آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
خواطر من ذكرى الهجرة

خواطر من ذكرى الهجرة

تاريخ الإضافة: 2004/02/20 | عدد المشاهدات: 5429

أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :

أولاً : أتوجه إليكم وإلى العالم الإسلامي والعربي بالتهنئة بمناسبة حلول العام الهجري الجديد ، فغداً كما تعلمون ستبدأ السنة الهجرية الجديدة فكل عام وأنتم بألف خير .
وإذا كانت المناسبة تقتضي الحديث عنها لأننا إذ نتكلم على المنبر أو على غير المنبر لا بد من اقتناص الظروف والفرص للمساهمة في حديثٍ ينفعنا في الدنيا والآخرة ، فاللهمَّ إنا نسألك أن تجعل أوقاتنا مليئة بعمل يرضيك ، وقول يرضيك ، وحال ترضيك ، يا رب العالمين .
وقد قررت أن تكون خطبتي اليوم خواطر عن الهجرة .
الخاطرة الأولى : سنتنا الهجرية ارتبطت بفكرة ولم ترتبط بشخص من حيث ميلاده أو من حيث وفاته ، على عِظَم الأشخاص الذين نُقِرُّ بفضلهم وأفضليتهم ، إلا أن هذه السنة ارتبطت بفكرة الهجرة بشكل خاص ، تُرى ما الحكمة في أن ترتبط الأيام والشهور والأسابيع بفكرة وأن لا ترتبط بشخص ؟ من حِكَم هذا الأمر أن يفكر الإنسان دائماً ، في كل يوم من أيام هذه السنة ، أن يفكر وأن يدندن حول فكرة الهجرة ، وماذا تعني كلمة الهجرة ، فإذا ما استيقظت صباحاً فقل : اليوم هو العاشر أو السابع من محرم ، من صفر ، من ربيع الأول ، من العام 1425 من الهجرة ، هذه السنة التي عُنونت بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، عنونت بحركة وفكرة ، فماذا عليَّ أن أفعل حتى أُحقِّق الانتساب لهذه السنة ؟ عليَّ أن أهاجر . تهاجر من أين وإلى أين ؟ تهاجر من السيئ في الفعل والقول إلى الحسن في الفعل والقول ، وإذا كنت في حالٍ حسنة فهاجر من حسن إلى أحسن ، وهكذا ما للترقي انتهاء . في كل يوم آمل من جميع إخواني المسلمين أن يعيشوا الهجرة فكرةً تدفعهم وتُحرِّضهم على حركة إيجابية وليذكروا في هذا المقام على سبيل المثال ما قاله النبي عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في الطبراني : " إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " اقترب من الله ، هاجر من بعيدٍ عن الله إلى قريب من الله ، من قريبٍ من الله إلى أقرب من الله عز وجل ، وهكذا . يؤسفني أن أقول لنفسي ولإخواني بأن أبناءنا ، بأن تلاميذنا ، في غيابٍ عن معرفةِ أيام السنة الهجرية ، ولعلي قلت منذ عشر سنوات من على هذا المنبر أنني امتحنت طلاباً في الدراسات العليا في كلياتٍ نظرية من حقوق وشريعة ، سألت بعضهم من جملة الأسئلة : عدِّد لي شهور السنة الهجرية ، أصدقكم الحديث إن عدداً لا بأس به لم يعرف الأشهر الهجرية ، ولعله تَعرَّف على شهرين ونسي الأشهر الأخرى ، أو لعل بعضهم تذكر ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر ونسي الأشهر الأخرى ، أو أن بعضهم عرفها ولكن لم يعرف فيما إذا كان صفر قبل جمادى أو بعد ربيع الأول أو قبله ، هذا في ساحة الجهل بالنسبة له .
تلك ثقافة وهذا انتماء ، ولا يقولن أحد لي : وما الذي يهمني إن حفظت الأشهر الهجرية أو لم أحفظها ؟ أقول : هذه ثقافة الانتماء ، أنت تنتمي لمن هاجر ، أفلا يجدر بك أن تعرف السنة التي عُنوِنت بحركة هذا الحدث العظيم ، بهذه الفعلة الرائعة ، بالهجرة النبوية الشريفة .
الخاطرة الثانية : الهجرة في رأيي تبتدئ بتضحية وتنتهي بنصرٍ وفتح ، تبتدئ بتضحية ، والتضحية تقوم على أمرين : الأمر الأول على ابتعاد ومفاصلة قلبية بين المسلم وبين أعداء الله عز وجل ، الهجرة ابتعاد يعقبه إبعاد ، ابتعاد عمن عادى الله ورسوله ، ابتعاد قلبي ، ليس في قلبك مودة لمن حادَّ الله ورسوله ، ولو كانوا آباءك ، ولو كانوا أقرباءك ، مفاصلة قلبية ، لا تحمل وداً ولا قربى لمن عادى الله ورسوله ، لمن عادى الخير ، ابتعاد قلبي يُتوِّجه ابتعاد مكاني ، فالرسول عليه وآله الصلاة والسلام ابتعد وابتعد أصحابه قلبياً أو قلباً عن المشركين الذين اعتدوا على القيم والخير ، وقال لهم القرآن :
﴿  لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم المجادلة : 22 هذا الابتعاد القلبي تُوِّج بابتعاد مكاني ، ترك رسول الله مكة المكرمة ، وهي أحب بلاد الله عنده ، ابتعاد مكاني إلى المدينة المنورة ليأمن هو عليه وآله الصلاة والسلام مع أصحابه على دينهم ، على إيمانهم . روى ابن هشام أن صهيب الرومي عندما هاجر اعترضه أولئك المعتدون ، فقالوا له : أتيتنا صعلوكاً - وقد أراد صهيب أن يبتعد اقتداء بالنبي عليه وآله الصلاة والسلام وتنفيذاً لأمر النبي بالابتعاد المكاني والجسمي - قالوا له : أتيتنا صعلوكاً لا مال عندك فغدا عندك مال ، والله لا نتركك تخرج إلى المدينة . قال لهم : أرأيتُكم لو خليتُ بينكم ومالي ، وتركت مالي لكم ! قالوا له : هاتِ مالَك واخرج . والنبي عليه وآله الصلاة والسلام في المدينة المنورة أُوحِي إليه بما جرى مع صهيب ، فقال : " ربح صهيب " وفي رواية : " ربح البيع أبا يحيى " وكنية صهيب أبو يحيى . ابتعاد قلبي تُوِّج بابتعاد مكاني . جاء بعد الابتعاد إبعاد تكريماً من الله عز وجل لهذا الابتعاد القلبي والمادي أكرم الله أولئك المبتعدين بأن جعلهم قوة تُبعِد الشر وأهل الشر فعاد المهاجر عليه وآله الصلاة والسلام ومن معه إلى مكة المكرمة فاتحاً يحمل مقومات العدالة والحقيقة والخير ، ووقف أمام الكعبة المشرفة ومعه أولئك الذين هاجروا وابتعدوا بقلبهم وقالبهم عن الشرك وأهله ، عن الضغينة وأهلها ، عن الحقد وأهله ، عن كل ما يؤذي الإنسان ، عاد إلى مكة المكرمة ، والأصنام حول الكعبة فأمسك بعود وراح يوقع الأصنام على الأرض ويقول : ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً الإسراء : 81 لا أريد أن أَمُرَّ على هاتين الفكرتين مروراً عابراً ، لكني أتوجه إلى شبابنا : هل أنتم يا شبابنا في دواخلكم مبتعدون ومفاصِلون للجاهلية ، للفساد ، لما يؤذي إنسانيتكم ، لما يؤذي دينكم ، للظلم ، للتكبر ، للإسراف ، لكل ما يقضي على الطُّهر ؟ هل أنتِ يا فتاتنا تفاصلين في داخلك بين قلبك وبين كل المغريات التي تودي بالإنسان إلى الحضيض ، إلى الضياع ؟ فاصلوا في قلوبكم ، ومن هنا أتوجه إلى نفسي وإلى شبابنا من أجل أن يكون لهم ذكرٌ لله عز وجل ينبع من قلوبهم وعلى ألسنتهم ، ليكن لك ورد في كل يوم ، قل في كل يوم : اللهم أعني ، اللهم أكرمني ، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أن أُضَل ، أن أَزِل أو أن أُزَل ، أو أن أَظلِم أو أن أُظلَم ، أو أن أجهل أو أن يُجهَل علي . هذا الكلام كان يقوله سيد الكائنات عندما كان يخرج من بيته ، فهل تقوله يا أيها الطالب ، وهل تقوله يا أيها التاجر ، وهل تقوله يا أيها القاضي ، وهل تقوله يا أيها الجندي ، وهل تقوله يا أيها الحاكم ؟! قل : اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أن أضل ، فاصل في قلبك حتى إذا ما رأيت ضرورةً من أجل أن تفاصل بين جسمك ففاصل ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار هود : 113 فاصِل واترك ، ولا تخض مع الخائضين ولا تقعد مع اللاهين ، هاجر من سهرة فارغة ليس فيها إلا الإيذاء لإنسانيتك إلى سهرة فيها نفع لك في دنياك وأخراك ، هاجر من لقاء ليس فيه إلا الاعتداء على القيم إلى لقاء فيه حضٌّ على كل ما ينفع الإنسان ، وهكذا دواليك . الهجرة ابتعاد قلبي ، ومكاني ومادي يعقبه إبعاد ، يأتي الإبعاد فضلاً من الله عز وجل ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً النصر : 1-3 .
الخاطرة الثالثة : أقول لعلماء الاجتماع ولعلماء التربية : هيا انهلوا من تجارب البشر ، وهل هناك تجربة رائدة أقوى من تجربة من نسميه نحن سيد البشر ؟ لماذا لا ينهل علماء التربية وعلماء الاجتماع لماذا لا ينهلون من هذه التجربة الغنية ، وهم إن كانوا عرباً ، فمحمد سيد العرب وأفصح من نطق بالضاد ، وإن لم يكونوا عرباً فمحمد هو سيد من كرم الإنسان أياً كان هذا الإنسان ، هو الذي أُنزل عليه
