أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
في عمق البشرية النافعة إنسانية، وفي عمق الإنسانية المتميزة رحمة. وبعبارة أخرى: البشرية ترتقي فتغدو إنسانية، والإنسانية ترتقي فتغدو رحيمة أو رحيمية أو رحمانية، فإذا أردت أن تتعرف على إنسانيتك وعلى عمقها وعلى نوعها فانظر رحمتك، فإن كنت رحيماً فأنت إنسان، بل إنسان متقدم في مضمار إنسانيتك، وإن كنت تملك قلباً رحيماً فأنت أيضاً إنسان متقدم تحوي كل ما يمكن أن ينشد للإنسانية من خير: بشرية، إنسانية، رحيمية أو رحمة أو رحمانية قلها كما تريد وانسبها كما تريد.
المساحة الإنسانية تقاس بقدر ما فيها من رحمة كما قلنا، والرحمة إذ تطول أكبر قدر ممكن ممن حولك وما حولك فهذا يعبر أيضاً عن إنسانية عظيمة، فإذا طالت الرحمة التي يحويها قلبك ويحتوي عليها فؤادك الإنسان الذي أمامك فأنت رحيم، لكنك على أقل من المستوى المنشود، فإذا طالت غير الإنسان فأنت رحيم ورحمتك ضربت كما يقال بأس اثنين أو ثلاث أو أربع.
تخيلوا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان الرحمة ذاتها، والرحمة عينها، والرحمة كلها، أوليس الله عز وجل قال: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ فسيدي رسول الله كان الرحمة كلها وطالت رحمته العالمين، وإن فسَّرتم العالمين على أنها تعني كل العالمين أو كل الناس لأن كل إنسانٍ يشكل عالماً فذلك أمرٌ عظيم، وإن فسرتم العالمين على أنها تشمل كل العوالم على مختلف أجناسها وأصنافها فذاك أمرٌ عظيم أيضاً، لأننا إن قلنا عن العالمين بأنهم الناس على أن كل إنسان منا يشكل عالماً فإنما نعني به الإنسان وما حوله ومن حوله، ونعني الإنسان الذي يشكل المتحول مع ما يتبعه من جمادات وحيوانات وأشياء أخرى.
والمهم أن نعلم أن رسول الله هو الرحمة عينها وذاتها وقد طالت رحمته الإنسان والحيوان والجماد والأشياء، وهذا ما قرره القرآن الكريم يوم قال: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ فانظروا يا إخوتي إنسانيتكم، وتأكدوا منها من خلال الرحمة القابعة في دواخلكم والتي تنتشر آثارها إلى ما حولكم وإلى من حولكم، فهل أنت إنسان تتمتع بإنسانية راقية، إذاً انظر رحمتك، رحمتك الإنسان ورحمتك من حولك وما حولك، أتريد أسوة في هذا الميدان ؟ لقد رضي الله لك نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، صلى الله عليك في يوم مولدك، صلى الله عليك يوم بعثت لتكون رحمة للعالمين، صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله يوم قلت: (حياتي خيرٌ لكم ومماتي خيرٌ لكم) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، يا أيها الأسوة، يا أيها العظيم، يا صاحب الباطن المُكمَّل والظاهر المُجمَّل، يا صاحب السر المعطر، يا صاحب النسب الراقي والعالي النظيف، يا سيدي يا رسول الله سأذكر للناس في ذكرى ميلادك الرحمة التي كنتها والتي أرسلت على أنك هي وعلى أنها أنت، فأنت الرحمة المهداة، وقد أعلنت ذلك يا سيدي يوم قلت كما جاء ذلك في صحيح الإمام مسلم: (أنا نبي التوبة، وأنا نبي الرحمة) فيا أتباع هذا النبي هل أنتم أتباع نبي الرحمة ونبي التوبة أم أتباع غير ذلك، إني لآمل أن أكون وتكونوا أتباع نبي الرحمة ونبي الملحمة حيث تكون الملحمة رحمة، لأن الرحمة لا تتجلى بعمق أو برفق وإنما تتجلى بحكمة، وقد تكون الحكمة عنفاً أمام عتلٍ زنيم، وقد تكون الرحمة حلماً أمام إنسان يستبشر بالخير ويُستبشَر الخيرُ به.
رسول الله أعلن التكوين والمهمة عندما قال: (أنا نبي التوبة وأنا نبي الرحمة) وأعلنها أيضاً عندما قال كما جاء ذلك في صحيح الإمام مسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة)، وتجلت الرحمة في أن يكون النبي كفيلاً عن هذه الأمة في ديونها فيما يتعلق بذممها وهو يقول كما يروي الترمذي بسند حسن وصحيح: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه بنفسه فمن ترك ديناً فعليّ، ومن ترك مالاً فلورثته).
يا أيها الناس، يا أيها المسؤولون عن الشعوب: هنالك مدينون وغرماء ومرضى لا يستطيعون العلاج ومظلومون لا يستطيعون أن ينتصروا لظلمهم أو لأنفسهم أو على الظالم لأنفسهم فمن الذي سيعينهم أيها الإخوة ؟ أنتم أيها المسؤولون، لأن سيدي رسول الله كما قلت لكم يقول: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه بنفسه، من ترك ديناً فعلي ومن ترك مالاً فلورثته) فالمال للورثة، أما أنا فأتكفل هذا الذي يقع على أحد من أتباعي أو رعاياي، وهذا الذي قاله صلى الله عليه وآله وسلم هو تجلٍّ من تجليات الرحمة.
فيا سيدي يا رسول الله أعلنت المهمة فكانت المهمة رحمة وإن كانت في بعض الصور تتجلى الرحمة ملحمة لكن المهمة لا تخرج عن كونها رحمة، وأعلنت الكفالة لهذه الأمة وهذه أيضاً من تجليات الرحمة، وإذا ما نظرت إلى سيرتك العطرة رأيت تطبيقاتٍ رحموية لا أعظم ولا أجمل، أولست يا سيدي يا رسول الله ـ ولطالما تحدثت عنك ـ بأنك قلت كما جاء في البخاري: (إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوَّز فيها لما أعلم من وجد أمه عليه) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله من رحيم بالأمة، بالإنسانية، بالجماد، بالحيوان، ما أعظمك في رحمتك يوم دخل عليك الأقرع بن حابس كما يروي الشيخان فرآك تقبل الحسن والحسين فقال لك يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم فالتفتّ إليه سيدي رسول الله وقلت: (أوَ أملك لك إن كان الله قد نزع من قلبك الرحمة، من لا يرحم لا يرحم) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله يوم استشهد عثمان بن مظعون فوضعته في حجرك وبكيتَ وسالت دموعك الطاهرة على خدي عثمان بن مظعون وحكى ذلك الصحابة رضي الله عنهم فقالوا رأينا رسول الله يضع عثمان بن مظعون في حجره بعد استشهاده وسالت دموع رسول الله على خدي عثمان بن مظعون. روى ذلك الترمذي وحسَّنه.
هذه تطبيقاتٌ رحموية أو لسنا بحاجة إليها يا أتباع نبي الرحمة، أولسنا بحاجة إلى أن ننظر أنفسنا لنرى فيما إذا كنا بتلك الآية الواصفة لوضع كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنه: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ فهل أنتم رحماء بينكم يا إخوتي، إن قلت هذا وذكرت نفسي وإياكم فمن أجل حثي وحثكم على اتباع صادق لنبي كريم ارتضاه الله عز وجل لنا أسوة، وأنتم تعلمون وقد قلت لكم على هذا المنبر بأن الأسوة فوق القدوة، وأن الأسوة تعني قناعةً في الاتباع لهذا المؤتَسى به بالإضافة إلى الحب، فعندما تقتنع بإنسان من أجل أن تتبعه فهو بالنسبة لك قدوة، فإن أحببته مع القناعة بكونه قدوة فقد ارتقى من قدوة إلى أسوة، ورسول الله أسوة ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾.
وجاءت دعوة رسول الله الأمة كلها إلى الرحمة فقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمُكم من في السماء) فارحموا أبناءكم وارحموا آباءكم وارحموا أوطانكم وبلادكم وارحموا قدسكم بجهاد فاعل وارحموا شعوبكم أيها القادة على مختلف توجهاتكم، ارحموا تلاميذكم ارحموا علومكم وارحموا ثقافتكم لأن ثقافتنا تريد لبوساً صالحاً لها ولا لبوس صالحاً لها إلا الإسلام، ارحموا جيرانكم يا هؤلاء فإن الجوار اليوم يعيش في مأزق وإني أريد أن أذكّر نفسي وإياكم بهذه القضية وإن تركت لها مساحة أكبر من غيرها فلأنني أعيش نكدها وآثارها من خلالكم فما بال الواحد منا لا ينظر إلى جاره نظرة رحمة ولا يقوم حياله بعمل يتصف بالرحمة، بل كلنا يقسو على كلنا وكأن الآية القرآنية عكست فأصبحنا أشداء فيما بيننا رحماء على الكفار المعتدين الآثمين، فكلنا غدا يلتمس موضعاً يطمئن فيه على حدّ زعمه عند عدوّ لدود لا يريد من إلا الذل ولا يبغي إلا أن يحجرنا في خيام الذل والمهانة.
أتريدون يا إخوتي على مستوى الشعوب والمسؤولين أن تحولوا الآية من العكس إلى العكس، أناشدكم الله أن تتراحموا فليرحم كل منا أخاه، وليرحم كل منا وطنه وبلده، وليرحم كل منا عدوه من خلال جهاده، وجهاد العدو رحمة له، وأنت إذ تستأصل غُدَّة في جسم إنسان ما نمت نمواً عشوائياً فأنت ترحم الإنسان والمجتمع وترحم هذه الغدة لأنها لا يمكن أن تكون في هذا المكان:
فقسا ليزدجر ومن يكُ راحماً فليقسُ أحياناً على من يرحم
أيها الأحبة: إن سيدي رسول الله قدوة وأسوة، بل أسوة قبل القدوة وبعد القدوة وفوق القدوة، فهيا إلى الرحمة، وأريد أيضاً وحتى لا نكون في طرف دون طرف أن يرحم الشعب حكومته فلا كلام من غير قواعد ولا كلام لمجرد الكلام ولا فحش ولا طعن ولا لعن، لأن المسلم وكما قال سيد الرحماء صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) فما بيننا يجب أن يكون عبر قناة الكلمة حتى ولو كانت قاسية، وأقول قاسية وليست فاحشة، فاللقاء فيما بيننا في مختلف أبعادنا الاجتماعية ومناصبنا ومستوياتنا يجب أن يتم عبر أساس من حوار بناءٍ وإن استخدمت في هذا الحوار بعض الكلمات القاسية غير أننا نؤكد على أن لا فحش على ألسنتنا ولا فينا ولا في أعيننا تجاه غيرنا ممن هم يعيشون على أرضنا بل إرادة الإصلاح هي التي تدفعنا من أجل أن نجلي الرحمة عبر سلوكنا وأقوالنا وأفعالنا.
فيا رب محمد، يا أيها الإله العظيم، يا من بعثت محمداً رحمة للعالمين: وفقنا من أجل أن يرحم بعضنا بعضاً، ووفقنا من أجل أن تكون الرحمة هي الوشيجة فيما بيننا، يا ربنا نسألك بحق محمد مَنْ أرسلته رحمة للعالمين أن تردَّنا جميعاً إلى دينك دين الرحمة و الرفق والأمان والاطمئنان ولا سيما فيما بين أتباع هذا الدين الحنيف.
اللهم تقبل منا ما كان صالحاً وأصلح منا ما كان فاسداً وأصلحنا ظاهراً وباطناً، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ: 30/3/2007
التعليقات