أما بعد : أيها الأخوة
المؤمنون :
سؤال نطرحه وهو كيف نخرج من مآزقنا ؟ كيف ننتصر على أخطائنا ؟ ما السبيل من أجل
أن يعود الأمل أكثر إشراقا في أفق قريب ؟ كلنا وبنسب متفاوتة يطرح على غيره
وعلى نفسه مثل هذه الأسئلة بين الفينة والأخرى ، ولعل خطبنا السياسية والدينية
والاجتماعية تصبُّ في مصب الإجابة عن هذا التساؤل لما نحن متأخِّرون ؟ لماذا
نحن هكذا وإلى متى سنبقى وراء الأمم مع أن ديننا الإسلام دين عظيم ، دين يرفع
من سوية الإنسان ، دين يحض على التفكير دين يحضُّ على النشاط والعمل ، دين يحض
على أن يكون الإنسان صاحب همةٍ عالية ، مع أن تاريخنا أيضاً ارتسمت فيه من خلال
التعاطي مع الإسلام جغرافيا رائعة كان فيها الإنسان سعيداً ، من خلال عيش فيه
كل مقومات السعادة . ويبقى السؤال يلاحق هذه الكلمات وهذه التصورات كيف نخرج من
مآزقنا ؟
كما قلت لكم : الخطب على اختلاف اختصاصاتها تتوجه للإجابة على هذا السؤال ،
فالسياسي يريد أن يجيب على هذا السؤال والمصلح الاجتماعي يسعى إلى أن يجيب على
هذا السؤال ، والذي يستلم سُدَّة المنبر يوم الجمعة في مساجدنا يسعى إلى أن
يجيب على هذا السؤال . والإجابات تكثر وتكثر لكنني أرى أن بالإمكان أن نعود إلى
شيء اسمه التركيز ليدلي كل منا برأيه ، وأنتم معنيون بالإدلاء بالرأي ، وأريد
من جميعنا أن يُدلي كل منا برأيه للإجابة على هذه التساؤلات ، وها أنا اليوم
أريد أن أقدم إجابةً مجملة ادع تفصيلها لكم وأدع تفصيلها للتفصيل فيه من خلالكم
الإجابة التي اقترحها .
كيف نخرج من مآزقنا ؟ هذا هو السؤال ، والجواب : أن نُحسن النِّسبة ، حَسِّنوا
النسبة بينكم وبين المهام التي أوكلت إليكم على ضوء قول المصطفى صلى عليه وآله
وسلم : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ، حَسِّنوا النسبة بينكم وبين ما أوكل
إليكم من مهام بِجِدٍ وأمانة ، وإذا أردنا شرحاً قلنا على سبيل المثال : أنت
أيها الحاكم حَسِّن النسبة بينك وبين مَهامك حاكماً بجد . ما الذي تتطلبه منك
مهام الحكم بجد . أنا أقول لك على سبيل المثال من أجل أن تتحقق وأن تتحسن
النسبة بينك وبين الحكم أيها الحاكم بجد : العدل والرحمة والأمانة والرقة
والرفق ، أتوجه بعد الحاكم - على سبيل المثال وكل ذلك على سبيل المثال ليس إلا
- أتوجه إلى التاجر لأول له : حقق النسبة بينك وبين المهام التي أوكلت إليك بجد
. بمعنى ماذا تتطلبه منك مهام التجارة لتكون تاجراً بجد وصدق ، أقول لك ما
يوصلك إلى تحقيق النسبة بجد : الأمانة والصدق والسماحة . انتقل إلى غير التاجر
إلى الطبيب : حقق النسبة بينك وبين الطب بين مهام الطب بجد ، ومن أجل أن تتحقق
النسبة لتكون طبيباً تشكل مع شرائح المجتمع الأخرى مجتمعاً عالياً متفوقاً
رفيعاً قوياً ، عليك أن تتحقق بالطب بجد من خلال التحلي بصفات الرحمة والعلم
والرفق والأمانة . انتقل إلى القاضي : حقق النسبة بنيك وبين القضاء بجد ،
وتتحقق النسبة بينك وبين المهام من خلال الاتصاف بالعدل والروية وبمراقبة الله
عز وجل . انتقل إلى الطالب لأقول له حقق النسبة بينك وبين طلب العلم بجد من
خلال الدراسة والتفوق والمتابعة . أنت أيتها الفتاة حققي بالنسبة بينك وبين
المهام التي أوكلت إليك ابنةً وأختاً وأماً ومُدَرِّسة ، وذلك من خلال التحلي
بصفات العفة والطهر والفضيلة والقيم ... وهكذا .
