أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
بدأنا منذ أسبوعين في الحديث عن مجمل علاقاتك أنت أيها الإنسان ولا سيما الإنسان المسلم، وقلنا إننا يجب أن نخرج من خطبة الجمعة بورقة عمل، ويجب علينا جميعاً أن نعرف لكي نعمل، وعندما قررت أن تكون خطب هذه الأسابيع تفصيلاً مجملاً لطبيعة علاقاتك أنت أيها المسلم، أردت فعلاً أن أضع بين أيديكم ورقة عمل. تحدثنا في الأسبوع قبل الماضي عن علاقة وصلة الإنسان بربه، وفي الأسبوع الماضي بدأنا بمقومات ومكونات علاقة الإنسان مع ذاته، وقلنا إن الإنسان جسمٌ وعقلٌ وروحٌ، بينا في الأسبوع الماضي طبيعة علاقتك بجسمك، وأوضحنا ما يجب أن تتخذه من مواقف تجاه جسمك لتكون علاقتك به علاقة طيبة ولتكون علاقتك بجسمك علاقة مقبولة على مستوى الإنسان وعلى مستوى الديان، واليوم ما مكونات علاقتك بعقلك، وما الذي يجب أن تتخذه من مواقف حيال عقلك ؟
بحثت في علاقة الإنسان بعقله وبمكونات هذه العلاقة فوجدتها ملخصةً بموقفٍ واحدٍ، إلا أن هذا الموقف أو هذا المكون أو هذا المقوِّم يجب أن يُحسَب حسابه ويجب أن يُركَّز عليه، بمعنى آخر: أن تكون وفياً مع عقلك. أتريد أن تكون إنساناً متوازناً في علاقتك مع عقلك ؟ إذن ما عليك إلا أن تقوم بأمر واحد، هذا الأمر الواحد فقط هو العلم والمعرفة، فمن تعلَّم وتعرَّف ومن علِمَ وعرفَ وبرمج لهذا العلم ولتلك المعرفة فإنه سيكون وفياً مع عقله ومن لا فلا على الإطلاق، وكما قال رسول الله حسب ما رواه الطبراني: (إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم) رسول الله يقول: (فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم) أنت أيها الإنسان من كنت سواءٌ أكنت قارئاً أم غير قارئ، سواءٌ أكنت متعلماً بالمعنى الذي يقابل الأمي أم كنت أمياً، العلم فريضة عليك وشرفٌ لك، يجب أن تتعلم في كل يوم ويجب أن تعرف في كل يوم، وإذا مرَّ عليك يوم من غير أن تتعلم شيئاً فلا بورك لك في شمس هذا اليوم، تعلَّم والوسائل اليوم أضحت وسائل كثيرة، هنالك المسجل وهنالك الحاسوب وهنالك من يُعلمك حتى ولو كنت أمياً، وهنالك طرق لتعليم المكفوفين، وهنالك طرق لتعليم السمع، وهكذا دواليك... فالعلم فريضة هكذا قال عليه الصلاة والسلام حسبما رواه ابن ماجه: (العلم فريضةٌ على كل مسلم) والعلم شرف، ولماذا أنت تتهاون بهذا الشرف، من منا لا يحب أن يكون مُشرَّفاً وشريفاً، من الذي لا يريد لنفسه تلك المكانة التي تسمى الشرف، وهل سمة شرف أعظم من شرف العلم ؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حسبما جاء في أبي داود والترمذي: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى الحيتان في البحر ليصلون على العالم) على العالم الذي بدأ متعلماً وانتهى عالماً. فالعلم فريضة وشرف.
ولعلك تسألني: هل هنالك فترة ينتهي فيها
طلب العلم ؟ ربما قال لي سائل: أنا إنسان بلغت من العمر الخمسين أو الستين أو
الثمانين فهل هنالك سنٌ ينتهي عندها طلب العلم ؟ اسمع أيها الإنسان ما قاله أحد
التابعين عندما سأله تلميذه: "يا سيدي حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم ؟" فأجابه عمرو
بن العلاء قائلاً: "ما دام تحسُن به الحياة". ما دام فيه نفَس فالعلم فرضٌ عليه، ما
دام به بقية من حياة.
