آخر تحديث: الإثنين 05 مايو 2025      
تابعنا على :  

لطيفة قرآنيــــة

   
والعصر إن  الإنسان لفي خسر

والعصر إن  الإنسان لفي خسر

تاريخ الإضافة: | عدد المشاهدات: 2732

لطيفةٌ قرآنيَّةٌ

(وَالعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)

استجابةً لطلبِ أخٍ كريمٍ، فإنَّ اللَّطيفةَ القرآنيَّةَ لهذا الأسبوعِ ستكونُ في رحابِ (سورة العصر): (والعَصْرِ. إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ. إلَّا الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ وتَوَاصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبر) أقسمَ الله عزَّ وجلَّ بالعصرِ، فقال: ﴿والعَصْرِ﴾، وثمَّةَ مرادفاتٌ لهذه الكلمة، كالزَّمن والوقت، فما الفرقُ بين العصر والزَّمن والوقت ؟

- الزَّمنُ: هو الظَّرفُ مُطلَقًا، فأنتَ تقولُ مثلًا: (جاءَ فلان ليلًا)، ليلًا هُنا: ظرفُ زمانٍ في مقابلِ ظرفِ المكان، وكأنَّ الزَّمن هو المادَّة الخامُ الأساسُ للوقتِ والعصرِ .

- الوقتُ: هو زمنُ عملٍ ما، فزَمنُ أيِّ عملٍ يُسمَّى (وقتًا)، فزمنُ الصَّلاةِ -مثلًا- هو وقتُها، أي ظرفُ أدائها، فهو (وقتُ الصَّلاة). وزمنُ الامتحانِ هو وقتُه، أي مدَّةُ أدائه، فهو (وقتُ الامتحان).

ولابنِ عطاء الله السَّكندري رحمه الله عبارةٌ يقولُ فيها: "حقوقٌ في الأوقاتِ يمكنُ قضاؤُها، وحقوقُ الأوقاتِ لا يمكنُ قضاؤُها"، ومعنَى هذه العبارةِ بمثالٍ بسيطٍ من باب التَّذكير: وقتُ هذِه اللَّطيفة -وهو زمنُ أدائها كما قُلنا- لهُ حقٌّ، وحقُّه هو إرسالُها وأداؤُها بالنِّسبةِ لي، واستقبالُها واستماعُها بالنِّسبةِ لك، فالاستماعُ -إذًا- (حقُّ الوقتِ)، أمَّا الصَّلاةُ -وأَعني صلاةَ السُّنَّةِ التي يَتركُ بعضٌ منَّا الاستماعَ لأجلِ أدائِها- فهي (حقٌّ في الوقت)، و(الحقُّ الذي في الوقتِ) يمكنُ قضاؤهُ بعد أداءِ (حقِّ الوقت)، لأنَّ الوقَت يتَّسعُ للاستماعِ للَّطيفةِ ثمَّ لأداءِ السُّنَّة؛ سنَّة الجمُعة البعديَّة، فمَن فاتَه استماعُ اللَّطيفةِ فاتَتهُ اللَّطيفةُ ذاتُها، طبعًا حيثُ لا يكونُ ثمَّةَ تسجيلٌ لَها.

يُروَى عن عبدِ الله بنِ وهبٍ الفقيهِ المالكيِّ المصريِّ كما في (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرِّ) قال: (كنتُ عند مالكٍ فجاءَت صلاةُ الظُّهرِ أو العصرِ وأنا أقرأُ عليه وأنظرُ في العلمِ بين يدَيه، فجمَعتُ كتُبي وقمتُ لأصلِّي، فقال لي مالك: ما هذا؟، قلتُ: أقومُ للصَّلاة، قال: إنَّ هذا لعَجَب! فما الذي قُمتَ إلَيه بأفضلَ من الذي قُمتَ عنهُ)، لأنَّ الوقتَ الفاضلَ بعد انتهاءِ مجلسِ العلمِ كافٍ لأداءِ الصَّلاةِ وزيادة.

وممَّا يؤسَفُ لهُ أنَّنا بِتْنا لا ننضبطُ إلَّا بالحزمِ والشدَّة، فلَو كنَّا -مثلًا- في حصَّةٍ مدرسيَّةٍ وأُذِّنَ لصلاةِ الظُّهر، أَفَكُنَّا نتركُ الدَّرسَ لأداء الصَّلاة؟ لا، طبعًا، ولكنَّنا نؤدِّي الصَّلاةَ بعد فراغِ الدَّرس، فثمَّةَ زمنٌ الدَّرس، وزمنٌ للصَّلاة.

ثمَّ إنَّ الصَّلاةَ التي هي (حقٌّ في الوقت) تصبحُ (حقَّ الوقت) إذا ضاق الوقتُ، فلَم يَعُد يتَّسع إلَّا لأدائها.

الخلاصةُ: زمَنُ عملٍ ما هو إمَّا (حقُّ الوقت) أو (حقٌّ في الوقت).

- العَصرُ: هو زمنُ إنسانٍ ما، فزمنُ كلٍّ منَّا هو عصرُه، أي إنَّ الزَّمنَ أو الظَّرف المُضافَ إلى الإنسانِ هو العصرُ.

نقولُ -مثلًا-: (عصرُ النَّبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم)، ونعني به ذلكَ الوعاءَ الزَّمنيَّ الذي ملأَه وشغلَه النَّبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم بأعمالِه، ولقد ملأَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم زمنَه وعبَّأَهُ بكلِّ نافعٍ وصالحٍ ومُصلحٍ، لذا، نُسِبَ الزَّمنُ إليه، فكانَ (عصرَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم)، لأنَّ العصرَ يُضافُ ويُنسَبُ عادةً لأجَلِّ أُناسِه وأعظمِ أشخاصِه، نفعًا وعطاءً وإحسانًا، على الرُّغمِ من مزامنةِ عُصورٍ أخرَى لزمَنِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنَّ هذا العصرَ في التَّاريخ الإنسانيِّ نُسِبَ في النِّهايةِ إليه.

وقد قيلَ: (العصورُ تتصارَع)، لأنَّ العصورَ أوعيةٌ، والوعاءُ الأكبرُ هو الغالبُ، وهو الذي يُنسَبُ الزَّمنُ إليه.

والسُّؤال هاهُنا: هل يُقالُ: نحنُ في عصرِ العربِ والمسلمين؟ أظنُّ أنَّ الجوابَ يحتاجُ إلى نظَرٍ وتأمُّلٍ.

الخلاصة: العصرُ هو الزَّمنُ منسوبًا إلى أَعظمِ ناسِه نفعًا وعطاءً وإحسانًا، ومَن لا يُنَسبُ إليه عصرُه فهو في خُسرٍ: (والعَصْرِ. إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ).

فالقسَمُ في قوله تعالَى: ﴿والعصر﴾ هو قسَمٌ بعَصرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأنَّه -في اعتقادنا، وفي الواقع- أرقَى العصور، إذْ كانَ أَكبرَ الأوعيةِ الزَّمنيَّةِ وأَطهرَها وأَرقاها، فالعصرُ هُنا هو عصرُكَ -يا محمَّد- الذي أنتَ فيه حاضرٌ، و(أل) التَّعريف فيه هي (أل) العهد الحُضوريّ،(أل) التي تُشيرُ إلى مقصودٍ معروفٍ معيَّن موصوفٍ بالتَّمامِ والكمال، كما نقولُ: (فلانٌ الرَّجُلُ)، أي صاحبُ الرُّجولةِ المكتملة.

وربَّما قال بعضُ المفسِّرين: العصرُ هاهُنا هو عصرُ كلِّ واحدٍ من المخاطَبين، أي عصرُ الإنسانِ عامَّةً، وهذا تأويلٌ واردٌ، لكنِّي لا أظنُّ القرآنَ يَعدِلُ عن القَسَمِ بأبهَى العصورِ ليُقسِمَ بعُصورِنا نحنُ.

(والعَصْرِ. إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ)، إذا لَم يكُن لهُ عصرٌ، أي إِنْ لم يَملَأْ وعاءَ زمنِه بالمناسبِ والنَّافعِ.

فهل نملكُ اليومَ عصرًا؟

نحنُ نتلمَّسُ ونتلقَّفُ عصورًا ماضيةً من التَّاريخ، ونَنسِبُها إلينا، على مِثلِ أولئك الذين قال الله عزَّ وجلَّ فيهم: (ويُحبُّون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا)، فتَرانا نقولُ -مثلًا- حينَما نُسأَلُ عن عصرِنا: المسلمونَ فتَحوا العالَم، اخترعوا الصِّفْرَ، أسَّسوا علمَ الجَبر، أبدَعوا كذا وكذا، ونبتسمُ وكأنَّنا نحن اليومَ الذين حقَّقْنا هذه الإنجازاتِ، ونحنُ في -الواقعِ- لا علاقةَ لنا بها.

في أحسنِ أحوالِنا اليومَ مثَلُنا كمَن يُقلِّبُ كفَّيهِ في دراهمَ لممالكَ تاريخيَّةٍ غابرةٍ، ويريدُ أن يُضاربَ بها في (البورصة) العالميَّة الرَّاهنة!! هذا في أحسنِ أحوالِنا، فما بالُكَ لو كان هذا الرَّجلُ واهمًا أصلًا في حقيقةِ دراهمِه،لأنَّه لا يعرفُ حقيقةَ العصرِ الذي كانت فيه تلكَ الدَّراهم!

(إلَّا الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ وتَوَاصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبر)، فإذا أردتَ أن يكونَ لكَ عصرٌ -أيُّها الإنسانُ- فلاحظ أمورًا أربعةً، وداوم عليها، واصطبر عليها، وهي، كما نصَّت هذ الآية:

- (آمَنُوا): والإيمانُ تعبيرٌ عن داخلٍ مطمئنٍّ مُوقِنٍ راسخٍ.

- (وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): تعبيرٌ عن ظاهرٍ مُنضبطٍ مُنتجٍ نافعٍ.

(إلَّا الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ وتَوَاصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبر).

- (وتَوَاصَوا بالحقِّ): أي تواصَوا فيما بينَهم بالإيمان.

- (وتَوَاصَوا بالصَّبر): أي تواصَوا فيما بينَهم بالصَّبر على عَملِ الصَّالحات.

في هذِه الآيةِ (لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّب)، كما في علمِ البلاغةِ:

- آمَنوا وتواصَوا بالحقِّ الذي هو (الإيمان).

- عَمِلوا الصَّالحات وتواصَوا بالصَّبرِ على (هذا العملِ)، والصَّالحاتُ كلُّ نافعٍ لكَ وللآخَرِ من الأعمالِ.

والسُّؤالُ الآن:

هل أنتَ مؤمِنٌ؟

هل تعملُ الصَّالحات؟

ما هيَ صالحاتُك؟ تقولُ: صلاةٌ وصيامٌ وحجٌّ.

وسؤالي: هل إيمانُكَ وصلاتُك وصيامُك وحجُّك هو الإيمانُ والصَّلاة والصِّيام والحجُّ التي أمرَ اللهُ بها؟

هل تغشُّ في عملك؟ نعم!

هل تؤدِّي الأمانةَ المنوطةَ بك في وظيفتِك؟ لا!

هل تَصدُقُ في حديثِك؟ لا!

أينَ الأعمالُ الصَّالحةُ إذًا؟!

لعلَّكَ أو لعلَّنا نقولُ: اللهُ كريمٌ وعفُوٌّ وغفورٌ، ولن يتركَ رسولُ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم أحدًا من المسلِمين حتَّى يَشفعَ لهُ!

