شارك
الدكتور الشيخ محمود عكام في "الملتقى الوطني حول جرائم الشرف" الذي أقامته "الهيئة
السورية لشؤون الأسرة" بالتعاون مع وزارتي الأوقاف والعدل، وبمشاركة عدد من رجال
الدين والقانون ولفيف من الباحثين والمختصين، وذلك في
دمشق (فندق الشام) من 14-16/10/
2008.ـ
وقد قدم الدكتور عكام في الجلسة الأولى للملتقى مشاركة بعنوان (جرائم الشرف في ضوء
مقاصد الشريعة الإسلامية)، فيما يلي نصها:
جريمة الشرف في ضوء مقاصد الشريعة
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار وصحبه المختارين.
توطئة: من المسلّم به أن معالجة أية ظاهرة تتصل بأعراف الناس وممارساتهم ينبغي أن تكون- من أجل نجاحها- معالجة شاملة، تقوم على دراسة علمية لكيفية نشوء الأعراف ومراحل تطورها واستقرارها، والمصادر التي تكتسب منها سلطانها على أفراد الهيئة الاجتماعية التي يسود فيها العرف المدروس.
ولا يخرج موضوع ورقتنا هذه عن مشمولات هذه القضية، فما يدعى "جرائم الشرف" جزئية تنتمي إلى سياق اجتماعي ذي سلطان ترغيبي وترهيبي معاً، يستند إلى مسلمات قد تكون مسكوتاً عنها، لكنها قابعة في "خافية"(1) المجتمع، أفراداً ومجموعاً.
وهذا البحث "جريمة الشرف في ضوء مقاصد الشريعة" محاولة لتغطية موضوعية لإحدى الجوانب الهامة التي تتصل اتصالاً وثيقاً بمسألتنا موضوع المعالجة. هذا الجانب هو "الشريعة الإسلامية"، التي نقرّ جمعياً بالمدى الواسع لتأثيرها في مجتمعاتنا، والتي يستند إليها -بحق أحياناً وبباطل في أحيان أخرى- معظم عرفنا الحاكم السائد.
فما الذي تقوله الشريعة الإسلامية في هذه القضية ؟
هذا ما سأحاول بيانه، مع أني لست أزعم أني أنطق باسم هذه الشريعة الغراء، لكنها محاولة لإبداء الرأي بعد بذل الجهد، فالرأي رأيي، والخطأ مني إن حصل، فإن أصبت فتلك سعادة أرجو من الله نوالها.
وقد جعلت هذه الورقة في فرعين اثنين:
الأول: الشريعة الإسلامية والإنسان.
الثاني: مسألتنا في ضوء مقاصد الشريعة.
الفرع الأول - الشريعة الإسلامية والإنسان:
من المعلوم أن الأحكام الفقهية، أو أحكام الشريعة، تدور بين قطبين اثنين، أولهما فروع الأحكام التي تغطي جزئيات الحوادث والأفعال.
وثانيهما المقاصد العامة للشريعة، التي ترعى حركة الفروع وتضبطها في مساربها الصحيحة. والأصل في فكرة مقاصد الشريعة – كما يقول الإمام الشاطبي – أن هذه الشريعة إنما وضعت لتحقيق مصالح الناس، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كل الرسل: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء/107.
وهذا الأمر-أي قصد تحقيق المصالح الإنسانية- مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، لا يتخلف عن أية جزئية فيها.
ويعلم المختصون أن العلماء يعبرون عن مقاصد الشريعة بخمسة مقاصد يدعونها المقاصد الكلية، أو الضروريات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
لكن المستحفظين منهم يعلمون أيضا أن ثمة مقاصد أخرى لا تقل-إن لم نقل: تزيد- مراعاة الشريعة الإسلامية لها على مراعاتها لتلك الضروريات الخمس، ومن تلك المقاصد الأخرى: العدل، والحرية.