مشكلتنا أننا عدلنا عن العلم إلى الجهل، بالعكس هنالك ردة من قبل من تعلم فأصبح
الآن جاهلاً، كان قد قضى ست سنوات مثلاً في المدرسة الابتدائية لكنه الآن لا يمكن
أن تسميه متعلماً إذا أردنا أن نطلق المتعلم على الذي يعرف القراءة والكتابة. قلت
لكم في البداية وأكرر قولوا لي بربكم من الذي لا يمرر يوماً دون أن يتعلم فيه شيئاً
ولو سطراً ولو سطرين ؟ من منكم ؟ بالعكس أنا لا أخاطبكم بل أخاطب حتى أصحاب
الشهادات العليا أقول لهم: بالله عليكم قولوا لي بصراحة من منكم يمرر يوماً من غير
أن يضع فيه قراءة وتعلماً، من غير أن يضع فيه تعرفاً من غير أن يضع فيه طلباً
للعلم، هنالك أيام كثيرة، أنا أجيب عنكم، هنالك أيامٌ كثيرة نمررها من غير أن نتعلم
فيها شيئاً. والعلم علمان: علمٌ من أجل ما اختصصت به، علمٌ ينفعك باختصاصك: (اعملوا
فكلٌ ميسرٌ لما خلق له) العلم الذي يصب في تعميق اختصاصك، أنت مهندس عليك أن تزداد
علماً في الهندسة كل يوم، أنت تاجر عليك أن تزداد علماً في تجارتك التي تتاجر بها
كل يوم، أنت مسؤول في وزارة كذا عليك أن تزداد علماً في العلم الذي تعد وزارتك
مسؤولة عنه، وهكذا دواليك... هذا علمٌ خاص للتخصص. وهناك علمٌ للحياة هنالك علمٌ
للسلوك هنالك علمٌ يجعل من سلوكك سلوكاً صحيحاً ويجعل من أخلاقك أخلاقاً حميدة،
هنالك علمٌ نشترك فيه جميعاً نتعلم الوفاء والأمانة والصدق نتعلم كيف يعامل الواحد
منا جاره وكيف يعامل الواحد منا ولده، هنالك ثقافة من أجل أن يتعلم الإنسان ما يجب
أن يقوم به حينما يتصرف هذا التصرف أو ذاك، هذا العلم العام مصدر العلم العام
القرآن الكريم، القرآن الكريم جاء من أجل أن يقدِّم لك علماً لحياتك العامة لسلوكك
العام من أجل أن تتعرف على ما يجب عليكَ اتخاذه وعلى ما يجب عليكَ سلوكه وعلى ما
يجب عليكَ قوله وعلى ما يجب عليك فعله وعلى ما يجب عليك تركه وعلى ما يجب عليك
مجانبته وهكذا دواليك... القرآن الكريم كتاب معرفة وعلم لشؤونك العامة وإن أردته
موجهاً لسلوكك وعلمك الخاص فهو كذلك أيضاً فهو في مجال علومك الخاصة من هندسة
وفيزياء وكيمياء وسوى ذلك موجه، في علومك لحياتك العامة هو موجه ومعلم فيه كل شيء
من أجل حياتك العامة من أجل سلوكك العامة سواءٌ أكنت فرداً أو كنت جماعة أو
مجتمعاً.
فيا أيها المجتمع من أجل علومك العامة عليك أن تلجأ إلى القرآن الكريم من أجل سلوكٍ أفضل، عليك أن تعود للقرآن الكريم ولذلك أتوجه إلى المعنيين من المسؤولين من أجل أن يكون القرآن الكرم المادة الأولى للثقافة العامة لأننا بحاجة إلى سلوكٍ نظيف يصدر من أبنائنا وبناتنا في المدرسة والروضة والثانوية والجامعة ودور الثقافة ودور الفنون، أتوجه إلى المعنيين المسؤولين ناصحاً قائلاً لهم: يجب أن يكون القرآن الكريم كتاباً للثقافة العامة التي يرشد الناس إلى ما يجب أن يكونوا عليه في أخلاقهم في أقوالهم في أعمالهم في حركاتهم في سكناتهم.
