آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الغاية من العبادات

الغاية من العبادات

تاريخ الإضافة: 2009/08/28 | عدد المشاهدات: 4731

أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون الصائمون القائمون:

حينما نذكر الإسلام نذكر أركانه، وأركان الإسلام: صلاةٌ وصيام وزكاة وحج، وقنطرة الإسلام شهادة، حينما نذكر الصلاة والصيام والزكاة والحج، فإننا نذكر عبادات مفروضة علينا من رب العزة جلت قدرته، وكلنا يعلم أن هذه العبادات لم تفرض فقط لشكلها وشكليتها، وإنما فرضت من أجل غايات، وعلى الذي يقوم بها أن يتحقق بهذه الغايات وأن يحققها، فللصلاة غاية وللصوم غاية وللزكاة غاية وللحج غاية، فانظر أيها المصلي أيها الصائم أيها المزكي أيها الحاج، هل تحققت بالغاية من الصلاة ؟ هل تحققت بغاية الصوم ؟ هل تحققت بغاية الزكاة ؟ هل تحققت بغاية الحج ؟ تسألني: ما غاية الصلاة ؟ وما غاية الصيام ؟ وما غاية الزكاة ؟ وما غاية الحج ؟ حتى أتحقق بها، وحتى أحاكم نفسي فيما إذا تحققت بها أم لا.

أيها المصلي وأنت تصلي: اعلم علم اليقين أن غاية الصلاة، أو الغاية الأهم من الصلاة هي: تدعيم الانتماء والصلة بالله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسند الإمام أحمد يقول: (وجُعلت قرة عيني في الصلاة)، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في المسند: (إذا حزبه أمرٌ صلّى) أي إذا اشتد عليه أمر ما قام إلى الصلاة، من أجل أن يُري هذا الأمر الذي حزبه انتماءه لربه، فعندما يرى هذا الأمر الذي حزبك انتماءك وصلتك بربك فسيتلاشى هذا الأمر، مهما كان فظيعاً و خطيراً.

فغاية الصلاة: تدعيم الانتماء والصلة بالله عز وجل. أنت اليوم تصلي، وكنت في الصيف تصلي، وغداً ستصلي بفضل الله عز وجل، فهل أنت اليوم أقوى انتماءً وصلةً بالله منك يوم أمس، أم أنك لا تفكر بهذا أبداً ؟! هل ستكون في يوم الغد أقوى صلةً وانتماءً بربك منك في يومك هذا، أم أنك لا تفكر بهذا ؟!

عندما تصل إنساناً ما، فإنك تعد على أصابعك: زرت فلاناً مرة و مرتين وثلاث مرات، وبعد ذلك تقول لمن حولك: لقد تقوّت أواصر صلتنا، لأنني زرته مرة ومرتين وثلاث مرات وأربع مرات. وأنت تناجي ربك في صلاتك، وأنت تزور ربك في صلاتك، فهل قويت وتقوّت هذه الأواصر بينك وبين ربك ؟ وهل أنت أصبحت ممن يتجه في داخله وظاهره إلى ربه ليقول: "إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي"، ويقول:

فليت الذي بيني وبينك عامر                  وبيني وبين العالمين خرابُ

هذه هي غاية الصلاة، ففكر فيها، وإذا ما تحققت بهذه الغاية فاعلم بأن الصلاة ستنتج ثمارها، وستعطيك عزة في الدنيا وفلاحاً في الآخرة، وها هو سيدي رسول الله يقول كما في البخاري ومسلم: (أرأيتم لو أن نهراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنه شيء ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلكم مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، وإذا محيت خطاياك فطوبى لك، فأنت في الدنيا عزيز وفي الآخرة فالح.

أما غاية الصيام فهي: تقوية الإخلاص، أن تكون حركاتك وسكناتك لله، لأن الصيام عبادة سرية، لذلك غاية عبادة الصيام: أن تتحقق بالإخلاص، وأن تكون مخلصاً، وأن تعلن في كل عمل تقوم به وفي كل قول تقوله: إلهي أنت مبتغاي، إلهي أنت قصدي، ألهي أتوجه إليك، لأن ربك لا يقبل منك أي عمل إلا إذا ابتغيت به وجهه، إلا إذا توجهت به إليه وحده دون سواه، فغاية الصيام: تدعيم الإخلاص ومجانبة الرياء. ولذلك ورد في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي...)، لأنه عبادة سرية تعلم الصائم الإخلاص، أنتم الآن في حالة لا نعرف من خلال أعيننا وحواسنا فيما إذا كنتم صائمين أم لا، كل واحد منكم يعرف نفسه، فالصيام عبادة سرية، ولذلك ينبغي أن تكون لها غاية وهذه الغاية: تدعيم الإخلاص ومجانبة الرياء.

فإذا ما صمت مخلصاً، وإذا ما علمك الصيام الإخلاص في أعمالك وأقوالك، فاعلم أن ثواب الصيام سيكون كبيراً، وها هو سيدي رسول الله يقول كما في البخاري: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) أي عندما تتحقق بغاية الصيام وهي الإخلاص، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾، والتقوى هي الإخلاص، وحيثما جاءت كلمة (التقوى) في القرآن الكريم فهي الإخلاص.

أما غاية الزكاة فهي: أن يتعمق فيك الاعتماد على الله، لأنك تنفق، وأنت تنفق ربك عز وجل تكفّل أن يعوضك، ولكن لن يكون التعويض قبل أن تنفق، فإذا كان التعويض قبل أن تنفق، عند ذلك لن يكون للاعتماد على الله عز وجل معنى، لذلك انفق ينفق عليك.

فالزكاة تعلمك وتدعم فيك ويجب أن تحقق لديك: الاعتماد على الله عز وجل والتوكل عليه، ولذلك: ﴿ ومَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون﴾، وكما جاء في الصحيح: (ما من يوم إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاًَ).

غاية الزكاة: تقوية اعتمادٍ على الله، وتطهير من داءٍ وبيل هو الشح، والشح ما كان في أمة إلا أهلكها، ولذلك نحن هالكون أو شبه هالكين لأننا نعيش شحاً، غنينا شحيح، غنينا لا يقدم إلى فقيرنا شيئاً، وفقيرنا أيضاً في نيته إن كان غنياً أن يكون شحيحاًَ، والكبير فينا شحيح في العطاء على الصغير، والمسؤول فينا شحيح في العطاء على أولئك الذين هو مسؤول عنهم... وهكذا دواليك. فالزكاة تطهرك من الشح، والشح ليس في المال فحسب، وإنما الشح في كل شيء، ونحن أمة اليوم وقعنا في بؤرة الشح، وما كان الشح في أمة إلا أهلكها. فالزكاة غايتها: تقوية الاعتماد والتوكل على الله وتطهيرك من الشح، أين المنفقون ؟ أين من ينفق ماله ؟ أين من ينفق معتمداً على الله الذي سيُخلف عليه ولكن بعد أن ينفق ؟ أين هذا الذي يواسي أخاه ورمضان شهر المواساة، أين هؤلاء الذين يخرجون زكواتهم ويتصدقون بكل مالهم أو بربعه أو بخمسه ؟! أين أولئك المتضامنون فيما بينهم ويعتمدون على الله ؟ لأن الله سيخلف وينفق عليهم، "أنفق ولا تخشَ من ذي العش إقلالاً"، أصبحنا اليوم نعيش حالة شح كما قلت لكم، ولذلك آمل أن يكون رمضان فرصة من أجل أن نتعلم العطاء، فسيد الكائنات وسيد الصائمين (كان في رمضان أجود في الخير من الريح المرسلة)، فهلّا يا إخوتي زكينا وقدمنا أموالنا، حتى الفقير عليه أن ينفق مما آتاه الله عز وجل، من أجل أن يكون قدوة للغني، ويكون أيضاً حجة مضاعفة على الغني، أيها الفقراء أنفقوا وعلموا الأغنياء أنكم على الرغم من فقركم تنفقون، لأن أغنياءنا أضحوا شحيحين، ولأننا أصبحنا لا نعرف للأخوة معنى سوى أن نلتقي بأجسامنا في مساجدنا، أو أن نلتقي بأجسامنا في أماكن تجمعاتنا، أو أننا حينما يريد الواحد منا أن يعطي لأخيه فإنه يعطيه من خسيس ماله، ولا يعطيه من كرائم ماله: ﴿لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أين الذين ينفقون مما يحبون ويعتمدون على الله في أن يخلف عليهم ؟

أما غاية الحج فهي: تدعيم وتقوية الامتثال لأمر الله، حتى ولو لم تدرك المعنى،  فالله قال: "طفْ حول البيت سبعاً" فعليك أن تقول: أمراً وطاعةً يا رب، فما دام الله قد أمرك فعليك الامتثال حتى ولو لم تفهم الحكمة، "اسعَ بين الصفا والمروة سبع مرات، وقفْ على جبل عرفات ثم بعد ذلك هيا إلى المزدلفة، ثم بعد ذلك هيا إلى منى، ثم بعد ذلك هيا إلى رمي الجمرات"، قد لا تحس بالمعنى، لكن غاية الحج وأنت تفعل كل هذا أن تقول لربك: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، إرضاءً للرحمن وعصياناً للشيطان. هكذا يجب أن يفعل فيك الحج فعله، فالحج غايته أن يقوي امتثالك "لبيك اللهم لبيك"، وينبغي أن يكون هذا الشعار "التلبية" عنوانك في مسيرتك كلها.

فغاية الحج تدعيم وتقوية الامتثال لأمر الله عز وجل حتى ولو لم تفهم الحكمة،لذلك قال الله عز وجل: ﴿ولِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ثم قال بعد ذلك: ﴿ومَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين﴾ أي ومن أعرض عن أمر الله ولو لم يفهم معناه، فإن الله غني عن العالمين.

فالحج تدعيم الامتثال لأمر الله، فهيا وضع أمامك هذه الغاية وأنت تحج، وأنت تعتمر، والنتيجة للحج في هذه الغاية التي تريد تحقيقها: كما قال سيدي رسول الله في الحديث الصحيح: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) ويقول أيضاً كما في الحديث الصحيح: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، والحج المبرور هو أن تحج وأنت تعتقد في أنك تفعل هذا امتثالاًَ لأمر الله.

يا أخي قل بينك وبين نفسك - قبل الإفطار أو أثناء صلاة التراويح أو بعد صلاة الفجر أو قبل صلاة الفجر-: هل أنت في صيامك تريد أن تحقق غاية الإخلاص ؟ هل أنت في صلاتك تريد أن تحقق غاية الانتماء والصلة  بالله عز وجل ؟ هل أنت في زكاتك تريد أن تحقق غاية الاعتماد على الله ؟ هل أنت في هذه الغايات متحقق ومحقق لها، سَلْ نفسك في كل يوم في كل وقت في كل ساعة، لأن هذه العبادات بكل بساطة إن لم تحقق غاياتها فستبقى شكلية، ولذلك أنا أكلفكم اليوم واجعلوها كأنها وظيفة: اقرؤوا ما جاء عن أنواع الصلاة في القرآن الكريم، هناك أنواع كثيرة للصلاة، هناك صلاة تسمى صلاة التضرع، وهناك صلاة من أجل أن تغير تركيبتك الضعيفة، فعندما تحدث القرآن عن الإنسان قال: ﴿إنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾، أي الصلاة التي تغير تركيبتك الفاسدة، فهل الصلاة التي تصليها تغير تركيبتك الفاسدة ؟

جاء جماعة إلى أبي الحسن الشاذلي رحمه الله، فقال لهم: صليتم ؟ قالوا نعم. قال: لا. قالوا: بل صلينا. قال: هل إذا أصابكم الخير فستكونون مَنوعين وإذا أصابكم الشر فستكونون جَزوعين ؟ قالوا نعم. قال: إذاً لم تصلوا وإن صليتم، لأن الصلاة لم تحقق أغراضها، ارجعوا إلى القرآن الكريم فستجدون أكثر من سبعة أنواع للصلاة، أما صلاتنا التي نقوم بها فقد أسميتها: الصلاة الميقاتية. أي كالمنبه، فمثلاً: يأتي وقت الظهر وبغير شعور منا نقوم إلى الصلاة، لأن صلاتنا عبارة عن حركات، فصلاتنا التي نقوم بها إلا من رحم الله صلاة ميقاتية شرعية، أما الصلوات الأخرى التي سترونها في القرآن الكريم وأحيلكم عليها، فأنتم الآن تقرؤون القرآن الكريم في رمضان، فاقرؤوا ما جاء فيه عن الصلاة، وعن أنواعها، وعن الصلاة التي قال عنها ربنا: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾، فاقرؤوا كل ما ورد في القرآن الكريم عن الصلاة، فسترون أنواعاً كثيرة للصلاة، وسترون أننا لا نصلي إلا نوعاً واحداً ﴿إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾، ميقات شرعي من غير ما نية قابعة في دواخلنا، نريد من هذه النية أن نحقق أغراض الصلاة.

أيها الإخوة فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنزن أعمالنا قبل أن توزن علينا، ولنسعَ من أجل أن نفكر في عباداتنا على الأقل التي نمتاز بها عن الآخرين، فلقد أصبحت عباداتنا عادات لا تقدم ولا تأخر، إن قلت إنها تؤخر ولا تقدم، واسألوا أهل الخبرة والقائمين على الأمر، فسيخبرونكم عن مشاجراتٍ في رمضان أكثر مما يحدث في غير رمضان، وسيخبرونكم عن الجشع الذي يستفحل في نفوس الصائمين في رمضان أكثر مما يستفحل في غير رمضان، ذلك أننا إن صمنا لم نصم، ونحن ننظر الغاية التي نريد أن نتحقق بها، إلى آخر العبادات الأخرى.

اللهم إني أسألك بحق من حقق غاية الصيام وهو صائم، وبحق من حقق غاية الصلاة وهو يصلي، وبحق من حقق غاية الزكاة وهو يزكي، وبحق من حقق غاية الحج وهو يحج، أن تجعلنا ممن يتجه لتحقيق غايته في عباداته يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 28/8/2009

التعليقات

شاركنا بتعليق