي إليه وإما الشر نتخذه رفيقاً ،
فما أنتم مُقررون يا سكان مهد الديانات ، ويا أبناء بُنَاةِ الحضارات ، وإنا
لمنتظرون .
التعايش ضرورة إنسانية ينشدها الدين ويُمليها العقل :
جاء في دستور المدينة الذي وضعه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المادة
الأولى منه : " وأن اليهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين
دينهم " .
وهذا النص يدل على أن المسلمين واليهود يشكلون أمة بالمعنى السياسي ، متنوعة
الانتماء الديني لأنها تتشكل من أمتين بالمعنى العقدي ، وهاهو الإمام علي رضي
الله عنه يقول في رسالة وجهها إلى واليه في مصر مالك بن الأشتر : " أَشعِر
قلبكَ الرحمة للرعية والمحبة لهم أو اللطف بهم ، فإنهم صنفان : إما أخٌ لك في
الدين أو نظير لك في الخلق " . وقد قال تعالى قبل هذا كله : ( لا إكراه في
الدين ) البقرة : 256 ، وقال : ( فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر )
الغاشية : 21-22 ، وقال : ( أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) يونس : 99 ،
وهذه النصوص المنقولة عن الدين لا يغادرها العقل ، ولا المنطق السليم وتفرضه
الظروف الحياتية المشتركة والوطن الواحد والجغرافية المحددة .
ورحم الله الإمام الباقر حين قال : " صلاح شأن الناس التعايش " .
مقومات التعايش المنشود :
هما مقومان يختصران شروطاً كثيرة ومتعددة ومباحث وفيرة :
الأول : ضمان الحقوق للأطراف : ( للأنا وللآخر ) فحقّ كل طرف في المجتمع والوطن
مَصُون ومَرعي لا ينتهك ولا يُسَاء إليه ولا يُعتدَى عليه ، قال تعالى : ( ولا
تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) البقرة : 190 ، وقال تعالى : ( ولا يجرمنكم
شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) المائدة : 8 ، وقد كتب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً إلى نصارى نجران هذا نصه : " من محمد
النبي رسول الله إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكَهَنتهم ومن تبعهم
ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم
وجوار الله ورسوله ، لا يغيَّر أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ، ولا
كاهن من كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه
على ذلك جوار الله ورسوله أبداً ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم
ولا ظالمين " .
الثاني : الاحترام المتبادل : يبذله كل نحو الآخر لأن الإنسان بحد ذاته وبغض
النظر عن أي صفة تلحقه ، مُحتَرم ومُكرَّم قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم )
وما هذا الاحترام إلا عهدٌ إنساني قَطَعه الإنسان على نفسه في سره وإعلانه
وأمام ربه وعلى الإنسان أن يَفي به ليكون متحققاً بإنسانيته منسجماً معها قال
تعالى : ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً ) .
وأهمُّ عهد هو عهد الإنسان مع الله ليعبده وعهد الإنسان مع الإنسان ليحترمه ،
وما سوى ذلك من العهود توابع لهذين العهدين .
ولعلنا في هذا المجال نذكر أيضاً الأحلاف والمعاهدات التي عقدها رسول الله مع
قبائل اليهود وتجمعات النصارى وفئات المشركين ، لتكون لنا شاهداً على ما قلناه
من ضرورة التعايش بين الناس المختلفين ديناً وعقيدة على أساس من احترام متبادل
بينهم . وما أروع ما قاله القرآن الكريم تأكيداً على ذلك : ( لا ينهاكم الله عن
الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتُقسطوا إليهم
إن الله يحب المقسطين ) .
وفي النهاية :
هي دعوة الأنا والآخر إلى التعاون من أجل تحقيق تعايش مشترك آمن ، وأمل نعيشه
نبغي من أوراقه وظلاله أن يَرعوي المُمعِنون في غيّ التفرق والتشرذم عن غيهّم .
ويا أيها الناس لا تخلعوا ثوبَ إنسانيتكم بتطرفكم وظلمكم وعنادكم وتعنتكم ، بل
أبقوه عليكم واعتنوا به ، وحافظوا عليه أنيقاً نظيفاً حسناً ، فستُسألون أمام
ربكم وأجيال قادمة عنه ، و إلا فستنتهون إلى : ( فكذبوه فعقروها . فدمدم عليهم
ربهم بذنبهم فسواها . ولا يخاف عقباها ) .
د. محمود عكام
التعليقات