آخر تحديث: الأربعاء 17 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
سمات علاقة الإنسان بمجتمعه

سمات علاقة الإنسان بمجتمعه

تاريخ الإضافة: 2009/02/06 | عدد المشاهدات: 3549

أما بعد، فيا أيها الإخوة المسلمون المؤمنون إن شاء الله:

ها نحن أولاء في محطة أخيرة بالنسبة لما يجب أن تكون عليه علاقة المسلم بالآخر وبنفسه، أذكركم بما كنا تحدثنا عنه بشكلٍ مجمل، تحدثنا عن علاقة الإنسان بربه وعن علاقة الإنسان بذاته جسماً وعقلاً وروحاً ونفساً، وتحدثنا عن علاقة الإنسان بوالديه وعن علاقة الإنسان بأولاده وعن علاقة المسلم بجيرانه وعن علاقة المسلم بأصدقائه وإخوانه، وقلنا بأن آخر ما سنتحدث عنه فيما يخص العلاقة علاقة المسلم بمجتمعه.

كل واحد منا يعيش في مجتمع، فمنا من يعيش في مجتمع يغلب عليه الإسلام ومنا من يعيش في مجتمعٍ المسلمون فيه أقلية، ومنا من يعيش في مجتمع بين بين كما يقال، على كل حال وبأي مجتمع كنت أريدك في علاقتك مع هذا المجتمع الذي تعيش فيه أن تجعل عنوانك الذي تنطلق منه قول الله عز وجل: ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب﴾ أعلن عنوان وشعار الإصلاح، إن سُئلت عن المهمة الملقاة على عاتقك في مجتمعك الذي تعيش فيه فقل: المهمة إصلاح، مهمتي إصلاح، والمهمة التي تمارسها ذات مستويات مختلفة، أعني أنت على اختلاف مناصبك واختلاف قُدراتك واختلاف ما تملكه من مُكنات من قُدرات، تختلف مساحات الإصلاح باختلاف منصبك واختلاف علمك واختلاف قدرتك واختلاف شهادتك واختلاف مهنتك، لكن في النهاية أعلن مهمة الإصلاح ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله﴾ تستعين بالله لتصلح ﴿عليه توكلت وإليه أنيب﴾.

الأمر الثاني: لا أريدك في مجتمعك الذي تعيش فيه أن تلحى باللائمة على الآخر، لا أريدك أن تلوم الآخرين وإنما أتمنى وأرجو وآمل أن تلوم نفسك، إن وجدت في المجتمع خللاً فلا تقل: إن الناس مقصرون. وإن وجدت في المجتمع فساداً فلا تقل: الناس فاسدون. وإن وجدت في المجتمع تقصيراً، فلا تقل: إن الناس هم الذين ابتعدوا عن مجالات الإصلاح والصلاح، ولكن قُل عن نفسك إني مقصّر، إني فاسد، إني مجانبٌ لما يجب أن أكون عليه في مسيرة الخير والنفع والعطاء. أريدك دائماً ألا تضع اللوم على الآخرين بل عليك أن تلوم نفسك: ﴿لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ أي أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة، التي تلوم نفسها وذاتها، التي تلوم حالها ولا تتوجه باللوم إلى الآخرين، فإن ملامة الآخرين سهلة، فما أسهل أن تلوم الآخرين وأن تضع الوزر على الآخرين، وما أصعب أن تلوم نفسك، ولا أريدك أن تسير في طريق سهلة تبرر كَسَلك وتبرر تقاعسك وتبرر الوضع الذي أنت فيه، الرجل هو من يتوجه إلى نفسه باللوم لأنه أقدر على إصلاح نفسه منه على إصلاح الآخرين.

عليك بعد أن تضع العنوان الأول المهمة هي الإصلاح، عليك أن تضع العنوان الثاني وهو أن تلوم نفسك، فما أعظم من يلوم نفسه ولن أقول وما أحقر، ولكن وما أضعف من يلوم الآخرين ليبرر لنفسه كسلها وضياعها وتيهها فلا تلم غيرك. ولعلنا نسمع كثيراً هذا الذي يقف في مجتمع صغير ضمن مجتمع كبير ويروح ليلوم هؤلاء ويلوم أولئك، أما إذا وصل الأمر إلى نفسه فهو مع نفسه كالعبد الخاضع الذليل: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾ وهو مؤتِمرٌ بما ستقوله له نفسه تلك الأمارة، تقول له نفسه: أما أنت فلا أحد يضارعك، أما أنت فعظيم، وهذا المرض سرى في صغيرنا وكبيرنا، في مرؤوسنا ورئيسنا، في كل فردٍ من أفراد مجتمعنا، في مريضنا وطبيبنا، في الجندي فينا وفي المسؤول والضابط، في الطالب وفي الأستاذ، في كل أفراد المجتمع، في الوالد والولد، في الأم والبنت، كل الناس يحبون أن يمدحوا أنفسهم بما لم يفعلوا ويتوجهون باللائمة على الآخرين، الآخرون مقصرون، الآخرون لا يعرفون، الناس لا يفهمون، الناس وسخون، الناس الناس...، الجيران لا يعرفون التعامل معي، وهل أنت إلا جار ؟ وهل أنت إلا من الآخرين في نظر الآخرين ؟ وهل أنت إلا من الناس فلماذا تخرج نفسك من حُكمٍ تحكم به على من حولك ؟ وهل أنت إلا من هؤلاء الذين يُشكلون الوسط الذي تنتسب إليه ؟ فيا ويحنا عندما نلوم الآخرين ولا نلوم أنفسنا. هذان الأمران آمل أن نضعهما في ذهننا، في خَلَدنا في عقلنا.

أما الأمر الثالث: فها أنا قد نظمت لنفسي ولكم قائمة بالصفات التي يجب أن نسعى من أجل أن نتخلى عنها، وقائمة أخرى بالصفات الأخرى التي يجب أن نتَّسم وأن نتصف بها، هنالك قائمة تسمى قائمة التخلية ما الذي يجب أن نتخلى عنه ؟ وهنالك قائمة تسمى قائمة التحلية، ما الصفات التي يجب أن نتحلى بها ؟

سأقرأ عليكم هذا الذي حرصت على أن أسجله فيما يجب اجتنابه وفيما يجب التزامه، فيما يجب التجافي عنه وفيما يجب التحقق به، أتريد الإصلاح ؟ أتريد أن تلوم نفسك ؟ ضع نفسك على هذا المحكّ أمام هذه الصفات التي يجب أن تتخلى عنها فهل تخليت عنها ؟ وأمام هذه الصفات التي يجب أن تتحقق بها فهل تحققت بها ؟ ضع مثل هذه الورقة أمام ناظريك مساءً في كل يومٍ إن أردت في كل أسبوعٍ إن أردت في كل شهرٍ إن أردت، ولكن أرجوك ألا تطول مسافة المحاسبة، محاسبة الإنسان نفسه.

الصفات التي يجب أن نبتعد عنها جعلتها بعد لا النافية، المسلم في مجتمعه لا يظلم، لا يغش، لا يخدع، لا يغدر، لا يحسد، لا يسبُّ، لا يفحش في قولٍ أو فعل، لا يغتاب، يجافي النميمة والوشاية، لا يكذب، لا يتكبر، لا يسخر من أحد، لا ينافق، لا يرائي، لا يتكلف في كلامه، لا يشمت من أحد، لا يمنُّ على من يعطي، لا يسأل الناس، لا يرمي أحداً بفسقٍ أو كفر، لا يتدخل فيما لا يعنيه، لا يناجي أحداً ومعهما ثالث، لا يعسّر ولا يشدد، لا ييأس، لا يفجر، هذه صفاتٌ سلبية يجب مجافاتها والابتعاد عنها، حصرتها ما استطعت، ولعلَّ هناك صفاتٍ أخرى يمكن أن تحصيها أنت فضعها في هذه القائمة زيادة على هذه التي ذكرتها.

أما الصفات الإيجابية التي أن تتحقق بها فالمسلم في مجتمعه عادل صادق ناصح وَفيّ حَيِيّ رفيق بمن حوله وبما حوله رحيم عفو غفور سمح طليق الوجه حليم خفيف الظل يحفظ السر متواضع يُجلُّ الكبير وصاحب الفضل يعاشر الكرام يحرص على نفع الناس يدفع الضر عن الناس يسعى بالصلح بين الناس يدعو إلى الحق يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر حكيمٌ في أفعاله وأقواله مستقيمٌ في عمله يعود المريض يشهد الجنائز يشكر على المعروف يخالط الناس ويصبر على أذاهم يدل على الخير يُيسر ويسهّل يحب معالي الأمور كريم جواد مضياف آلفٌ مألوف يؤثر غيره يعطف على الصغير عفيف صاحب أملٍ بالله يرعى الحرمات نظيف يحب النظافة ودود يكظم غيظه يراقب الله في كل حركاته وسكناته يتمنى الخير لكل الناس. هذا ما استطعت إحصاءه من صفات سلبية يجب اجتنابها ومن أخرى إيجابية آمل أن تضعها أمامك أنت أيها المسلم، وإلا قل لي بربك إن كنت لن تفعل هذا فما الذي يبقى من إسلامك ؟ هل يبقى من إسلامك أن تقف أمام التلفاز ساعاتٍ وساعات لتحلل بكذب ولتنقل بإثم ولتتجنى على هذا ولتنقل عن هذا غير الذي يجب أن تنقله.

لعلك تقول: أأقعد كل يومٍ مع نفسي من أجل أن أنظر نسبة تحققي بهذا الذي يجب أن أقوم به ونسبة ابتعادي عن هذا الذي يجب أن أبتعد عنه فأين الوقت ؟ أقول لك: نحن نذبح الوقت وأنا أعلم وكلنا كما يقال من حيٍ صغير، وكلنا يعرف كلنا، أنت تملك الوقت وهذا الذي أدعوك إليه لن يستغرق أكثر من ربع ساعة على الأكثر فما بالك تقول بأني لا أجد الوقت لأمرٍ يمس كيانك يمس وجودك يمس غاية وجودك يمس مهمتك يمس الأمر الذي خلقتَ لأجله ؟ ثم أراك بعد ذلك تضيع الساعات والساعات فيما لا طائل تحته، كم قضيت من وقتٍ وأنت تتكلم عن أمرٍ لا يمتُّ إلى أهميةٍ عندك بصلة ؟ كم وكم قضيت من وقتٍ مع صديقٍ لك تتحدثان عن نافلة اجتماعية لا تقدم ولا تأخر ؟ وكم مكثت أمام التلفاز هذا في أحسن أحوالك لتسمع درساً لا يصل إليك نفعه لا من قريبٍ ولا من بعيد ؟ أو لتسمع أخباراً عنواناً بكليتها الانحياز إلى الشخصانية القاتلة وإلى الذاتية المفعمة بكل أثرة ومحبة للذات.

أنت تملك وقتاً والعاقل من حاسب نفسه والعاقل من درس صادراته ووارداته في ميدان الإنسانية وفي ميدان الدين وفي ميدان الحقيقة هذا هو العاقل، هل رأيتم تاجراً ليس له سجلٌ للصادرات والواردات ؟ هل رأيتم تاجراً لا يعود إلى حساباته في الأسبوع أو في الشهر أو في السنة ؟ والتاجر الذي ليس عنده حسابات ليس بتاجر، أتريد إنساناً يدعي العبودية لله والانتماء لرسول الله على أنه من أتباع هذا النبي الكريم ثم بعد ذلك في ميدان المعنى وفي ميدان الخُلق وميدان الإنسانية ليس لديه حسابات بل لا يعرف عن نفسه تقدماً أو تأخرا، ولا يدري هل كان بالأمس أفضل منه اليوم أم أنه اليوم هو أفضل مما كان عليه بالأمس ؟ هل رأيتم إنساناً مسلماً يسمع كلام الله ويؤمن بهذا الكلام الذي يقول له: ﴿فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون﴾ هل تصدقون بأن إنساناً يؤمن بأن الأمر سنسأل عنه يوم القيامة بل وفي الدنيا قبل الآخرة ثم بعد ذلك لا يحاسب هذا الإنسان الذي يؤمن بهذه المسؤولية أمام الله وأمام التاريخ وأمام الأجيال ثم لا يحاسب نفسه ؟

تلك هي المسألة وهذه هي القضية، حدثني عن علاقتك بربك وفق معطيات مذكورة ومنثورة في كتاب الله وسنة نبيه، حدثني عن علاقتك بنفسك روحاً وجسماً وعقلاً ونفساً، حدثني عن علاقتك بالكون حدثني عن علاقتك بوالديك بأولادك بأصدقائك بجيرانك حدثني عن علاقتك بمجتمعك الذي تعيش فيه، وهل المجتمع إلا أنا وأنت ؟ فإذا كان كل واحدٍ منا وإذا كان كل فردٍ من أفراد هذا المجتمع يقوم بالمحاسبة لنفسه فإن المجتمع سينهض وهذا أمرٌ تلقائي وأمر طَبَعي لا ينبغي أن نشك فيه لحظة.

أدعوكم بجد وأدعوكم بأمانة وأدعوكم برشد من أجل أن يقف كلٌ منا أمام مرآة ذاته في كل يوم في كل أسبوع في كل شهر هل أنت ممن جافى الظلم والغش والخداع والغدر والحسد... إلخ، وهل أنت ممن قاربَ وتحقق بالعدل والصدق والنصح والوفاء والحياء والرحمة والرفق...إلخ ؟ كم النسبة التي كنت عليها بالأمس حيال الابتعاد عن السلب وكم النسبة التي كنت عليها بالأمس حيال القرب من الإيجاب ؟ وهل ازدادت هذه النسبة أم أنك في تراجع أم أنك في ضياع أم أنك لا تدري من أنت ومن أين تتقدم ومن أين تتأخر وتتخلف ؟ هل أنت في وعيٍ لذاتك أم أنك غائبٌ للوعي عن ذاتك ؟ تلك قضية أساسية إنسانية يجب أن ننظر إليها بمنظار الجد والعمل والسعي الدؤوب الذي لا ينفكُّ عنا ليل نهار ؟

اللهم إني أسألك من قلبي ووجداني وعقلي أن تردَّنا إلى دينك الذي يأمرنا بعلاقة مع الآخرين لا أروع ولا أجمل، وهل الإنسان في النهاية إلا مجموعة علاقات فإن كانت حسنة فنعما هذا الإنسان وإن كانت سيئة فيا بؤس هذا الإنسان، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 6/2/2009

التعليقات

أحمد فتال

تاريخ :2009/02/22

والله إن هذه الخطبة الرائعة لجديرة بأن تحول مجتمعنا إلى أفضل المجتمعات الإنسانية وأكثرها رقياً . ولكن إن وعته أذن السامع، والتزم به المتلقي. (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق؟؟؟). جزاكم الله عن الأمة خيراً ، فضيلة الأخ الأكبر الغالي د. محمود عكام

شاركنا بتعليق