آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


محـــــــاضرات

   
معالم تربيتنا في مواجهة العولمة/ ديترويت – الولايات المتحدة الأمريكية

معالم تربيتنا في مواجهة العولمة/ ديترويت – الولايات المتحدة الأمريكية

تاريخ الإضافة: 2004/07/11 | عدد المشاهدات: 4647

ألقى فضيلة الدكتور الشيخ محمود عكام مساء الأحد 11 تموز 2004 الساعة السابعة مساء بتوقيت حلب محاضرة بعنوان : معالم تربيتنا في مواجهة العولمة على رواد منتدى الفكر والثقافة في ديترويت – الولايات المتحدة الأمريكية عبر الهاتف من حلب ، وأعقب المحاضرة أسئلة وأجاب عنها المحاضر

وهذا نص المحاضرة

معالم تربيتنا في مواجهة العولمة

مقدمة :
العولمة المطروحة والمعلنة هي عولمة قيم الدولة الأمريكية في المجالات السياسية و الاقتصادية والثقافية . أو هي بعبارة أخرى أمركة العالم في المجالات الثلاثة المذكورة آنفاً بواسطة وفعل القوة والإكراه (1) . وأمريكا ما كانت في الماضي لتعدّ نفسها لمثل هذا الدور لولا أنها جهدت في مسح آثار الدول الأوروبية على قسمات العالم الثالث لتُحلَّ محلها آثارها وتأثيراتها . وبمعنى آخر فأمريكا ـ وبدافع ردة الفعل على استعلاء أوروبا في الأرض حيناً من الدهر ـ تسعى إلى الاستعلاء الآن فهي مَنْ غَدَت الأكثر قوة وعتاداً وما عليها إلا أن ترث السمعة والسِّمة الاستعمارية قولاً وفعلاً حتى وإن لم تُعلَن وفاة المورِّث المغلوب على أمره ، وبالرغم مما بدا منه وعليه من بعض علامات الاستمرار في الحياة كاستعصاء فرنسا على الكاوبوي الامريكي في مفاوضات ( الغات ) وبذل الجهد في استثناء مساحة الثقافة من أرض هيمنة العولمة (2).
وعلى كلٍّ : فالعولمة إذ تُرفَض فلأنها تحمل جينات خطر على الإنسانية ، ويمكن أن يتفاقم الخطر فيؤدي إلى الدمار والإنهيار ، لأن العولمة في النهاية (3) :
1- تبغي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره .
2- تسعى العولمة إلى دمج العالم الثالث وحتى أوروبا في التقاليد والقيم الأمريكية ، وإبادة الخصوصيات الثقافية والمعرفية والتقليدية وإبادتها ، وهذا الدمج وسيلة قهر بالقوة واستغلال الحاجة المعاشية ، ومن هنا عبر بعضهم عن العولمة بقوله : إنها لحظة تتويج النظام الرأسمالي العالمي كونياً الخارج من رحم الدولة الوطنية (4).
3- تغدق العولمة على الجسد ما سيفيض عن حاجته من الإشباع ، غير أنها ستقتل في الوقت ذاته الروح ، وستذهب بالمحتوى الأخلاقي والإنساني لسلوك الناس .
4- ثقافة العولمة ثقافة الصورة ، وستتوسع هذه الثقافة في مُناخ من التراجع الحاد للثقافة المكتوبة ؛ والصورة إن هي إلا المادة في حدها الطاغي (5).
5- في العولمة يحل العنف الثقافي محل المثاقفة ، فالأول يعني العدوان والإكراه ، والمثاقفة تعني إصغاءً متبادلاً من سائر الثقافات بعضها إلى بعض .