وهنا نقول:
إذا كانت مقاصد الشريعة وكلياتها حاكمة على الفروع والجزئيات، فإن ذلك يعود أصلاً إلى مبدأ أساسي قامت عليه هذه الشريعة، وهو اعتبار الإنسان محوراً لها وهدفاً، تردُّ إلى القيام بأمره –حماية ورعاية- كل المساحات الأخرى، فما من حكم إلا ويعود على الإنسان بدفع ضرر أو جلب منفعة.
وفي هذا السياق قلت: (تقوم الشريعة على أوامر ونواهٍ، فالأوامر تهدف إلى جلب المصالح الدنيوية أو الأخروية أو النوعين معاً، والنواهي هدفها دفع المضار والمفاسد الدنيوية والأخروية، وقد أحاطت أحكام التكليف الخمسة -من وجوب وندب وحظر وكراهة وإباحة- بأفعال الناس كلها، والأحكام الخمسة هذه مشمولة بالمقاصد،.. وكل ما يستهدف توهين مقاصد الشريعة نحلة ضالة، وما يستهدف دعمها طاعة وملة هادية مهدية).
بل إن كثيراً من الفقهاء والعلماء والمفكرين المسلمين يذهبون إلى مدىً أبعد من ذلك، فيصرحون بما أدركه واستيقن منه كل عالم بروح الإسلام، فليس الإنسان غاية جاءت الشريعة لتحقيق مصالحة فقط، بل هو المؤتمن عليها القائم بها، كما قال ربنا تعالى: (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد/25.
وحول هذا المفهوم تحدثت في خطبةٍ لي عن ثنائية (الوعي والوحي)، وكذلك قال العلامة الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه "أين الخطأ":
(أجل، أصل هذا التشريع وحي، ولكنه وحي جعل الإنسان نفسه في صميمه، ليتحول الإنسان نفسه مصدر "وحي إلهامي" في التفصيل والتفريع بحسب المقتضيات التي لا تتقطع ولا تتوقف حوافزها.
وهذا المفهوم الذي يجعل الإنسان مصدر وحي إلهامي في التفاصيل، يطعن في نسبة الإسلام إلى النظرية الإثيولوجية -كما سلف- فالإسلام هو الذي فصمها، بجعله الإنسان مصدر وحي تشريعي أيضاً، وإلا فما معنى الحديث: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن").
ولكن الإنسان -وأعني به الجنس المطلق المجرد عن القيود والإضافات، أي الإنسان الشامل- فقد اعتباره هذا ومكانته تلك في الثقافة العربية الإسلامية، ويعود ذلك إلى أسباب يطول الحديث فيها، فحصل بانزياح هذه المكانة اضطراب وخلل عظيم، بدت مظاهره وأعراضه في شتى تجليات هذه الثقافة، ومن هذه التجليات ما يتصل بميدان الشريعة أو الفقه، إذ غدت المقاصد -وهي المعبر عن الإنسان في هذا الميدان- تابعةً للفروع، منقادة للجزئيات، بعد أن كانت موجهة لها وقائداً لحركتها، أي إن القضية أضحت مقلوبة.
الفرع الثاني - مسألتنا في ضوء مقاصد الشريعة:
ذكرنا فيما سبق أن مقاصد الشريعة حفظ النفس والعرض وإقامة العدل على الأرض.
وأود قبل متابعة الحديث أن أنبه إلى فهمي الذي اتبنّاه لمقصد "حفظ العرض" وهو فهم يذهب إليه عدد كبير من جِلّة العلماء، حيث لا يدل مصطلح العرض في هذا الفهم على مجرد ذلك المعنى الضيق الذي ينحصر في إطار النساء أو الحريم، الذي تُنصب الرجولة من نفسها حارساً له ورقيباً عليه.
بل المقصود بالعرض هنا كل ما يتصل بالوجود المعنوي للإنسان، أو هو الشخصية الاعتبارية للإنسان، فللإنسان تجليان اثنان، أحدهما التجلي المادي، أو الكينونة الخلقية، والثاني -وهو الأعظم- التجلي الاعتباري الذي يمتاز به الإنسان عن بقية الموجودات، وبه تتكامل إنسانيته.
