أمَّا بعد ، أيُّها الإخوة
المؤمنون :
لقد رعى الإسلامُ الإنسانَ في كلِّ تـجليَّات وجوده ، فردا ً كان أو أسرة ،
مجتمعاً كان أو دولة ، ورعايةُ الإسلام تعني : أولاً : التأسيس مِنْ خلال
التكوين ، وثانياً : الاستمرار عبر الحماية والعناية ، وثالثاً : التوريث
بواسطة التَّـنفيذ الواعي الذي يوجِـده النَّموذجُ الـمقنع . كلُّ ذلك في إطارٍ
مستوعِب من الإيمان بالله عز َّوجلَّ: ( ألا يعلم مَنْ خلقَ وهو اللطيف الخبير
) . وحين نتوخَّى المرحلةَ الأهمَّ في تجليَّات وجود الإنسان التي ذكرنا ، تبرز
الأسرةُ حالةً هامَّـة فاعلة خطيرة ، تحتضن الفرد في أبعاده وتطلُّعاته ودوافعه
واندماجه في مجتمعه ، وتشكِّل في الوقت ذاته منطلقا ًلمجتمع متراصٍّ متماسك ،
وكأنِّي بها وهي صالحة يصلح بها الفرد والمجتمع ، وكأنِّي بها وهي فاشلة يفشل
المجتمع والفرد من خلالها . وإذا ما أردنا الحديث عن التكوين والحماية والعناية
والتنفيذ الواعي في مجال الأسرة ، فإنَّنا نتحدث عن :
أولاً - التأسيس من خلال التكوين ، الذي يتجلَّى مِنْ خلال مقوِّماته :
أمَّا المقوِّم الأول لتكوين الأسرة وتأسيسها التأسيسَ القويَّ فهو الاختيار
السليم منَ الرجل للمرأة ، ومنَ المرأة للرجل ، ومنْ أجل هذا فقد جعل الإسلام
الاختيارَ مبدئيا ً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم للرجل وهو يختار المرأة : "
تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها و جمالها و دينها ، فاظفر بذات الدِّين
تَـربَتْ يداك " رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية أحمد : " فخذ ذاتَ الدِّين
والخلق تربت يداك " . ووجَّـه المرأة كما وجَّـه الرجل ، فقال للمرأة وهي تختار
وتبحث : ليكن اختيارك مبدئيا ً فلقد ورد في سنن أبي داود أنَّ النبيَّ صلى الله
عليه وآله وسلم قال : " إذا أتاكمْ مَنْ ترْضَون دينه وخلقه فزوِّجوه ، إلا
تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض " . وأنتِ أيَّتها المرأة يا صاحبة
المبدأ ، يا مَنْ اعترف ديننا الإسلام بحقك ، أنت التي تختارين . وها هي القصة
التي يرويـها ابن ماجه و أحمد ، تعبِّر عن مدى احترام الإسلام لاختـيار المرأة
، يـوم جاءت فـتاة إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له : " يا رسول
الله ، إنَّ أبي زوَّجني ابنَ أخيه ، ليرفعَ بي خسيسته ، وأنا له كارهة " ،
فخيَّرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيْ جعل لها الخيار في أنْ تقبل ذلك أو
ترفضه ، فقالت : " يا رسول الله قد أجَـزْتُ ما صنع أبي ، ولكنْ أردت أنْ يعلم
الناس أنْ ليس إلى الآباء مِنْ الأمر شيء " . أيْ في الاختيار الذي ينبع منَ
الفتاة المسلمة صاحبة المبدأ .
وأمَّا المقوِّم الثاني بعد الاختيار ، ومنْ أجل تكوينٍ سليم يعني التأسيسَ
القوي ، تأتي قضية المهر ، ولقد دعا الإســلام إلى عدم التغالي في المهر، وقال
صلى الله عليه وآله وسلم يوم سمع بإنسان أصْدقَ زوجتَـه أربـعَ أواقٍ منْ فـضة
: " كأنَّما تنحتون الفضة منْ عرض هذا الجبل ؟! ".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر : " إنَّ مِنْ يُمْنِ المرأة تيسير
صَداقها " . هذه هي مرحلة التكوين .