معالم تربيتنا في مواجهة العولمة

ما ذكرناه آنفاً يدفعنا نحن الذين ندعى فريسة العولمة إلى اتخاذ موقف حيالها ولن يكون إلا أحد مسلكين :
فإما الإنكسار والاستسلام والانسجام الذليل والتبعية المقهورة التي تجعل منا مرشحين أذلاء لمواطنة أمريكية عن بعد برتبة " موالي " وكل ما نحلم به رضى السيد المتجلي في معونة مادية ليس منها قول معروف ، أو في بسمة ماكرة نضطر لاحتسابها فرحاً بنا وعلينا ، أو في تأكيد دعمه للقابعين منا على كراسي الحكم ليظلوا كذلك ما داموا على العهد اللعين محافظين (6) ، وأما المواجهة الواعية عبر الفكر والكلمة ، فلا نمتلك امتلاكاً جاداً سواهما ، ولنا فيهما رصيد ، وعندنا منهما مخزون ، وليس ثمة من محدِّد أو مجلِّي لهذه المواجهة إلا التربية ، فما معالمها في مواجهة هاتيك العولمة :
أولاً : الممانعة والتمرد ، وزرع بذور ذلك في نفوس من نتوجَّه إليهم بالتربية ، ففي البدء كانت الممانعة ، وهي تعني لدينا تنمية وتقوية التمرد على السوء ، وشدّ أزر عصيان الإنسان للطغيان ، ولها تشكلات منوّعة وتجسيدات متعددة في تاريخ الإنسانية الجاهدة في تحقيق إنسانيتها ، فهي على سبيل المثال- في تراثنا- كلمة حق عند سلطان جائر (7) وأعظم بها جهاداً إيجابياً للوصول إلى خير يعم الانسان ، وهي أيضاً في تجليات أخرى رفض للمهادنة والمساومة على المبادىء الجادة فـ : " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه " كما جاء على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال هذا رداً على مساومة الطغاة له حين راودوه عن مبدئه وعرضوا المال والملك والنساء ، فلن ننفصم عن جذورنا ولن نؤتى من تحت أرجلنا ، ولن تضيع هويتنا ، وسنبقى نجهد في اللقاء مع الآخر على أرض حوار إن هو استجاب وإن لم يستجب فاختار سبيلاً أخرى ضارة بالإنسان فقد ظلم والظلم رذيلة الرذائل ، وليس الظالم بمنصور أبداً وإن غَلب ، وسيُبلى الظالم - لا ريب - بأظلم ، وما يوم البرجين عنا ببعيد .
ثانياً : تعميق القراءة وثقافة المكتوب ، ولتتناول القراءة مكوِّنات الهوية وعناصرها ، ولعل أهم مكونٍ لها التاريخ ، تاريخ المبدأ وسيرورته ، وإنتاجاته ، وأعني بالمبدأ الدين الذي يرتبط بالسماء مصدراً وبالأرض منزلاً ، الدين الذي ينفتح على الإنسان الكوني رحمة ورعاية وحماية ، وما أظن أن العولمة تقابل بغير الدين ، فكلاهما يودان الانفتاح على العلم كلّه ، بيد أن أحدهما وهو الدين يمعير الناس على أساس من قوة الانتماء الجاد العملي والقولي إليه بغض النظر عن العرق واللون ، في حين أن العولمة تعمّم أو تسعى إلى تعميم قيم منطقة محدودة من خلال إنسانها الذي امتلأ إهابه زهواً وإعجاباً بنفسه ، وقوته المادية وعتاده وثرواته ؛ لقد ضعف ارتباطنا بجذورنا لجهلنا بها ، فسهل على أي ريحٍ خلعنا عنها وزرعنا في أي تربة أخرى غريبة عنا وعن الإنسانية .
وقد آن الأوان إلى الدعوة إلى مقاطعة ثقافة الصورة المستوردة الضارة لأننا لا نستطيع منافستها ، فلنؤكد على ثقافة المكتوب عبر مسابقات ومنافسات وتكريمات وندوات ، وتخصيص جزء بسيط مما ننفقه على الصورة التابعة الذليلة لنجعله في خدمة الكلمة الواعية البانية ، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) (9) فإن أعرضتم عن القلم فلن يدافع الحق عنكم ، وستظل اتهامات غيركم لكم لا تنفك عنكم مهما كانت سيئة ، وسنبقى مرشحين لها وذلك بما كسبت أيدينا ، أو بالأحرى بما جنته عيوننا وقد أهملنا سواها وعطلناها .
ثالثاً : الكف عن الإمعان في إشباع الجسد ، وتحويل الجهود إلى تغذية الأرواح الجائعة والعطشى ، فإلى متى وكأننا لا نملك إلا الجسم والجسد ، وسرّ الروح المستودع فينا ننكره . لقد اشتد أنين الروح وهي ترزح تحت وطأة المادة القاتلة الطاغية ولا مغيث ، فهيا إلى إنقاذها وإشباعها والبحث عن مصدر نظيف ومنبع طيّب لريّها ، فهل في تلافيف العولمة ما يلبي تطلعاتها ؟! إني أشك وفي الأمر جد مرتاب .
والشك والريب جاءاني بعد اطلاع على ملف العولمة ، فهل ثمة من يأتيني منه وعنه بخبر يخالف ؟!
وإذ نبحث عن إشباع الروح فلن نجد غذاء أولى من الصدق والرحمة لها ، وها نحن أولاء ننادي ولاة أمر التربية ليبثوهما وليحكوا حكاياتهما التاريخية وليبينوا مكانتهما الرفيعة في رقعة الأخلاق ومساحة السلوك ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كان الرحمةَ عينها ، وقد حُصِر بها فلم يكن إلاها ، كما عبر القرآن الكريم حين قال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (10).
وها هو من جهته يدعو إلى تمثّلها والتحلي بها فيقول : " الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " (11).
وكذلك الصدق الذي ما انفك المصلحون في حياتهم عنه لحظة وما كانوا كذلك إلا به ، فهو أسُّ الفضائل ونظام القيم وجامع الخير ، والروح لولاه مُرهقة متعبة بل ربما كانت مفرّغة ، وهي إلى الصورة والشكل الخامل أقرب .
وفي النهاية هنا : أعطني رحمة وصدقاً وخذ إنساناً عالي الهمة ، مصلحاً ، راقياً ومرقياً تشع منه شمس الحياة باستمرار ، كما قال الزعيم الهندي المهاتما غاندي (12).
رابعاً : تأصيل التعارف غاية إنسانية جادة ، وتوجيه التقانة الاتصالية لتكون في خدمة ذلك ، وبكلمة أخرى : علينا التنادي إلى تسجيل غايةٍ نبيلة لهذه الثورة العارمة القوية للمعلوماتية ، وليس ثمة غاية أنسب للإنسان من التعارف ، قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) (13).
والتعارف يعني معرفة الناس بعضهم بعضاً معرفة موثقة عارية عن الوهم والتخمين ، والتعارف جذر العلاقات الإنسانية الواعية ، وهو بلا شك طريق الاعتراف بالآخر ، ولا اعتراف من غير تعارف .
وليس للتعارف حدود جغرافية ولا سدود أيديولوجية ، بل كل الناس على اختلاف أراضيهم وألوانهم وأديانهم مدعوون إليه ، من خلال ترسيم وترسيخ معالم ثقافة تدعى ثقافة التعارف . فلنضمِّن ذلك مناهجنا وكتبنا ومؤتمراتنا ، وإلا فالإنسان عدو ما جهل ومَنْ جهل ، و : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (14).
وثقافة التعارف تنتمي إليها كل الثقافات البناءة الإيجابية من حوار ولقاء وتعايش وسلام وأمان وإنصاف وعدل واستقرار .
أخيراً : نطلب من دعاة العولمة ومروِّجيها متابعة نشاطهم فيما يخص عولمتهم ، لكننا نلفت عنايتهم إلى ضرورة اعتبارنا وعدم إهمالنا ، لأننا نظراؤهم في الإنسانية حتى وإن لم نكن شركاء لهم في مكونات عولمتهم المادية . وليعلموا أن عولمة تقهر إنساناً تعني علواً في الأرض بغير حق . وأن عالمية ترحم إنساناً وترعى إنساناً تعني مستقبلاً مرجواً ومنشوداً ، وشر الناس من أكرمه الناس وقدّره الناس واحترمه الناس اتقاء شره ، فانظروا حولكم وافحصوا تقدير غيركم لكم واحترامه لكم ، وإن صدقتم الفحص والتمحيص فستعرفون وتدركون ، وإذا عرفتم فلا تجحدوا وتسدروا ، بل توبوا واعترفوا ( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ) (15).
                                                                                     د . محمود عكام