وهذا التجلي الاعتباري أو الوجاهي أو المكاني -نسبة إلى المكانة إن صحت النسبة لغة- هو ما يدل عليه مصطلح العرض في فهمنها هذا، وبحسب هذا الفهم تغدو قضية حفظ الأعراض منوطة بأفراد المجتمع جميعاً، وبالهيئة الإدارية التي تمثل هذا المجتمع وتسوس أمره، لا بفئة معينة أو جنس دون جنس.
وأعود بعد هذا التوضيح إلى مسألتنا هذه، وأعني بها قضية ما يسمى بجرائم الشرف في ضوء الشريعة ومقاصدها، لأتكلم عنها عبر ثلاثة مداخل.
- المدخل الأول:
من المتفق عليه لدى علماء المقاصد أن حفظ النفس مقدم على حفظ العرض، بل إن الكثير منهم يقدم حفظ النفس على حفظ الدين نفسه، لأن في فوات النفس وخسارتها فواتاً للعرض والدين معاً، وفي حفظ النفس فرصةٌ لحفظ الدين والعرض جميعاً.
وبناء عليه أقول:
إنه ما من مبرر أو حجة كافية لتضييع نفس إنسانية واحدة، إلا إذا كان في هذا التضييع حفظاً لأنفس أخرى، ولا يكون ذلك إلا على سبيل الضرورة التي تقدر بقدرها، والإكراه الملجئ الذي لا مفر منه.
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) المائدة /32.
وبذلك يظهر أن حجة حفظ العرض في القتل المسمى بجريمة الشرف حجة داحضة مردودة، فما هذا القتل -بحسب التعبير القرآني- إلا إسراف في الأرض وعلوّ فيها بغير الحق وفرعنة، (وإن فرعون لعالٍ في الأرض وإنه لن المسرفين) يونس /83. (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) غافر /28.
- المدخل الثاني:
من المتفق عليه أن إقامة العدل مقصد أساسي تنبغي مراعاته في سائر الأحكام والتصرفات.
والعدل في اللغة يعني المساواة والإنصاف والمناسبة والاستقامة. وهي معانٍ مطلوبة عامة، ولكنها في القضايا الجزائية أشدَّ مطلوبية: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله أن الله مع المتقين) البقرة/194.
وهنا نسأل:
أين هي المساواة والإنصاف والمماثلة بين الفعل الأول -على فرض ثبوته- وبين القتل؟
ومن البدهي أن نقول: إن ذلك كله مفقود، فلا إنصاف ولا مساواة ولا مماثلة.
وإذا ثبت أن العدل منفي في هذه الواقعة أضحت ما تسمى بجريمة الشرف عدواناً، فالعدوان هو مجاوزة الحد، والله تعالى يقول: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة/ 190. وغدت هذه الفعلة ظلماً، و"الظلم ظلمات يوم القيامة" كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يكن جزاء الظالم يوم القيامة ظلمات إلا لأنه أظلم على الناس دنياهم بظلم، فالجزاء من جنس العمل.
ولعلنا نجد في صدورنا بعض الحرج من العدل إذا خالف هوانا، لكن الاختيار عند العاقل ينصرف إلى الصلاح وإن حمل النفس على ما تكره، وصدق علي كرم الله وجهه يوم قال: (فإن في العدل سعةً، ومن ضاق عليه العدل فالجَور عليه أضيق)، وقد سئل كرم الله وجهه: أيهما أفضل العدلُ أم الجُود ؟ فقال: (العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها عن جهتها. العدل سائس عامّ، والجود عارض خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما).
فلنضع الأمور مواضعها، ولا نسمح أن يستزلنا الهوى إلى تبرير الظلم، لأن العدل أبقى.
- المدخل الثالث:
من المعلوم أن للنية في الشريعة الإسلامية القولَ الفصلَ في ترتيب الثواب والعقاب في الآخرة، كما إن لها الأثر العظيم –دنيوياً- في التكييف الفقهي لفعل المكلف.
وبناء عليه نسأل:
هل كانت نية القاتل فيما يسمى جريمة الشرف إقامةَ مقاصد الشريعة وتحقيقَ غاياتها في العدل وحفظ الأعراض والأنفس، أم أن النية كانت متجهة عنده إلى مقصد آخر، يمثل جهة أخرى غير الشريعة، حتى وإن ارتدت رداءها واتخذت اسمها شعاراً وعنواناً لها ؟
وفي الجواب الذي أراه أقول:
إن نظر القاتل في جريمة الشرف لم يكن في أية حال متجهاً إلى الشريعة ورعاية مقاصدها، ولا أدلَّ على ذلك من تفويته لمقصد الشريعة الأعظم وهو إقامة العدل، بل كان نظره وكانت نيته متجهةً إلى قصد آخر هو حفظ الصورة الشخصية الظاهرة، أو الاعتبار الخاص الشخصاني، لدى الهيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها ذاك القاتل.
وليس ببعيد عن معرفتنا جميعاً، وخاصة من يهتمّ منا بعلم الاجتماع، أن للهيئة الاجتماعية سلطاناً على الأفراد الذي ينتمون إليها، قد يفوق في أحايين كثيرة سلطان الحق والقانون نفسه، مما يحمل هؤلاء الأفراد على الإقدام على أفعال، لا شك في أنهم ما كانوا ليقدموا عليها لو أنهم انتموا إلى هيئة اجتماعية أخرى، وهذا مما يؤكد أن فكرة الحق أو العدل لم تكن المحرك لهذا الفعل، وإنما العادة التي قررتها الأعراف السائدة في المجتمع هي من دفعت وحرضت.
وإذا كان أصل فكرة حفظ الاعتبار الشخصي لدى الهيئة الاجتماعية مقبولاً لدى العقلاء، فإنه ما من عاقل يقبل أن يكون هذا الحفظ قائماً على تفويت المبادئ التي قام عليها الاعتبار الإنساني بجملته، ومن أهمها مبدأ العدل.
ولا بد من الاعتراف هنا أن المؤمنين بسيادة العدل والحق أنفسهم، قد يجدون في داخلهم -في أحيان كثيرة- تزاحماً بين سلطان العرف السائد، ولكن الغلبة عندهم للحق والعدل لا لسواه.
وهذا المعنى هو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه) الأحزاب /37، لأن الله هو العدل، وهو الذي يقصّ الحق وهو خير الفاصلين.
وفي النتيجة:
لا أجد فيما رأيت من فروع الشريعة الإسلامية، ولا في مقاصدها العامة، أيَّ سند يمكن أن يكون مبرراً لتشريع أو لعرف اجتماعي يقبل ما يسمى جريمة الشرف.
بل إنني واجد أن الشريعة الإسلامية ترفض رفضاً واضحاً هذا العمل، وتعتبره جريمة استوفت عناصرها وأركانها المادية والمعنوية، ويجب –بالتالي- إيقاع القصاص العادل بالفاعلين.
ختاماً أقول:
لقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة، يوم رمي المنافقون وبعضٌ من المؤمنين أيضاً النسوةَ المسلمات الطاهرات بسوء ليس عندهم فيه برهان، في الحادثة المشهورة في السيرة النبوية باسم حادثة الإفك، والتي نجد فيها، أعني في شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الطريقة التي أدار بها الأزمة، مثالاً رائداً للإنسان الذي ألزم نفسه، كما ألزم من يحب ومن لا يحب معاً بسيادة الحق ممثلاً بالقانون، فأنقذ بذلك الجميع من هاوية كادوا ينجرفون إليها.
فهلا حفظنا مجتمعنا من مثل تلك الهاوية، هذا ما نرجوه.
(1) الخافية: مصطلح يقابل الواعية عند كارل يونغ، وهما معاً المعادل لمصطلحي الشعور واللاشعور عند سيجموند فرويد، والخافية هي اللاشعور. وقد استعملنا تعبير يونغ لأنا نراه أكثر دقة ووفاء في دلالته على المراد.
التعليقات