إن الإجابة على التساؤل الذي يرد على الألسن كافة يمكن أن نجيب عليه - لا أقول
كل الجواب ولكن يمكن أن نساهم في الإجابة عليه - والسؤال أعيده وأقول : كيف
نخرج من مآزقنا ؟ كيف نخرج من وهدة تأخرنا ؟ كيف نغادر تلك البؤرة التي اتخذت
أسماء استعاذ منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعجز والكسل ، كالجبن
والبخل ، كغلبة الدين وقهر الرجال ؟ كيف نغادر البؤرة هذه الموسومة بالجهل
والقهر ، الموسومة بالكسل ؟ نساهم ببعض الجواب لنقول حققوا النسبة بينكم على
اختلاف اختصاصاتكم حققوا النسبة بينكم وبين المهام التي أوكلت إليكم بجد والجد
يعني كما قلت صفات تناسب كل مهمة ، تناسب كل عمل ، والقرآن الكريم مليءٌ بذكر
هذه الصفات ، حتى إن هنالك بعض من علمائنا المعاصرين من كتب كتاباً بعنوان "
دستور الأخلاق في القرآن " وبيَّن الدستور الذي إن طبقته من حيث كونك طبيباً
كنت طبيباً وكنت رجلاً تليق بمجتمع إذا تحلى به الجميع كان مجتمعاً ناجحاً ،
كان المجتمع فاضلاً ، كان المجتمع قوياً ، كان المجتمع متقناً ، كان المجتمع
متطوراً .
أيها الإخوة : لقد قرأت منذ أيام وصية لسيدنا الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه
أحببت أن أضعها أمامكم وأن اقرأها عليكم وقد اختصرتها ، وهي موجهة من سيدنا
الإمام علي إلى مالك الأشتر والي الإمام سيدنا علي على مصر ومن خلال هذه
الرسالة أتوجه إلى الحكام المسلمين - وأنا حينما أتوجه إلى هؤلاء فلأننا نعيش
معاً وتحت قنطرة اسم تعني مبدأً مشتركاً - فمن فمك أدينك أنت أيها الحاكم أقول
: حقق النسبة بينك وبين الحكم بجد ، ويتحقق ذلك بالعدل وبالشورى وبالرأفة
وبالرفق ، بكل الصفات التي وجدت في عالم القيم لتكون لبوساً لك حينما تنوي
وتعزم على أن تكون صالحاً .
أيها الإخوة : أحببت أن أقرا عليكم رسالة الأمام علي عليه السلام إلى مالك
الأشتر يوصيه فيها - وهي صالحة أن نوجهها إلى كل الحكام - أَوَتريدون أن تكون
السياسية في عالمنا العربي والإسلامي سياسة ناجحة إذاً لاسيما وأنتم قد أوكل
إليكم مهامها إذاً عليكم التحلي بهذه الصفات ، وها أنا أقدم هذا المختصر للوصية
فلعلَّ ذلك يساهم ويسهم في تكوين زادٍ معرفي لا نريده أن يبقى في جعبة المعرفة
فقط ولكننا نريد أن يتحول من معرفة نظرية تكون في الجعبة إلى واقع عملي ، فإن
الحاكم - وهذا جواب على سؤال ربما يتبادر على أذهانكم - لماذا خصصتَ الحاكم ؟
أقول : لأن الحاكم - وكلنا يدرك ذلك - إذا صدق كان صدقه أكثر تأثيراً أو كان
لصدقة أثر كبير يفوق حجم التأثير من تأثير غيره ، " وإن الله ليزع بالسلطان ما
لا يزع بالقرآن " ومن كانت له دعوة فليجعلها للسلطان ، لأن خير السلطان أعم من
خير غيره ، ولأن شر السلطان أعم من شر غيره ، وإذا صلح السلطان توجه المجتمع
إلى الإصلاح وكان أكثر مصداقية في توجهه إلى الإصلاح . هي رسالة إلى الحكام
بشكل عام أو للحاكم العام ، لرؤساء الدول وهي بنفس الوقت رسالة للولاة
والمحافظين ولكل من يشغل منصب سياسياً يسمى من خلاله رئيساً أو والياً أو صاحب
سلطة .
يقول سيدنا الأمام علي : " أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا
تكن عليهم سبعاً ضارياً - وحشاً مفترساً تغتنم أكلهم - وإذا أحدث لك ما أنت فيه
من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم الله فوقك والى قدرته منك على مالا تقدر
عليه من نفسك . انصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوىً
من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده . إن
شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شاركهم في الآثام ، فلا يكونن لك
بطانة منهم فإنهم أعوان الأزمة وأخوان الظلمة ، ولا يكونن المحسن والمسيء عندك
سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على
الإساءة . أكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر
بلادك وإقامة ما استقام الناس قبلك وولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله
ولإمامك وأنقاهم جيباً ، وأفضلهم حلماً ، ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك
في نفسك ممن لا تضيق بهم الأمور ولا تمحقه الخصوم ولا تشرف نفسه على طمع ولا
يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، ثم انظر في أمور عمالك - محافظيك ، وُلاتك ،
مُدَرائك - ولا تولهم محاذاة وأثرة - لأنهم أقرباء ، لأنهم مقربون ، لأنهم
يمسحون لك جوخاً لا تفعل هذا - وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء ، ثم انظر في
حال كتابك - في وزراء التعليم والتربية والثقافة والإعلام - فولِّ على أمورك
خيرهم وأتقاهم لله ، ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات واستوصِ بهم خيراً .