نحنُ نتحدَّثُ عن المغفرةِ والشَّفاعةِ حديثًا على هَوانا، حديثًا يُرضينا، لكنَّه لا يَبني الإنسانَ الذي يُريدُه اللهُ ورسولُه.

كان الصَّحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم يتَواصَون فيما بينَهم، فيقول قائلُهم كما في الصَّحيح: (تَعالَ نُؤمنْ ساعةً).

أمَّا نحن فنخوض مع الخائضين.

كانوا يتواصَون بالصَّبر، ويتذاكَرونَ قولَ النَّبيِّ الأعظَم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (صبرًا آلَ ياسر، فإنَّ موعدَكم الجنَّة)، أمَّا نحنُ فبماذا نتواصَى؟ وبماذا نُصبِّرُ بعضَنا؟

نحن في الغالبِ نتواصَى بالصَّبر على أمورٍ صغيرةٍ، ونعلِّلُ أنفسَنا بأمورٍ لا وزنَ لها، ولا دوامَ لها.

الخلاصةُ:

﴿وَالعَصْرِ﴾: عَصرُكَ أنتَ يا محمَّد صلَّى اللهُ عليكَ وسلَّم،  العصرُ عصرُ محمَّدٍ لأنَّه أكثرُ العصورِ عطاءً صالحًا نافعًا للإنسانيَّةِ جمعاء، شَهِدَ بذلك كثيرونَ من الشَّرقِ والغربِ، منهم (وِلْ ديُورانت) يومَ قال في (قِصَّة الحضارة): "لو كانت العظمةُ تُقاسُ بما للعظيمِ من آثارٍ نافعةٍ، فلا شكَّ في أنَّ محمَّدًا هو أعظمُ العظماءِ".

ويكادُ الخجلُ والقُصُورُ والتَّلوُّمُ يَغلِبُنا ونحنُ نَسوقُ مثلَ هذا الكلامِ، لأنَّنا في عصرِنا صِغارٌ جدًّا بجانبِ عصرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأنَّنا في واقعنا العامّ أقلُّ شأنًا من أن ندَّعي الانتسابَ لذلكَ الجنابِ الشَّي والعصرِ العظيم.

إنَّ مَثَلَنا ومَثَلَ ادّعائنا هذا كمَثَلِ رجُلٍ دخلَ سوقًا، وراح يُفاخِرُ بدكَّانِ جدِّه، ويقول للنَّاس: هذه الدكَّان كانت لجدِّي، فيها ما تشاؤون، فخذوا منها ما شئتُم.

ولكنْ، هل تملكُ أنتَ حقًّا ما كان يملِكُه جدُّكَ حتَّى تستَيقمَ لكَ تلكَ المباهاةُ والمفاخَرَةُ والمُنافسَة؟!

حقًّا: ﴿إنَّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ إذا لم يكُن لهُ عصرٌ يُقارِبُ به عَصرَكَ يا محمَّدُ، عصرَ العطاءِ والنَّفعِ والإحسانِ العامّ.

- أخيرًا، هذه السُّورةُ المباركةُ (سورةُ العصر) تعني لي الكثير، وينبغي أن تعنيَ لكَ أنتَ أيضًا الكثيرَ، فإنَّها كانت مِن قَبلُ تعني الكثيرَ للصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، ولذا، كنتَ تَراهُم يَقرؤونها باستمرارٍ، ولا يَفترقونَ إلَّا على قراءَتِها، يتَذاكَرونَ معانيَها، ويتواصَونَ بما فيها.

ندعوكم لمتابعة صفحتنا عبر الفيس بوك بالضغط على الرابط وتسجيل المتابعة والإعجاب

https://www.facebook.com/akkamorg/

لمتابعة قناتنا عبر برنامج التليغرام بالضغط على الرابط وتسجيل الدخول والاشتراك

https://t.me/akkamorg

التعليقات

شاركنا بتعليق