أما بعد ، أيها الإخوة
المؤمنون :
كلَّ عام وأنتم بألف خير ، وكل رأس سنة هجرية وأنتم والمسلمون في كل بقاع الأرض
بألف خير ، كلّ عامٍ ومقدسات الأمة للأمة ولدى الأمة وعندها ، كل عام والأمل
بالله أن يرتاد الناس القدس والأقصى كما يرتادون المدينة ومكة ، فعمرةٌ تذهب من
خلالها إلى مكة ولكن عن طريق القدس كما جاء على لسان سيد الكائنات محمد عليه
وآله الصلاة والسلام عمرة من القدس إلى مكة كحجة معي - أي مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم - .
أيها الإخوة المسلمون : الهجرة - هذا المصطلح - لم يَعُد مصطلحاً تاريخياً فحسب
، ولم تعد الهجرة قيمة تاريخية فقط ، حينما نذكر الهجرة فلا نذكر حركةً أو
فعلةً قام بها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحسب ، ليست الهجرة قيمة
تاريخية فحسب ، بل الهجرة مصطلح دخل قاموس الفكر ، وقاموس الحركة والعمل
الإسلامي بقوة ، وأصبح يُشَكِّل منظومةً يجب أن تكون أمام أعيننا دائماً
وباستمرار ، وأن لا تغادر قلوبنا وعقولنا وتخطيطنا لمستقبلٍ نريد أن نعيشه ،
ونريد للإنسان أن يعيشه ، هذا المستقبل يَتَّسم بالعدالة والحق والفضيلة والرشد
. منظومة الهجرة إنسانية ربانية خيرية ، ماضية وحاضرة ومستقبلية .
منظومة الهجرة تقوم على أركان ، ومن حسن الطالع أن تكون مفرداتنا الزمنية
مرتبطة بهذه المنظومة ، فها نحن نستقبل سنةً هجرية وأريد من المسلمين أن يعرفوا
الرقم الذي وصلنا إليه ، لأنه من المؤسف أن كثيراً من أبنائنا حتى لو اعتبروا
الهجرة قيمةً تاريخية فهم لم يعودوا يلتفتوا إليها بشكل صحيح ، يؤسفنا أن نجد
البعض لا يعرف رقم السنة الهجرية التي نعيش رأسها هذا اليوم ، ولا يعرف أسماء
الأشهر الهجرية وترتيبها ، وربما لا يعرف الفرق بينها وبين الأشهر الميلادية .
لقد مَرَّت علينا سحابات داكنة أمطرتنا بوابلٍ من التفاهات ، من جملتها أنك إن
حدثت شاباً يدرس الطب أو الهندسة على سبيل المثال عن اللغة العربية لغة القرآن
، وقلت له لم لا تعتني باللغة العربية أجابك بقوله : وما فائدة اللغة العربية
؟! ولئن سألته عن الأشهر الهجرية أجابك بقوله : وما الذي يعود عليَّ بالنفع حين
أحفظ الأشهر الهجرية ؟ وما الذي يعنيني في النتيجة ؟! نقول له : وما الذي يعنيك
من إسلامك أيضاً ، لأن مثل هذه الأجوبة سينسحب حتى على الصلاة والصيام والحج
وعلى غبرها من أوامر الإسلام . الجواب على كل هذه التساؤلات ، أن نقول له من
فمك ندينك ، فأنت تقول عن نفسك بأنك مسلم ، وأنك تنتمي إلى الأمة العربية
وتنتمي للأمة الإسلامية وتنتمي لسورية والأردن والعراق ، هيا فقل لنا بأنك لست
كذلك لنبدأ الحديث والحوار من جانب آخر معك . لماذا ؟ لأننا نريد أن نحقق
وجوداً مادياً ومعنوياً .
الهجرة منظومة إسلامية عظيمة تحمل فكراً وحركة وعملاً وسعياً وإنسانية ورحمة
ورسالة ، وتحمل مختصر الإسلام في كل ميادينه ، وحين نذكر الهجرة نذكر الإسلام
باختصار .