ثانياً - الاستمرار عبر الحماية والرعاية : أما الحماية والرعاية اللتان
تُـوجِدان الاستمرار ، فبالحماية والرعاية تستمرُّ الأسرة أسرة ًمعطاءة ، منْ
أجل أنْ تقدِّم النموذجَ الخـِّير ، ولذلك فقد حماها الإسلام بتشريعاتٍ وقوانين
كانت لها رائعة . فقال لها أولاً : أيَّتها الأسرة ، أيُّها الزوج ، أيَّتها
الزوجة : لتكونوا في حِمْيةٍ مِنْ أفعالٍ تؤثـِّر على مسار هذه الأسرة : فلا
طلاقَ ، والطلاق في ساحة البغضاء وضعه الله عز وجلَّ ، ولا زنى ، لأنَّه
مِعْولٌ يهدم الأسرة ، وليس مِنْ معولٍ يهدم الأسرة أخطر منَ الزنى ، إذ يهدم
الأسرة بكل كيانها ليأتي بعد ذلك على هدم المجتمع ، ورعَى الإسلام الأسرةَ بعد
ذلك ، فقدَّم لها تشريع عناية : إذ قال للزوجة : أيتها الزوجة ، هيا مِنْ أجل
أنْ تتحلَّي بالطاعة الواعية الهادفة للزوج، فلقد ورد في الطبراني ، أنَّ
امرأةً جاءت إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : " يا رسول الله ، أنا
وافدة النساء إليك، الرجال يجاهدون معك ولا جهاد لنا " ، فقال لها النبيُّ صلى
الله عليه وآله وسلم : " أبلغي مَنْ لقيتِ منَ النساء أنَّ طاعة الزوج واعترافا
ً بحقِّه يعدل ذلك " . وقال للزوج وهو يعتني بالأسرة : أيُّها الزوج كنْ صاحب
خُـلقٍ حسن مـع زوجـك في بيتك ، فلقد قال ربُّـنا سبحانه وتعالى : (وعاشروهنَّ
بالمعروف ) ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : " استوصوا بالنساء خيرا ً
" ، ويروي ابن ماجه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : " خـيركمْ
خـيركم لأهله ، وأنا خـيركم لأهلي " ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي
الترمذي :" إنَّ مِنْ أكمل المؤمنين إيمانا ً أحسنهم أخلاقا ً وألطفهم بأهله "
. وتابع الإسلام طريق العناية مِنْ أجل استمرارٍ رائع ، مِنْ أجل مسيرة أسرةٍ
تشكِّل النواةَ الخيِّرة لمجتمع فاضل متكامل فقال للأولاد : هيَّا أيُّها
الأولاد إلى برِّ آبائكم ، هيَّا إلى برِّ أمهاتكم : ( وقضى ربُّك ألا تعبدوا
إلا إيَّاه وبالوالدين إحسانا ) . ويروي البيهقي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه
وآله وسلم قال : " ما مِنْ ولدٍ ينظر إلى أبيه أو أمِّه نظرةَ رحمة إلا كتبَ
الله له بهذه النظرةِ حجةً مبرورة " . فقال رجلٌ : " يا رسول الله ، أرأيتَ إنْ
نظرتُ إليه مئة مرةٍ في اليوم ؟ " ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم :" نعمْ ،
الله أطيبُ وأكرم " . وتتابع العناية ليتوجَّه الإسلام إلى الأباء منْ أجل عطفٍ
وحُـنوٍ على الأبناء ، ويقول الإسلام لهؤلاء الآباء : هيَّا وتجلببوا بجلباب
الرَّحمة والإحسان ، بجلباب العطف على الأولاد ، وما أروعَ القصة التي يرويها
البخاري ، يوم جاء الأقرع بن حابس إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فرآه
يُـقبِّل الحسين رضي الله عنه فقال : " يا رسول الله ، إنَّ لي عشرةً منَ
الأولاد ما قبَّـلت واحدا ً منهم أبدا ً" فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم
: " أوَ أملكُ لك أنْ نَـزع الله مِنْ قلبك الرَّحمة ؟!· مَنْ لا يَرحم
لايُرحَم " . ويروي البيهقي أنَّ رجلا ً كان جالسا ًبقرب النبيِّ صلى الله عليه
وآله وسلم ، فدخل على الرجل ابنٌ له ، فقبَّله ووضعه في حِجْره ، ثمَّ دخلتْ
عليه ابنةٌ له فوضعها إلى جانبه ، ولم يقبِّلها ، فقال له النبيُّ صلى الله
عليه وآله وسلم : " يا هذا ، ما عدلتَ بينهما " . إنَّها الحماية ، إنَّها
الرعاية ، تثبِّـتان الاستمرار الرائع . ثالثاً - التوريث بواسطة التنفيذ
الواعي : ويأتي بعد ذلك التوريث ، الذي يظهر ويتجلَّى عبر النموذج المقنع ، وها
هو النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يشكِّل هذا النموذج ، ها هم صحابته ، وها
هم العاملون، وها هم المؤمنون الصادقون ، يـبنون نماذجَ رائعة ، ويشــكِّلون
أسوةً ستبقى محلَ إكبارٍ وإعجاب ، لكلِّ أولئك الذين يَـنشدون أسَرا ً طيبة
خيِّرة ، تشكِّل مجتمعا ًطيبا ًخيِّرا ً .
وإنْ سألنا عن أسرة الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، عن روعتها ، عن
نموذجيَّتها، عن أسوتها ، إذ بنا نقرأ ملامحها في طيفٍ ملَّون رائع ، يأتي قوسا
ً منوَّرا ً لكلِّ منْ ادلهمَّ به الظلام ، أو وقع في الغياهب والسراديب .
ومَنْ أراد عرضا ً لهذه الملامح الكريمة فليقرأ ما قالته السيدة عائشة رضي الله
عنها ، كما في الطبقات ، حينما وصفتْ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت
: " كان ألينَ الناس بسَّـاما ً ضحَّـاكا " . وحين نسأل أنس بن مالك يقول لنا :
" ما رأيت أحدا ً كان أرحمَ بالعيال مِنْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "
. وحينما نسأل هذه الأسرة الكريمة عن سلوك الزوجة ، يطالعنا التاريخ بكلماتٍ
ستبقى الطغراء في صفحة الحياة ، حين قالت السيِّدة خديجة رضي الله عنها للمصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم يوم جاءها ترتعد فرائـصُه لما هبط عليه الوحي ، قالت
هذه الزوجة الرائدة الرائعة الواعية : " كلا ، والله ما يخزيك الله أبدا ً،
إنَّك لتصل الرَّحم ، وتحمل الكلَّ ، وتكْسِب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق "
. ويجلل كلَّ ذلك الحبُّ ، فلا أسرةَ مِنْ غير حبٍّ ، ولا مجتمعَ مِنْ غير
مودَّة ، وإنَّ الأسرة التي انهزم منها الحبُّ ، وإنَّ المجتمع الذي حادَ عن
مسيرةِ الحبِّ ، مجتمعٌ وأسرة ينبغي أنْ ينظرا نظرةً فاحصة في واقعهما . الحبُّ
سيبقى الغيمةَ الخيِّـرة المدرَّة للمطر الخيِّر ، منْ أجل أنْ تُـنْبِتَ هذه
العلائق والصلات كلَّ ملامح الخير ، وكلَّ معالمه ، وكلَّ ثماره التي تنفع
الناس ، وحياةٌ وأسرةٌ ومجتمعٌ مِنْ غير حبٍّ ، مجتمعٌ لا ثمرَ فيه ، ولا ماء
فيه، ولا حياة فيه . وإنَّي لأرجو الله وأنا أتحدَّث عن هذه الخليَّـة ، أتحدث
عن هذه النواة ، أتحدث عن الأسرة ، أنْ يجعل ربِّي بلدنا ، أنْ يجعل ربِّي
سوريةَ الحبيبة أسرةً تكون النموذجَ والقدوة لكل البلاد ، وعلى مستوى كلِّ بقاع
الأرض، على مستَوى كلِّ الـدُّول التي تَسعَى مِنْ أجل أنْ تكون معطاءةً خيِّرة
مبدئيَّة .
أرجو الله أنْ يجعل مِنْ سورية أسرةً خيِّـرةً بعطائها ، باحترام صغيرها
لكبيرها، وبعطفِ كبيرها على صغيرها ، وبأنْ تكون دائما ً مرعيَّـةً بقيادةٍ
مؤمنة ، لتشكِّل - وهذا الذي نصبوا إليه - وطنا ً نظيفا ًيستظلُّ بظلِّ دينٍ
حنيف ، فعنوان أسرتنا في سورية : ( وطنٌ نظيفٌ يستظلُّ بدينٍ حنيف ) .
أسأل الله أنْ يوفـِّـقنا جميعا ً، حيثما كنَّا ، لنكونَ على مستوى العطاء في
أسَرنا ، وفي مجتمعاتنا . آمين ، والحمد لله ربِّ العالمين .
التعليقات