﴿ ولقد كرمنا بني آدم الإسراء : 70 إن لم يكونوا عرباً فسيجدونه ذا تجربة غنية ثرية ، وإن كانوا عرباً فهو عربي تفوق عروبته كل العرب اليوم ، إذاً : لماذا يعرض علماؤنا في الاجتماع والتربية عن النهل من تجربة هذا النبي عليه وآله الصلاة والسلام ، ومن الهجرة بشكل خاص كحركة واعية للمبدأ المستقيم ، لماذا لا ينهل مثقفونا ؟ ألا ترون معي أن الحديث في منتدى اجتماعي أو في مدرج جامعي أو في لقاء عام أن الحديث في هذه الأمكنة عن هجرة النبي كدروس أضحى أمراً مستغرَباً ، وكأن المثقفين إن كانوا عرباً أو غير عرب سيقولون هذه محاضرة دينية وما علاقتنا بها ؟ يا أيها الناس رسول الله لكل إنسان . لا أقول هذا تقريراً ، ولكني أقول هذا الكلام من خلال خبرةٍ متواضعة . أيها المثقفون ، يا من تدرسون الشخصيات ، يا من تبحثون عن أولئك الذين أثَّروا في مجتمعاتهم . كنت أسائل نفسي هذا السؤال وأنا طالب في الجامعة ، وبعد الجامعة . بكل بساطة : لقد نجح أعداء الإنسان في إبعادك – بدلاً من أن تنجح في إبعادهم عن الشر - نجحوا في إبعادك عن الخير ، عن سيد الخير ، وأشعروك حينما تتكلم عن محمد عليه وآله الصلاة والسلام أنك تتكلم بتخلف ، لقد نجح أولئك ، ولعل هذا النجاح كان نتيجة لضعفنا إذ لم نبتعد بقلبنا وقالبنا عن الشر وأهله إذ لم نتخذ الموقف الصارم الحقيقي الجاد من الشر وأهل الشر ، ولذلك أصبحنا نهادِن ولا يهادنون ، ونجامِل ولا يجاملون ، ونتنازَل ولا يتنازلون ، أصبحنا في حال لا نُحمَد عليها ، يتكلم من يتكلم منا من غير أن ترصده الصحف والمجلات ، ويموت من يموت منا من غير أن يهتم به إعلام ، أما أولئك الذين ابتعدوا عن رسالة النبي ولا أقول ابتعدوا عن الإيمان بها ولكن ابتعدوا عن مناقشتها ، عن اتخاذها موضوعاً من موضوعاتهم رصدتهم . أنا لا أقول هذا نقداً للمجلات والإعلام ، ولكن أقول هذا ذِكراً للنتيجة التي وصلنا إليها وأنها كانت نتيجة لما قمنا به .
الهجرة دروس لمن أراد التضحية ، أو لمن أراد التحدث عن التضحية ، ففي الهجرة دروس عظيمة عن التضحية ، لمن أراد أن يتحدث عن الثقة بالله فالهجرة تحوي أعظم الدروس في الثقة بالله عز وجل ، ولطالما رددنا وباختصار ، وسنتحدث لاحقاً في الأسابيع القادمة عن بعض دروس الهجرة ، لكننا لا نَمَلُّ من ذكر ما سنذكر ، تلك الكلمة التي نحتاجها ونحن على مقاعد الدرس ، ونحن في السوق ، ونحن في مقارعة العدو ، ونحن نحتاجها في كل مكان ، إنها كلمة المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام لسيدنا أبي بكر عندما كانا في غار ثور ، وقال له أبو بكر يا رسول الله : نحن ملاحَقون ، وها هم الملاحِقون فوقنا ، ولو نظر أحدهم إلى أخمص قدمه لرآنا . قال له النبي عليه وآله الصلاة والسلام : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟!
﴿ لا تحزن إن الله معنا التوبة : 40 لنقل هذا لبعضنا ، لنقل هذا لأنفسنا ، لنكن واثقين بربنا ﴿ لا تحزن إن الله معنا التوبة : 40 لا تحزنوا يا أهل فلسطين إن الله معنا ، لا تحزنوا يا أيها المسلمون في كل مكان إن الله معنا ، ما ظنكم باثنين الله ثالثهما ، لأننا بحاجة إلى أن نقوي الثقة بربنا في قلوبنا ، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، وإلا قل لي بربك ما فائدة إيمانك إن لم يَحضّك إيمانك على الثقة بربك عز وجل . يا رب ليس لي إلا أنت ، وليس لي من معين إلاك إليك التجأت وعليك اعتمدت فلا تخيبنا يا رب العالمين ، لئن لجأ غيري إلى غيرك فأنا الذي لا ألجأ إلا إليك ، ولئن اعتمد غيري على غيرك فأنا الذي لا أعتمد إلا عليك ، ولئن لاذ غيري بغيرك فأنا الذي لا ألوذ إلا بك ، يا رب كن معنا ، وفقنا لعود حميد إلى دينك الرشيد ، إلى الإسلام من جديد ، وفقنا يا رب العالمين ، اجعلنا من الراشدين ، نعم من يسأل أنت

 ، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق