آخر تحديث: الأربعاء 17 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
أبعاد العبادات

أبعاد العبادات

تاريخ الإضافة: 2010/11/12 | عدد المشاهدات: 3811

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
للعبادات من صلاة وصيام وحج، ولعلَّ عبادة الحج تكون أكثر تعبيراً عن هذا الذي سنذكر للعبادات، للعبادة ثلاثة أبعاد: بعدٌ غيبي، وبعدٌ مادي شكلي صوري، وبعدٌ اجتماعي.
أما البعد الغيبي: فلا يمكن أن تعلله لأنه بعدٌ غيبي، يُراد منه الاستسلام لله عز وجل، هذا البعد الغيبي يتجلى في عدد ركعات الصلاة، لم كان المغرب ثلاث ركعات ؟ لمَ كان العشاء أربع ركعات ؟ لمَ كان الصبح ركعتين ؟ لمَ كان الطواف حول البيت سبعة أشواط ؟ لم كان السعي سبع مرات ؟ لمَ كان الوقوف بعرفة في هذا اليوم بالذات ؟ لماذا كان الازدلاف إلى مزدلفة بعد المغرب ؟ لمَ كان رمي الجمرات إلى آخر ما يمكن أن تراه من مناسك سواءٌ أكانت هذه المناسك متعلقة بالحج أو متعلقة بعبادات أخرى كالصلاة والصيام والزكاة، هذا البعد الغيبي والذي لا تستطيع أن تجد له تفسيراً ولا تعليلاً سوى أن تقول: أنا أستسلم وأُسلم قيادي لله عز وجل في هذا الأمر، هذا البعد من أجل أن تدلل من خلاله على إيمانك، أنا مؤمنٌ بالله، آمنت بالله عز وجل ولو أن العبادة لم يكن فيها البعد لم تكن العبادة مبنية على الإيمان، لو كان هذا البعد غائباً في العبادة ولو كانت العبادة معقّلة ومعقولة المعنى حينما تقوم بها فليس فيها ما يدل على أنها تعبيرٌ عن الإيمان، وأرجو أن ننتبه إلى هذا أيها الإخوة المسلمون المؤمنون.
البعد الغيبي هو الذي يجعلك إذا ما قمت به مؤمناً، هو دليل أصل الإيمان وهو الذي يجعلك تقوي من خلاله إيمانك، تصلي أربع ركعات فرض الظهر، يسألك ابنك لماذا يا أبتِ تصلي الظهر أربع ركعات وتصلي المغرب ثلاث ركعات ؟ لماذا يذهب الناس إلى الكعبة هناك ويطوفون حول الكعبة سبع مرات ؟ ما الذي ستجيب به ولدك ؟ الإجابة باختصار: الله عز وجل هكذا أمرنا والله أحكم الحاكمين وأعلم العالمين وهو الذي نؤمن به رباً عليماً خبيراً حكيماً قال لنا هذا ووصل لنا هذا عن طريق رسوله الصادق المصدوق وتأكدنا من هذا فنحن ننفذ. هذا دليل إيماننا بالله يا ولدي، لذلك كان هذا البعد للعبادات التي نمارسها، يُراد منها التعبير عن أصل الإيمان، ويُراد منها تقوية الإيمان، علموا أولادكم الإيمان بالله وأنه ما جاء عن الله مؤكداً علينا أن نستسلم له: ﴿وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾، ﴿إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير. آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا﴾. بعدما نزلت هذه الآية: ﴿إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله﴾ قال الصحابة يا رسول الله فهل يحاسبنا الله على ما نخفي ؟ فقال لهم رسول الله: قولوا سمعنا وأطعنا، أنت تقول الآن لمن يأمرك بأمرٍ لا تعرف له تعليلاً لكنه ولي أمرك تقول له سمعنا وأطعنا، هنا قل لربك سمعنا وأطعنا، فقال الصحابة الكرام بعد أن قال لهم رسول الله قولوا سمعنا وأطعنا قالوا: سمعنا وأطعنا، فأنزلها الله قرآناً: ﴿سمعنا وأطعنا  غفرانك ربنا وإليك المصير. لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ يعني إن أخفيت سيئة في داخلك ولم تفعلها فلن تحاسب عليها.
ركزوا على هذا البعد الغيبي للعبادات لأننا بحاجة إلى هذا البعد أن يكون مركزاً فينا لأننا بحاجة إلى أن نؤمن بالله وأن نقول لأمرٍ ثبتت نسبته إلى الله سمعنا وأطعنا، ثبتت نسبته وهنا ضعوا خطين، نحن لا نريد لمجرد أن يقول لنا إنسان هذا آتٍ من الله، نقول له أعطنا الدليل على أن هذا منسوبٌ لله، فإن أتانا بالدليل سلّمنا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
البعد الثاني للعبادات: البعد الشكلي الصوري المادي وهذا تحتاجه أنت لأن الإنسان يحب أن يُتبع المعاني المباني، الإنسان يعيش على المعاني لكنه يريد لهذه المعاني تشخيصاً، يريد لهذه المعاني تجسيداً، ولدك صادق معك وأنت تعلم من قلبك أنه صادقٌ معك لكنك تريد أن ترى هذا الصدق مجسداً في حادثة في أمر في حالة مادية، الإنسان يحب ربه يطيع ربه آمن بربه فها هو ذا يعبّر عن هذا الإيمان بحركة بسجود بركوع، والسجود لا يمكن أن تفعله أنت إلا لربك، أتراك تسجد لأحدٍ سوى ربك، لا، لكنك عندما تسجد لربك تسجد وأنت تشعر بالمتعة، وأنت مسرور وأنت تشعر باللذة وأنت تشعر بالأنس وأنت تشعر بالسعادة، أرأيت هذه الشكلية، تضع جبينك وجبهتك على الأرض لله عز وجل، وأنت حينما تضع جبهتك وجبينك على الأرض تستشعر لذة وتستشعر وصالاً وتستشعر أشياء وأشياء، فالبعد المادي الشكلي الصوري لإشباع فطرة فيك هذه الفطرة تريد أن تجمع وتقرن بين المعاني والمباني، أنا أصلي أشعر بالمتعة والسرور وأنا أتحرك لأن الإنسان يحب الحركة فإذا ما كانت هذه الحركة منظمة ومفيدة في إيمانه ومفيدة في جسمه، أنا أصوم إذن امتنع عن الطعام والشراب إذن أنا اعمل أبذل جهداً والإنسان يحب أن يبذل الجهد يحب أن يعمل، لا تصدقوا بأن الإنسان يحب الكسل في فطرتك أنت تحب أن تعمل، لذلك قلت لكم منذ سنين: لما كلفنا ربنا، أصل التكليف فيه يسر لأن الإنسان لا يحب ألا يكون مكلفاً، يحب التكليف لأن التكليف والعمل والجهد والنشاط والحركة هو الذي تتطلع إليه فطرتك أنت، فالبعد الصوري المادي الشكلي فيه المتعة فيه الإشباع للفطرة التي تتطلب العمل والسعي والحركة فيه إشباع لهذا الأمر ولا سيما إذا كانت هذه الحركات منظمة مرتبة نافعة مفيدة، لكننا للأسف الشديد شوَّهنا هذه الصورة فأصبحت الصلاة عندنا شكلية رتيبة تصل في بعض أحيانها إلى حد الملل، أنت ترى إنساناً يصلي لا ترى فيه هذه المتعة لأنه ربما تحرّك في صلاته ربما وجّه الناس في صلاته ربما فكر ربما سرد ربما سها، لا يعطي السجود حقه ولا الركوع حقه ولا القيام حقه، يدخل إلى المسجد يرفع يديه هكذا وكأنها عادة من الدرجة خمسين حينما يصلي، وكذلك الصيام وكذلك الحج، يحج من يحج منا بجسمه دون أن يكون عقله مع جسمه دون أن يكون قلبه مع جسمه ولذلك تغدو الحركات غير محبوبة من قبل الإنسان السوي، لأننا شوهنا هذا البعد في العبادات التي نمارسها والتي نؤديها والتي نقوم بها، كذلك الصيام، أصبحنا نخاف من أن يأتي رمضان لأن شكلية الصيام الجميلة التي كانت من أجلها فريضة الصيام لم تعد موجودة بيننا في بلادنا أصبحنا نمتنع عن الطعام والشراب كما يمتنع المحبوس، حتى إذا ما فُكَّ قيده رأيته إلى الطعام كالذي فُك قيده ولا أريد أن أقول أكثر من ذلك، حتى في امتناعه عن طعامه وشرابه يتصرف تصرف الذي سُجن فإن كلَّمته قال: دعك الآن فإني صائم. بدلاً من أن يتحملك كما جاء في الحديث: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم) أصبحت القضية معكوسة يسبك ويشتمك ويقول لك إني صائم. بدلاً من أن يتحمل السب والشتم من غيره ويقول وهو يتحمل إني صائم أصبح العكس لا تكلمني فأنا صائم إن سببتُ أو شتمت فمعذور. شوهنا هذا الشكل الجميل في الصيام والحج والصلاة وفي الزكاة، الشكل الجميل للزكاة أنت تتصدق بيمينك حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، لكننا الآن نرى أولئك الذين يزكون ويتصدقون يرفعون أياديهم اليمين والشمال هكذا أمام الملأ ويقولون نحن نزكي ونتصدق، وهم على الرغم من هذا لا يزكون الذي عليهم وأنتم تعلمون ولا يدفعون هذا الذي وجب في ذمتهم ولو أنهم دفعوا هذا الذي في ذمتهم والذي فرضه الله عليهم ما وجدت فقيراً في مجتمعنا، وما أكثر الفقراء لأن الأغنياء يبخلون في إعطاء ما وجب عليهم إعطاؤه وأنتم تعلمون وكل واحدٍ منا إما أن يعلم هذا من نفسه أو من جاره أو من أخيه أو أبيه أو من صديقه، نحن مجتمع ممسك، نحن مجتمع بخيل اللهم إلا على شهواتنا، إلا على شهوات أبنائنا عند ذلك نغدو كراماً وهذا الوصف لا أقوله إلا من باب المشاكلة، نغدو أسخياء حيث السخاء غير جائز ومرفوض، لا نسخو حيث السخاء رائع ولكننا نسخو حيث السخاء مرفوض وجائر ومنبوذ، البعد المادي للعبادات يجب أن نعطيه حقه، صلِّ صلاة مودع، صم وليصم مع امتناعك عن الطعام سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، طف حول الكعبة من غير أن تؤذي أحداً ومن غير أن تتطلع إلى هنا أو هناك، واسعَ بين الصفا والمروة وأنت تستشعر السعي من أجل نفع الإنسان ومن أجل خير الإنسان، وإلا لا قيمة لهذا الذي تفعل.
البعد الثالث: البعد الاجتماعي، إن لم تنتج العبادات بعداً اجتماعياً كما قلنا لكم في الأسبوع الفائت فما أظن أن هذه العبادات ستكون مقبولة قبولاً عاماً وتاماً عند الله عز وجل، كل العبادات يُراد منها في بعدها الاجتماعي أن تزيد ما بين المسلمين أولاً أن تزيد تعارفهم وأن تزيد تآلفهم وأن تزيد تعاونهم وأن تزيد تضامنهم وأن تزيد اجتماعهم على إرادة الخير، ويُراد منها فيما يتعلق بغير المسلمين أن تزيد باطمئنانهم منا وأن تزيد من أمانهم منا، أما اليوم فليست العبادات التي نمارسها تزيد من تآلفنا ولا في تعارفنا. أنت تدخل إلى المسجد وتخرج، وتذهب إلى الحج وترجع من غير أن تبني أو تقوي علاقة بينك وبين هذا الذي يصلي بجانبك أو هذا الذي يحج معك، فالعبادات لم تعد تزيد التعاون أو التضامن بل على العكس وكما قلنا مرات ومرات أصبحت العداوة بين المصلين أشد وأصبحت العداوة بين الصائمين أشد، وأصبحت الشحناء والبغضاء بين المصلين والصائمين فيما بينهم أشد، وأصبح هذا الذي ليس بمسلم يخاف منا أشد، أصبحنا نرعب ونخون وينظر إلينا وهذا من فعلنا وبأيدينا: ﴿ولا يظلم ربك أحداً﴾ أصبحنا يُنظر إلينا على أننا مُرعبون مخوِّفون بدلاً من أن نكون مطمئنين مؤمنين أصبحنا مخوفين مرعبين، سلوا كل أولئك الذين يعيشون هنا وهناك سلوا إخوانكم في العراق سلوا إخوانكم في فلسطين أضحى الواحد يخاف من الآخر ممن معه أكثر مما يخاف ربما من الإسرائيلي، وأصبح الإنسان في العراق يخاف من أخيه الذي يدين بدينه أكثر مما يخاف من الأمريكي، فلربما فجّره هذا وهو يقول الله أكبر ولربما قتله وهو يقول النصر للإسلام وهكذا أصبح الدين ستاراً لأفعالٍ لا ترضي ربنا عز وجل، فأين البعد الاجتماعي في صلاتكم أنتم أيها الإخوة ؟ أين البعد الاجتماعي من تآلف وتعاون وتضامن ومحبة وتطمين وتأمين، حتى في أسرتك أنت أيها الأب أين هذا ؟ ولدك يخاف منك وأنت تخاف من ولدك، زوجتك تخاف منك حتى عندما تقف لتصلي فزوجتك ستكون أكثر خوفاً لأنك وأنت تصلي تقول لها على البيت أن يكون ساكناً هادئاً وبأسلوبٍ غير مريح وبلهجة لا ترضي الله ولا رسوله.
إن لم تأخذ العبادات بعدها الغيبي فتجعلنا نؤمن بالله ونقوي إيماننا بالله عز وجل، وإن لم تأخذ العبادات بعدها المادي الصوري الشكلي بأناقة وإتقان فتجعلنا نتمتع (أرحنا بها يا بلال) وتجعلنا نعيش راحة وطمأنينة، وإن لم تأخذ بعدها الاجتماعي إن لم تأخذ هذه الأبعاد كلها فلا قيمة لعباداتنا، صلوا وصوموا وحجوا ولكن وأنتم تستوعبون أن لهذه العبادات أبعاداً ثلاثة البعد الغيبي الذي يحتاج إلى تسليم لله، والبعد المادي الصوري الشكلي الذي يحتاج إلى إتقان، والبعد الاجتماعي الذي يحتاج إلى تمحيص من أجل أن نتأكد من وجود آثاره. فاللهم وفقنا، وفق الصائمين والمصلين والحجاج والمعتمرين والمزكين وكل أولئك الذين يقومون بالعبادات وفقهم من أجل أن يعوا هذه الأبعاد حتى تنتج العبادات أثرها في حياتنا التي نحياها وحتى لا تكون العبادة لمجرد أنها عبادة. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى ذلك، نعم من يسأل ربنا ونعم النصير إلهنا، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 12/11/2010
 

التعليقات

شاركنا بتعليق