بمناسبة تسمية حلب عاصمة للثقافة الاسلامية دعت جمعية العاديات للاستماع الى محاضرة بعنوان: حديث وجداني رمضاني. وقد ألقاها سماحة الدكتور الشيخ: محمود عكام، في الساعة الثامنة والنصف من مساء الأربعاء: 26 رمضان 1426 الموافق: 18/10/2006 في مقر جمعية العاديات بحلب.
في بداية اللقاء رحب الأستاذ محمد قجة رئيس جمعية العاديات بالدكتور عكام، وقال:
لقاؤنا اليوم متميز وذو خصوصية يكتسبها من أمرين اثنين: فهو لقاء في رمضان والحديث حديث وجداني رمضاني. هذا أولاً، وثانياً، فإن محدثنا اليوم له خصوصيته وتميزه أيضاً، فهو ابن حلب البار الدكتور الشيخ محمود عكام.
والدكتور محمود عكام كما يعرفه الجميع: أديب ومفكر مستنير، ورجل مؤمن واضح في التعبير عما يعتقده، وعامل جاد من أجل ما يؤمن به.
وقال الأستاذ قجة أيضاً:
الدكتور الشيخ محمود عكام رائد من رواد الفكر المستنير، وفكره هذا واضح في كل ما يقدم، في خطبه ودروسه وأحاديثه وكتاباته في الصحف والمجلات وفي ما يصدر من كتب ومؤلفات. وهو رجل صاحب مواقف ثابتة، ونحن نحترمه جميعاً لثباته ونقائه.
وقد شكر الدكتور عكام في بداية محاضرته جمعية العاديات وأعضاءها وإدارتها، وبخاصة الأستاذ محمد قجة. وقال:
حديثنا اليوم كما أريد له حديث وجداني عن رمضان، وقد جعلت هذا الحديث في فقرات، فهو أفكار مفقَّرة أو فقرات فيها أفكار.
- الفكرة الأولى أو الفقرة الأولى:
حروف كلمة رمضان خمسة، وقد نظرت إليها على أنها رموز تشير إلى كلمات لها علاقة برمضان، أو على أنها اختصارات تعبر عن معانٍ هي أبعد من مدى الحروف.
نظرت إلى الراء فوجدتها تشير إلى الرحمة، ونظرت إلى الميم فرأيتها تشير إلى المغفرة، وكلا الرحمة والمغفرة لازمان لرمضان، وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال عن رمضان في خطبة له: (شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة). وأما الضاد فهي ضمان، ضمان للعتق من النار، ورمضان آخره عتق من النار.
وأما الصوم فحروفه الثلاثة تشير إلى معانٍ رأيتها من وراء الحروف، فالصاد رمز الصبر، ورمضان شهر الصبر كما ورد في الأثر. والواو وقاية، و: (الصيام جُنَّة) أي وقاية، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والميم مساواة ومواساة ومغفرة، وكلها معان ذكرت على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق رمضان.
- الفكرة أو الفقرة الثانية:
رمضان شهر السنة التاسع، والشهر التاسع شهر المخاض والولادة، فرمضان شهر ولادة، وعلينا أن ننظر هذا المولود الذي جاء به رمضان، ولكل واحد منا مولوده في رمضان. ولقد دُخل على الإمام علي كرم الله وجهه يوم العيد وهو يأكل خبز شعير، فقيل له: أخبز شعير في يوم عيد ؟! فقال الإمام: اليوم عيد من قُبل بالأمس صيامه وحَسُن بالليل قيامه.
من كان مولوده في رمضان سليماً، إذ تحقق بدروس رمضان، بعد أن صامه وقامه، فهو الذي يستحق أن يفرح بالعيد.
- الفكرة أو الفقرة الثالثة:
هناك كلمتان تعبران عن الإمساك، هما: الصيام والصوم، أما الصيام فهو الإمساك عن المفطرات الحسية، ولكن الصوم إمساك عن المفطرات المعنوية، ومن رحمة الله أنه كلفنا بالصيام، وترك الصوم لنا لنجاهد في التحقق به، ولو كلفنا بالصيام والصوم معاً ما صام منا إنسان.
- الفكرة أو الفقرة الرابعة:
علينا أن نعرف واجباتنا وأن نحرص على أدائها، كما نحرص على معرفة حقوقنا وتحصيلها. الإنسان ثلاثة: فواحد يعرف واجباته وحقوقه فهو إنسان عادل، وثانٍ يعرف حقوقه وينسى واجباته فهو إنسان ظالم، وثالث يعرف واجباته وينسى حقوقه فهو إنسان فاضل.
هيا بنا لنتعرف على واجباتنا حيال من سوانا وما سوانا من الأشخاص والأشياء معاً، ومن الحيوان والنبات أيضاً، فنحن مقصرون في معرفة واجباتنا وبالتالي نحن مقصرون في تطبيقها. ومن تعرف على واجباته وضع رجله على طريق تكامل إنسانيته.
ورمضان شهر القرآن، فهيا بنا لنتعرف على واجباتنا حيال القرآن، ولقد رأيتها ثلاثة واجبات:
التلاوة: التي تعني الاهتمام بإتقان الأداء لفظاً ونطقاً.
القراءة: التي تعني الفهم والإدراك.
التدبر: الذي يعني التطبيق بعد التلاوة والقراءة.
- الفكرة أو الفقرة الخامسة:
في هذا الشهر ليلة وردت فيها أحاديث كثيرة، وقد ترك أمر تحديدها إلى اجتهاد العبد وعمله، وإن كانت هناك أحاديث وروايات تدل عليها، ويشير معظمها إلى أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان.
وقد رأيت في سورة القدر استئناسين اثنين يشيران إلى أنها في ليلة السابع والعشرين.
الاستئناس الأول: أن كلمة (هي) التي تشير إلى ليلة القدر في هذه السورة، والتي وردت في قوله تعالى: ﴿سلام هي حتى مطلع الفجر﴾، هي الكلمة السابعة والعشرون.
الاستئناس الثاني: أن تعبير ﴿ليلة القدر﴾ يتألف من تسعة حروف، وقد ورد ثلاث مرات في السورة فيكون الحاصل سبعة وعشرين، وهو تاريخ الليلة، والله أعلم.
أما لماذا كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر مع أنها ليلة واحدة ؟ فإن ليلة القدر هي ليلة الكتاب، والكتاب منهاج والمنهاج دليل وهدى، وليلة بكتاب خير من ألف شهر بلا كتاب.
قد تقضي ألف شهر وأنت تبحث عن مرادك فلا تصل إليه، ولكنك قد تصل إليه في ليلة واحدة إذا كان معك دليل، والإنسان من غير دليل وكتاب إنسان تائه، وهو مع الكتاب بصير.
فلسفتي مع القرآن تتلخص في المثال التالي:
لكل مصنوع كتاب ودليل يرافقه نسميه "كتالوج"، نجد في هذا الكتاب وصف المصنوع ووظيفته، وقد يرسل الصانع مع هذا الدليل خبيراً في تشغيل الآلة واستخدامها.
ومن عالج مصنوعاً من غير دليل فربما خرّبه، وهذا مثل من عزل نفسه عن أن يتصل بدليل من عند ربه، لأن الإنسان هو المصنوع الأرقى، وقد أعطاه الصانع الخالق دليلاً هو الكتاب، هو القرآن. وفي هذا الكتاب وصف الإنسان الصادق وتوظيفه المناسب.
القرآن دليل الإنسان، ولكن قد يتدخل إنسان ما ويأتي بدليل مزور، وينسبه إلى الله عدواناً وظلماً: ﴿فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾.
- الفكرة أو الفقرة السادسة:
رمضان شهر الجهاد. رمضان شهر الفتح بالمعنى الإنساني الرحموي، فرمضان شهر الفتح والنصر، هو شهر النصر الذي كان في بدر، وهو شهر الفتح فتح مكة.
فهل من فرق بين النصر والفتح ؟
لقد عطف القرآن النصر على الفتح: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾، والعطف يقتضي التغاير، لذا كان النصر غير الفتح.
النصر هو الغلبة المادية، وأما الفتح فهو الإقناع المنطقي أو الغلبة المعنوية بآلية الإقناع.
هل تملك الأمة المنتصرة منهاجاً تقدمه لمن انتصرت عليهم ؟
آلية الفتح: إقناع ومنطق ودعوة على بصيرة وبرهان وحُجة.
ولن ترى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً إلا بالنصر والفتح.
في رمضان معركة تصب في مصب النصر وهي معركة بدر، وأخرى تصب مصب الفتح وهي فتح مكة، ولذا كان هذا الفتح من غير قتال، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحرمة. نهاه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (اليوم يوم المرحمة، اليوم تُعظّم الكعبة). ثم دخل مكة وهو يقول: ﴿وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً﴾.
الباطل زهوق بنفسه، فـ "زهق" فعل لازم، لذا فإن الباطل يزهق بمجرد قدوم الحق.
رمضان شهر الجهاد والصيام، والصيام والجهاد فِعال، وهو وزن يقتضي المفاعلة، فأنت تجاهد من أمامك في الجهاد، وتجاهد في الصيام دافعاً في داخلك الذي يدعوك إلى الإفطار .
﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾ و: ﴿كتب عليكم الصيام﴾ وفيه من الكره بالنسبة للنفس ما فيه. ولذا فإن في الجهاد صياماً وإن في الصيام جهاداً، عندما تجاهد تمسك عما سوى القتال، والصيام جهاد لأنك تقاتل دوافعك كما قلنا.
- الفكرة أو الفقرة السابعة والأخيرة:
لقد ناجيت رمضان فقلت:
رمضان: أيها الشهر الكريم، أنت لوحة حَوَتْ كلَّ معالم الدين. وأنت مدرسة ضمَّت كافة مبادئ إعداد الإنسان القويم.
رمضان: أنت إطلالةٌ تبشِّر بعطاء، ومنارةٌ تدلُّ على مسار السعادة والهناء.
رمضان: يا شهرَ الصيام والقيام، والحرية والجهاد، ويا شهر التقوى ونقاء الفؤاد... الرحمةُ فيك جليَّة، والمغفرة نديَّة، والعتق من النار عطيَّة.
رمضان: مَن فرضَ الصيام فيك إلهٌ أحقُّ أن يُعبَد، ومن بلَّغنا عن الله الحقِّ صيامَك رسولٌ معظَّم مُحَمَّد، والدِّينُ الذي وسعك ركناً من أركانه لا شكَّ مؤكد.
قارنتك يا رمضان بأيام الصيام لدى آخرين، فوجدت الفرق واسعاً، والبونَ شاسعاً، فأين ثراهم مِنْ ثُريَّاك، وأين مداها - مهما كان - من علياك ؟
رمضان: أنعشتَ قلوبنا بقدومك، وطيّبتَ نفوسنا بهلالك، فطِبْ معطاءً، ولْنَطِبْ مبشَّرين بعطائك.
رمضان: أنت شهرُ حريَّة، وما قولُنا هذا إلا لأنَّ لكلِّ فريضةٍ فضيلةٌ تخيِّمُ عليها، وأهمُّ فضائل الصوم حريَّة. وهل الحرية إلا خلاصٌ من هوى وهَوان.
رمضان يا شهر الصيام: معانيك أبعدُ مِن مدَى حروفك، فالصادُ في صومك صبرٌ، والواو فيه وقاية، والميم مساواة ومواساة ومغفرة.
رمضان: شهرُ الوحدة أنت، وهل وحدةُ الإنسانية إلا وقوفٌ موحَّد على أرض مشتركاتها ؟! فما أكثرَ ما تجمع عليه الصائمين يا رمضان مِنْ مشتركات. فيا أيها الصائمون اتحدوا.
رمضان: لله درُّك مِنْ معمِّق للمسؤولية فينا... المسؤوليةِ عن الكلمة، والمسؤوليةِ عن الوقت، والمسؤوليةِ عن الآخر، والمسؤوليةِ عن الوطن والأرض والعرض.
رمضان: أنت شهر المقاومة لنَزغِ شيطانٍ إنسانيٍّ أو آخرَ جنيٍّ، فبوركتَ مِنْ ظرف مُؤدِّب مُهذِّب، ونسألُ اللهَ أن نكون خلالك وبعد رحيلك من المتقين.
رمضان: فيك نزلَ القرآن، والقرآنُ كتابُ الله للإنسان، يجد فيه الأخيرُ وصْفَه ووظيفته، فيهتدي ويقتدي بمن نزلَ عليه القرآن ليكون على خط اتباع الكمال.
رمضان: أنت للجهاد عنوان. لجهادِ الفساد والطغيان والعدوان ومقاومة الآثم والباغي والشرير.
وعلى طول أيامك ينادي ذاك المنادي العظيم: يا باغيَ الخير أقبل ويا باغيَ الشر أقْصِر.
رمضان: يا شهرنا الغالي عليك السلام، وافداً وزائراً ومقيماً وراحلاً.
اذكرنا عند ربك مع مَن لهم بصمةُ تقوى وهدى في أيامك وساعاتك ودقائقك وثوانيك.
اذكرنا صائمين مُحتسبين، وها نحن نغتنم شهودك فندعو ربَّنا وربَّك:
اللهمَّ اجعلنا من عُتقائك منَ النار، ومن عُتقاء شهر رمضان، وأدخلنا الجنةَ من باب الريَّان بسلام، اللهم سلّمنا لرمضان، وسلّمْ رمضان لنا، وتسلَّمه منَّا مقبولاً، يا أرحم الراحمين.
في نهاية المحاضرة شكر الأستاذ محمد قجة الدكتور محمود عكام على حديثه الوجداني الرمضاني، ثم قدم له باسم جمعية العاديات درع الجمعية، تكريماً للدكتور عكام واعترافاً بفضله ومكانته وبره الكبير لمدينته العظيمة حلب.
التعليقات