يا أيها الناس، يا مجتمعنا، با بلدنا، يا أيها المسؤولون، يا شباب، يا أمهات: العلمَ العلم. قلت منذ زمن غير قليل ومنذ زمن قليل وها أنذا أكرر: أتريدون أن تنتصروا على عدوكم ؟ أتريدون أن تنتصروا على تخلفكم ؟ أتريدون أن تكونوا رواداً ؟ هذا الذي تسلكونه اليوم لا يوصلكم إلى هذا، أعني بهذا الذي تسلكونه اليوم طريق الجهل. أدعوكم إلى سلوك طريق العلم، أدعوكم إلى سلوك طريق المعرفة أدعوكم إلى تعميق العلم لديكم وتعميق المعرفة لديكم، أناشدكم الله أن تعلموا وتتعلموا، أخاطب كل واحد فيكم ومن أجل الأمانة وتلك وصية وتلك توصية وهذا توجيه وهذه نصيحة وهذا إعلان وهذا إعلام يا أمتي أتريدين أن يكون لك منبر واضح بين الأمم ؟ أتريدين ألا أتلقاكِ وأنا صاحب ذل ؟ أتريدين أن أتلقاكِ ورأسي مرتفع في المجد يسطر انتماءً رائعاً حراً لكِ ؟ إذن راقبوا أنفسكم في مجال المعرفة، لقد قلت لكم وأكرر لقد وصفنا أحد علماء الإدارة على أساسٍ من علم، الإدارة التي تعني السياسة في المعنى النظيف قال وأرجوا أن تلحظوا هذا المثال: الإنسان العربي اليوم، (إكس من الناس) يولد في عام مثلاً ألف وتسعمائة وأربعين، يصبح رجلاً في عام ألف وتسعمائة وثمانٍ وخمسين، أي عندما يبلغ الثامنة عشر من عمره، يموت في نفس العام أي عام ألف وتسعمائة وثمان وخمسين لكنه يدفن عام ألفين، حسب الظاهر عاش هذا الرجل ستين سنة لكنه بين ال /58/ و /2000/ لم يكن عائشاً هو ميت لكنه دفن عام ألفين. هكذا يعيش العربي اليوم باستثناء من يمكن أن نستثنيه لأننا لا نعمم، فهنالك قدرات وهنالك خبرات وهنالك إنتاج وهنالك إنجاز إلا انه لا يتناسب والادّعاء لا يتناسب والعدد ولا يتناسب والمساحة ولا يتناسب والتعاليم التي جاءتنا من قبل ربنا ومن قبل رجالاتنا السابقين الذين نفخر بهم دائماً وأبداً. أنت المعني لا تلتفت إلى ذلك الذي بجانبك، الحديث لك، أقول لك ما قاله والد المفكر الكبير محمد إقبال رحمه الله عندما رأى ولده يتلو القرآن الكريم قال له: "يا بني اقرأ القرآن الكريم" فقال له ولده إقبال "يا والدي أنا أقرأ القرآن الكريم"، مرَّ عليه ثانية في اليوم الثاني فوجده يقرأ القرآن الكريم فقال له "يا بني إقرأ القرآن الكريم"، قال: "يا والدي أنا أقرأ القرآن الكريم"، مر عليه ثالثة في اليوم الثالث فقال له: "يا بني لن تسمى قارئاً للقرآن الكريم إلا إذا قرأته وكأنه عليك قد أنزل". أنت المعني، كل واحد منا معني بذاته ابتداءً: ﴿لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين﴾. كل واحد منا عليه أن يخاطب ذاته وأرجوكم ألا تمرروا يوماً عند المغرب أو عند العشاء إلا وتحاسبوا أنفسكم، هل قرأتم هل عرفتم هل ازددتم علماً هل ازددتم معرفة ؟ إن كان الأمر كذلك فاشكروا الله وإن كان الأمر على غير ذلك فلا تلومُنَّ إلا أنفسكم، ولا تلومَنَّ أنت إلا نفسك لأنك أنت الذي قصَّرت.
أيها الأحبة: سيكون الحديث بفضل الله ومنته وكرمه في الأسبوع القادم عن علاقتنا بروحنا، وسنتحدث عن الروح وعن تعريفٍ لهذه الروح، عندما نتحدث عن علاقتنا بروحنا.
اللهم إني أسألك أن تردّنا إلى دينك رداً جميلاً، وأن ترد كل واحد منا من أجل أن يبني ذاته بناءً متكاملاً رصيناً قوياً يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ: 24/10/2008
التعليقات