الهوامش :
1-2-3-4-5 : " العرب والعولمة " بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية . السيد ياسين ، عزمي بشارة ، أنطوان زحلان ، محمد عابد الجابري ، نبيل علي ، عبد الإله بلقزيز ، جلال أمين ، إسماعيل صبري ، عبد الله بول سالم ، محمد الأطرش – ط ثانية 1990 .
6- رَ : نهابة التاريه والإنسان الأخير : فرانسيس فوكوياما ص : 290 ، بحث أحرار وغير متساوين ، مركز الإنماء القومي ، ترجمة : فؤاد شاهين ، جميل قاسم ، رضا الشايبي بإشراف مطاع الصفدي .
7- رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي : رَ : كشف الخفا ، تحقيق أحمد القلاش ، مكتبة التراث الإسلامي ، حلب .
8- رَ : السيرة النبوية ، نور اليقين ، محمد الخضري ، دار دانية ، دمشق ، بيروت : 1990 .
9- القلم : 1- 3
10 - الأنبياء : 107
11- رواه البخاري ، رَ : صحيح البخارب ، باب الرحمة .
12 - رَ : لمحات من ترياخ العالم ، جواهر لال نهرو ، ص 117 ، المكتبة العصرية ، بيروت : 1960 .
13- الحجرات : 13
14- الحجرات : 6
15- طه : 73

التعليقات

شاركنا بتعليق