واعلم أن في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً
بالمبيعات ، فامنع من الاحتكار وامنع من الاستغلال وإياك وتركهم يغشون . ثم
اللهَ الله في الطبقة السفلى المسحوقة الضعيفة الذين لا حيلة لهم من المساكين
والمحتاجين ، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم ، وتفقد أمور من لا يصل إليك
منهم وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ، واجعل لذوي الحاجات
منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً ، فتتواضع فيه لله الذي
خلقك ، ولا تُطِل احتجابك عن الرعية فإن احتجاب الولاة عن الرعية شُعبةٌ من
الضيق وقلة علم بالأمور . وإياك والدماء وسفكها بغير حلها ، ولا تقوين سلطانك
بسفك دم حرام فإن ذلك يضعفه ويوهنه بل يذله وينقله ، وإياك والإعجاب بنفسك
والثقة بما يعجبك منها ، وإياك وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان .
وإياك والمَنَّ على رعيتك بإحسان ، وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها ، وإياك
والاستئثار بما الناس به متساوون . اسأل الله أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة
وإنا لله وإنا إليه راجعون " علي بن أبي طالب .
هذه الوصية نريد نظرائها - وهو موجود في تاريخنا - من أجل أن يتحقق بمثل هذه
الوصية الناس حتى يحققوا النسبة بينهم وبين مهامهم بجد ، لأننا اليوم نشكو من
طبيبٍ لا يعرف بالطب ولا يتحقق بالطب ، ونشكو من شيخ لا يعرف من أصول الدين إلا
النزر اليسير ، وهو لا يَدَّعي كذلك بل يدعي الشيء الكثير ، نشكو من قاضٍ لا
يعرف العدل ، نشكو من جندي لا يعرف التقوى ولا يعرف القتال ويكيف يكون وأين
يكون ، نشكو من بائع لا يعرف النصح بل يعرف الغش ، لا يعرف الأمانة بل يعرف
الخيانة ، نشكو من طالب متسكع كسول لا يعرف الدراسة وإنما همه أن يتسكع أمام
باب المدرسة وهو يريد أن يتلقف الرذائل من هنا وهناك ، نشكو من امراة وفتاة
ضحَّت بعفتها ورَمَتها جانباً ولبست ثوباً لم ترتسم علية العفة على الإطلاق ،
بل يكاد العهر الرسم الوحيد عليه ، نشكو من أنصاف وكلمة أنصاف تعني الجهل
المركب ، نشكو من أنصاف في ميادين مختلفة في هذه الحياة ، لذلك لن نخرج من
مآزقنا إلا إذا أحسنا ، والله مع المحسنين ورسول الله دعانا فقال كما في صحيح
مسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتل وإذا ذبحتم
فأحسنوا الذبح وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرِح ذبيحته " أحسنوا النسبة بينكم
وبين مهامكم ، فطريق إحسان النسبة بينك وبين الحكم - أيها الحاكم - أن تتحقق
بمثل هذه الوصية ، والحمد لله أن ديننا من حيث المعرفة النظرية كما قال ربي تام
كامل لا نقص فيه ، ولا اعوجاج فيه ، ولا ضعف فيه ، فـ : ( اليوم أكملت لكم
دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .
أيها المجتمع على اختلاف ميادينه وعلى اختلاف ساحاته : أحسن النسبة بينك وبين
المهام التي تظهر من خلالها للمجتمع بجدٍ من خلال سلوك الطريق التي رسمها هذا
القرآن العظيم والتي رسمها سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ودَعم رسمها
ووضح حدودها وبَيَّن آفاقها النبي الكريم والصحابة الكرام وأهل بيته الأطهار ،
فإننا بحاجة إلى ذلك وهذا في النتيجة يحملنا على أن يحاسب كل منا نفسه لأننا
ومن جملة مستتبعات الأخطاء والمآزق أننا ذهبنا نحاسب الآخرين قبل أن نحاسب
أنفسنا .
هذا الذي قلت يجعلنا يحاسب كل منا نفسه ، ولذلك أكرر وأؤكد : حققوا النسبة
بينكم وبين مهامكم وضعوا من جملة من جملة ما تضعون ومن تضعون إخوانكم في فلسطين
أمام أعينكم ، إنهم حققوا النسبة بشكل رائع بينهم وبين الانتفاضة فكانوا
مجاهدين بجد ، حققوها من خلال التحلي بصفات المجاهدين التي ذكرها الإسلام - ولا
نزكي على الله أحداً - كانوا أقوياء ، والله أراد منا كذلك ، كانوا قليلاً من
حيث العدد ولكنهم كثير من حيث الإيمان ، هذه نماذج معاصرة حققت النسبة نرجو
الله عز وجل بإحسانها بتحقيق النسبة أن يعطيها النصر ، وأن يمنحها النصر على
عدوها ، إن ربنا على كل شيء قدير ، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك
ولعظيم سلطانك . نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت . أقول هذا القول واستغفر
الله .
التعليقات