آخر تحديث: الأربعاء 17 إبريل 2024
عكام


لطيفة قرآنيــــة

   
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً

إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً

تاريخ الإضافة: 2007/11/03 | عدد المشاهدات: 8541

﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ﴾

يقال لهذه الجملة في علم البلاغة: جملة إظهار.

كان التساؤل:﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً﴾، وكأن السائل لا يعلم، لكن الواقع أن السائل يعلم، لذلك أظهر هذا السائل علمه هنا، وكأنه يقول: نعم أنت لا تعلم ولكنني أنا أعلم، فأنا أعلم وأنا الذي خلقت هذا الإنسان.

﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ المسؤول يقول: نعم، أتى. ولكن من الذي أوجده ؟ الله عز وجل أظهر علمه فقال: ﴿إنا خلقنا الإنسان... ﴾ لذلك يقال لهذه الجملة: جملة إظهار.

﴿إنا خلقنا الإنسان﴾ فهذه حكاية الخلق، وحكاية التشريف، وحكاية التكليف الذي هو تشريف، ﴿إنا خلقنا الإنسان﴾ والخلق يجب أن يكون من شيء، أما الفَطر فمن لا شيء، فالله فاطر السموات والأرض، ولكن عندما يستخدم فعل (الخلق) يقول: خلقت من...

﴿إنا خلقنا الإنسان﴾ من أي شيء ؟ ﴿من نطفة أمشاج نبتليه﴾.

كلمة النطفة في اللغة العربية: هي كل ماءٍ يقطر في وعاء. والجمع: نطف ونطاف.

كل ماء يقطر في وعاء يقال له: ماء قليل، وكل ماء قليل يقطر في وعاء يقال له: نطفة.

أما الأمشاج فهي صفة لنطفة، وكلمة: (أمشاج) تعني: أخلاطاً، وأمشاج جمع، فإما أن تكون جمع: مَشَج (كسَبَب وأسباب)، وإما أن تكون جمع: مَشِج (ككَتِف وأكتاف)، وإما أن تكون جمع: مشيج (كشريف وأشراف) وكله جائز في اللغة العربية.

والسؤال هنا: لماذا وصف الله المفرد وهو النطفة بالجمع وهو الأمشاج ؟!

الجواب: صحيح أن النطفة هي مفرد، لكنها في حقيقتها جمع، لأن النطفة مكونة من ماء الرجل وماء المرأة، وبالتالي هي مفرد من حيث اللفظ، لكنها جمع من حيث المعنى والتكوين، لأنها مجموع مائَي الرجل والمرأة.

﴿نبتليه﴾ إذا فهمنا موضع كلمة: نبتليه فإننا سنعرف المعنى، و(نبتليه) جملة حالية، فيكون المعنى:

إنا خلقنا الإنسان مبتلين إياه. فـ (نبتليه): جملة حالية من الضمير (نا) في الفعل (خلقنا).

﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه﴾ أي نبتليه ونختبره بعد أن نكلفه، فإذا كنا سنكلفه فيجب أن نضع له أدوات التكليف وهي: العقل والسمع والبصر، وأن ننصب أمامه الدلائل، لذلك ﴿ فجعلناه سميعاً بصيراً﴾.

وكأن الله عز وجل يقول:

نحن خلقناه من أجل أن نختبره بالتكليف، ولكن إذا كلفناه يجب أن تكون له أدوات التكليف، وأدوات التكليف هي: ﴿فجعلناه سميعاً بصيراً﴾.

لم يقل ربي عز وجل: فجعلناه عاقلاً، وإنما قال: ﴿فجعلناه سميعاً بصيراً﴾، لأن كلمتي: السميع والبصير تدلان على العقل، وغير العاقل لا يسمع ولا يبصر، بمعنى: أنه لا يلتقط ما يلتقط عبر الأذن، وعبر العين من أجل أن يفكر، وبالتالي كأنه لا يسمع ولا يبصر: ﴿وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾. إذاً: فجعلناه سميعاً بصيراً ليكون مكلفاً، وجعلناه مكلفاً لنختبره.

ولكن لماذا قال الله: ﴿فجعلناه سميعاً بصيراً﴾ بصيغة المبالغة، ولم يقل: سامعاً مبصراً ؟

لقد قال العلماء: من أجل أن يبين الله لعباده بأنه قد أتمَّ عليهم نعمة السَّمع والبصر بالغ في الوصف: ﴿ فجعلناه سميعاً بصيراً﴾ أي أتممنا عليه تمام السمع وتمام البصر، أي خلقنا فأحسنّا، لأن السمع والبصر هما أداة من أدوات القيام بالتكليف.

﴿إنا هديناه السبيل﴾ أي دللناه على الطريق الذي يوصله إلى أن يخرج من الابتلاء الذي حففناه به ناجحاً، والذي إن سلكه فإنه سيكون في النهاية مختبراً ومُمتَحناً ناجحاً.  

الأصل أن الله عز وجل هدى الإنسان السبيل، من أجل أن يكون شاكراً، ومن أجل أن يكون عابداً، ومن أجل أن يكون ممتحناً ناجحاً، ولكن الواقع أسفر عن إنسان شاكر وعن إنسان كفور. وعندما مشى الإنسان في طريق التكليف، فإن بعضاً منه عَدَل عن طريق الهداية الذي يجعله ناجحاً في الامتحان، فكان إنساناً كفوراً. فالأصل أن يكون الإنسان ناجحاً، لكن في النتيجة العملية ظهر هنالك إنسان شاكر وآخر كفور.

﴿إما شاكراً وإما كفوراً﴾ كلمة إما هنا تفصيلية، وكلمة شاكراً هي حال من ضمير الهاء هديناه، الذي هو في محل نصب مفعول به، وكلمة كفوراً أيضاً هي حال. أي حال كونه إما شاكراً، وإما كفوراً.

وهنالك سؤال أيضاً: لماذا قال الله: ﴿إما شاكراً وإما كفوراً﴾ ولم يقل: (إما شاكراً وإما كافراً)، أو لم يقل: (إما شكوراً وإما كفوراً) ؟!

الأصل أن الله عز وجل أرادنا أن نكون: إما شكوراً، أي كثيري الشكر، لكن الواقع أيضاً أسفر عن أن هذا الإنسان حينما يشكر يشكر قليلاً، ولكن حينما يكفر يكفر كثيراً، ولذلك قال الله في آية أخرى: ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾.

﴿إنا هديناه السبيل﴾ من أجل أن يكون شكوراً، لكن الواقع أسفر عن نتيجتين:

النتيجة الأولى: ظهر هنالك إنسان شاكر وإنسان كافر. إن صح هذا التعبير.

النتيجة الثانية: إن الإنسان الشاكر قليل، بينما الإنسان الكفور كثير، والإنسان الشاكر هو قليل من حيث العدد، ومن حيث النوعية أيضاً. فنحن بحسب الظاهر نشكر الله، ولكن هذا الشكر حتى من حيث النوعية قليل وضعيف، ومن حيث العدد أيضاً قليل وضعيف. فأنت الآن لا تستحضر نعمة ربك عليك، بل بالعكس أنت تستحضر ما منعه الله عنك.

فأنت فقير مثلاً، تستحضر قلة المال ولا تستحضر الصحة الجيدة التي أعطاك الله إياها، لا تستحضر ما عليه تشكر الله عز وجل، وإنما تستحضر ما عليه تعاتب الله عز وجل، تستحضر النقص ولا تستحضر الكمال الذي كملك الله به.

صحيح أنك لست إنساناً كفوراً باللسان والجهر، ولكن يمكن أن تكون إنساناً كفوراً من حيث الداخل. لذلك بدلاً أن تكون النتيجة: (إنا هديناه السبيل فكان شكوراً)، أسفرت عن نتيجتين:

الأولى: شاكر وكافر.

الثانية: شاكر وكفور، قليل الشكر كثير الكفر.

نذكر في هذا المقام مختتمين به حديثنا، دعاء سيدنا الحسن بن سيدنا علي رضي الله عنهما، وهذا الدعاء هو فعلاً من أجمل الأدعية التي رأيتها، فقد دعا سيدنا الحسن ربه قائلاً: "إلهي نَعَّمتني فلم تجدني شاكراً، وابتليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت أزلت النعمة بترك الشكر، ولا أنت أَدَمت الشدة بترك الصبر، إلهي أنت الكريم ولا يكون من الكريم إلا الكرم".

اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.

ألقيت بتاريخ: 3/11/2007

التعليقات

آمنة بدر الدين الحلبي

تاريخ :2012/04/09

سيدي الدكتور محمود عكام الفاضل .. (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً..) قرات اكثر من مرة .. الشرح واستمتعت .. كلماتي تعجز أمام هامة ثقافية .. فكرية .. أدبية .. لأنني بحثت كثيرا عن هذه المعاني .. ولم اجد مبتغاي إلا على صفحاتكم الكريمة .. دمتم ذخرا للوطن ....

شاركنا بتعليق