منظومة الهجرة تقوم على أمور :
أولاً : تقوم على تضحية . وهل الإسلام إلا تضحية ، وكلنا يعلم أن سيدنا محمداً
عليه وآله الصلاة والسلام ضحَّى وهاجر ، ضَحَّى بالغالي ، ضحى بالوطن مكة - أي
تركها - وقد وقف أمام مكة يودعها ويقول كما يروي البيهقي : " والله إنك لأحب
بلاد الله عندي ولولا لأن قومك أخرجوني ما خرجت " . الهجرة منظومة تقوم على
تضحية : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد
في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) .
ثانياً : تقوم منظومة الهجرة على إعداد . وكلنا يعلم أن الهجرة أُعدّ لها
إعداداً دقيقاً استخدمت فيها التكتيكات والاستراتيجيات ، فرسول الله انتظر
الأمر الإلهي ، وهذا أساس في الإعداد ، نحن نُعِدّ بناء على أمر إلهي ، والله
عز وجل قال لنا : ( وأعدوا ) ، الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الإعداد
انتظر الأمر الإلهي أولاً ، ثم انتظر صاحباً أو حليفاً هو سيدنا أبو بكر ،
وثالثاً وضع له خليفاً هو سيدنا علي . الإعداد يقوم على الأمر الإلهي وعلى
اختيار الحليف والخليف ، فمَنْ حلفاؤكم أيها العرب ؟! واختيار المضيف فمن الذي
يستقبلك ؟ لقد هَيَّأ رسول الله من خلال الإعداد من يستقبله في المدينة المنورة
، فقد أرسل قبل الهجرة أناساً مبشرين ممهدين يخططون ، واختيار الطريق والمسار ،
وقد هاجر رسول الله عن طريق البحر ، مضحياً وباذلاً الجهد الكبير وهو في
الثالثة والخمسين من عمره . يقوم الإعداد على ربط الخليف والحليف والمضيف بالحب
لله تعالى ، فعليٌّ كان يحب أبا بكر ، وأبو بكر كان يحب علياً ، وأهل المدينة
كانوا يحبون أبا بكر وعلياً ، والكل كانوا مرتبطين بوشيجة الحب . أرأيتم إلى
النسيج العظيم الذي استقبل به أهل المدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
والذي معه :
طـلع البـدر عليـنا |
مـن ثنيـات الـوداع |
وجـب الشكـر علينا |
مـا دعـا لله داع |
أيـها المبعـوث فينـا |
جـئت بالأمـر المطاع |
جـئت شرفـت المديـنة |
مـرحباً يا خـير داع |
الهجرة منظومة تقوم على
التضحية والإعداد ، وهي مختصرٌ للإسلام وإسقاط مُكثَّف للإسلام على الأرض ،
وأُسقط تطبيقاً وتنفيذاً من خلال الهجرة ، لأن الإسلام تضحية وإعداد ، ورسول
الله أعدَّ .
ثالثاً : تقوم منظومة الهجرة على ثقة بالله . نحن نقول اليوم إن الأزمةَ أزمةُ
ثقة بالله ، وهذه الثقة تتجلى في أكثر من موطن في هجرة المصطفى صلى الله عليه
وآله وسلم ، ولا أدلَّ على ذلك من قول النبي الذي نستمتع بذكره حينما قال لأبي
بكر ، وقد قال له أبو بكر : يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى أخمص قدمه لرآنا ،
فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما . ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن
الله معنا ) ، ونحن نقول لإخواننا في فلسطين وحاشا ، أنا لا أقول لهم لأنهم
أكثر إيماناً مني ، فهم يقولون لنا لأنهم هم الذين يجاهدون ولأنهم يقدمون
التضحية والإعداد ، يقولون لنا : لا تحزنوا إن الله معنا ، أما نحن - كما في
اللغة العامية - ( دَعْوَجِيَّة ) ندعو الله فقط ، ولكن آمل أن يكون هذا الدعاء
قائماً على ثقة . إن إخواننا في فلسطين يقولون لبعضهم : لا تحزنوا إن الله معنا
وناصرنا ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، و ( وأفوض أمري
إلى الله إن الله بصير بالعباد ) .
أخيراً : منظومة الهجرة تقوم على المبدأ الحق . والإسلام حق ، ومن شك في
الإسلام فليقدِّم لنا هذا الشك عبر عبارات تليق بهذا الإنسان ، ولا نريد الشك
في عبارات شاتمة أو عبارات فيها فحشاء وتهكم ، أو عبارات تُدّلِّل على حقد في
هذا الشاك . وإذا كنتم تعتقدون - ونحن نعتقد - أن هذا القرآن من عند الله ،
وأنا أريد أن أُثبِّت هذا في أنفسنا قبل أن أثبته في نفوس الأمريكيين والغربيين
، فالله يقول : ( ورضيت لكم الإسلام ديناً ) فالهجرة تقوم على منظوم حق
والإسلام هو الحق ، ويا أيها الناس في الأرض كافة : إذا أردتم مبدأً حقاً
فعليكم بالإسلام ، أنا لا أقول عليكم بالمسلمين ، ولكن عليكم بالإسلام الذي
يُجَلِّيه القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمعطيات العامة
التي جاءت من خلال ما أفرزته الآيات والسنة المطهرة الشريفة - واسمحوا لي أن
أضيف عليها الصحيحة - لأننا لا نعترف على سُنَّةٍ غير صحيحة وهي ليست سنة ،
لكننا وقد كثر فينا من يذكر من السنة غير الصحيح حق علينا أن نقول السنة
الصحيحة .
منظومة الهجرة تقوم على التضحية والإعداد والثقة بالله والمبدأ الحق واعتناقه .
أخبرنا عن مبدئك الذي تعتنقه ، وعن قناعاتك المذهبية والمبدئية . هل أنت
مُتَحلِّل من أي مبدأ ؟ هل أنت إباحي لا تريد الالتزام بمبدأ ما ؟ نحن نطرح
عليك الإسلام ولا نطرح عليك المسلمين . فهذا أمر وذاك أمر آخر .
أسأل الله عز وجل أن يعيد علينا الأشهر الهجرية ، وليس السنة ، فنحن طامعون في
فضل الله وعطائه أن يعيد علينا الشهر تلو الشهر وقد تحققت آمالنا ، وقد انتفت
آلامنا ، وتحررت قدسنا ، وقد أبيد عدونا ، وقد تمحَّص الحق وظهر ، نرجو الله عز
وجل أن يعيد علينا الأشهر الهجرية وقد اتحد المسلمون ، فعليٌّ يحب أبا بكر ،
وأبو بكر يحب علياً ، وقد اتحد المسلمون في كل بقاع الأرض على ثوابت وأسس ، هذه
الثوابت هي : آمنت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن كتاباً ، وبمحمد
نبياً . هذه ثوابتنا . أسأل الله أن يعيد الأشهر الهجرية وقد اتحد المسلمون ،
ولديَّ رجاء وطلب إلى الحكام العرب وهاهم يُزمِعون الاجتماع في مؤتمر القمة
القادم ، أقول لهم : تذكروا الهجرة وأنها منظومة إسلامية ، تذكروا هجرة سيدكم
وسيدنا ، وحبيبكم وحبيبنا ، لأنكم مسلمون وعرب ، والعربي النظيف يحب محمداً
مهما كان دين هذا العربي ، لأن محمداً عربي عظيمٌ في عروبته ، لأن محمداً نبي
عظيم في نبوته ، لأن محمداً شخصية إنسانية عظيم في إنسانيته ، وهو مَحَكُّ
القلوب الطيبة فمن أحبه من القلوب فالقلب طيب ، ومن أبغضه فالقلب خبيث .
يا قادة الشعوب ، ويا قادة العرب : ضعوا نصب أعينكم أن الهجرة تقوم على تضحية
وإعداد وثقة بالله ومبدأٍ حق هو الإسلام ، اللهم كن معنا ولا تكن علينا ، وإذا
أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات