أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون:
قلنا في مستهل خطبة الأسبوع الماضي: إن صفات المجتمع المسلم المنشود ثنتا عشرة صفة، وهي أنَّ هذا المجتمع يجب أن يكون مجتمع العبودية، ومجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجتمع الحرية، ومجتمع الشورى، ومجتمع العدل، ومجتمع التكامل والرخاء، ومجتمع التسامح، ومجتمع الاقتصاد المتوازن، ومجتمع العلم والمعرفة، ومجتمع الأخلاق والقيم، ومجتمع القوة والجهاد، ومجتمع التقدم والتطور. تناولنا بتفصيل غير ذي إسهاب ثلاث صفات للمجتمع في الأسبوع الماضي، تحدثنا عن مجتمع العبودية لله، وعن مجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن مجتمع الحرية، وكلي أمل أن يكون هذا الكلام الذي نسمعه موضوعاً في صفحة السجل الذي نفتحه في حياتنا لنطبق ما أودعناه فيه، كلي أمل أن لا يكون سماعنا لمثل هذا الكلام سماعاً عابراً لا يرجى منه تطبيق ولا يراد منه تمثيل. أقول هذا، لأنني وبصراحة، أحضِّر خطبة الجمعة وأرجو من ورائها أن نُكتَب عند ربي جلت قدرته من المتناصحين، المتباذلين، المتعاونين، المتضامنين، وإلا فالقضية كان بإمكانها أن تكون مختصرة جداً، وأن يكتفى بذكر آية كريمة من الذكر الحكيم وحديث نبوي شريف وينتهي الأمر.
إخوتي نحن مسؤولون، والمسؤولية تنتاب كل واحد منكم ومنا، وما أظن أن أحداً منكم ومنا منعتق من المسؤولية، فلا أريدك أن تأتي الجمعة من أجل أن تقوم بفض العتب أو برفع العتب كما يقال، لكنني أريدك في يوم الجمعة وأنت تأتي لحضور وسماع الخطبة أن تعتبر نفسك طالب علم، فإذا ما فعلت ذلك فاعلم بأن هذه السويعة التي تقضيها في سماع الخطبة وأنت تعتبر نفسك طالب علم، ستنال عليها في الدنيا قبل الآخرة، ستنال عليها في الدنيا تقدماً وتطوراً وتحسناً وازدهاراً، وستنال عليها في الآخرة أجراً وعطاءً وفلاحاً، ستُعتَبر إذ تستمع وأنت تنوي طلب العلم ستعتبر من المجاهدين، لأن طلب العلم جهاد، ستعتبر وأنت تستمع بنية طلب العلم من أولئك الذين تَحفُّهم الملائكة بأجنحتها رضاً بما تصنع، فهل تريد العدول عن هذا كله إلى مقام الضعف وشيء من الخذلان، وأنت تأتي لترفع العتب لا أكثر ولا أقل، الأمر تفعله، فافعله بنية قوية وعزم قوي ونصِّب هدفاً وغاية قويين أيضاً.
أعود إلى متابعة الحديث عن صفات المجتمع المسلم المنشود، وأكرر أننا تحدثنا في الأسبوع الماضي عن مجتمع العبودية لله ومجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجتمع الحرية، واليوم نتحدث عن مجتمع الشورى.
المجتمع الإسلامي يتصف بكونه مجتمعاً شورياً، مجتمعاً يشاور الأفراد بعضهم، مجتمعاً يتطلع كل فرد إلى ما لدى الآخر من الخبرة ليكتسبها ويفيد الناس منها، وهل الشورى إلا هذا. الشورى تطلعٌ إلى ما لدى الآخر من خبرة وعلم ومعرفة حتى تفيد من هذه الأمور، من العلم والمعرفة والخبرة، الشورى مشاركة الآخرين في آرائهم وفي عقولهم، وقد ورد عن سيدنا الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: "من شاور الرجال شاركهم في عقولهم".
الشورى صفة لمجتمعنا، فيا أخي قل لي بربك إن طرأ عليك ما طرأ فهل تشاور ؟ أم أنك حصرت الشورى في قضايا ما أظن أن الشورى في هذا نافعة، حصرت الشورى في دعوة ووليمة، وفيما تريد أن تطبخ، وفيما تريد أن تفعل من طعام وشراب، واقتصرت الشورى في الأسرة على هذه الأمور الشكلية التي لا تمتُّ في الأصل لا إلى عقل ولا إلى كثير علم أو فكر أو معرفة. أيها الرجل هل تشاور زوجتك فيما يتعلق في مستقبل أولادك ؟ أيها المرأة هل تشاورين زوجك فيما يتعلق بمستقبل عقلك وفكرك ؟ أيها الأولاد هل تشاورون آباءكم وأمهاتكم فيما يتعلق في أموركم التي تمسكم في حياتكم المعاشية بل وفي أخراكم ؟ أيها الجار، أيها التلميذ، أيها الأستاذ، أيها المدرس: أصبحت المشاورة والشورى محصورة في قضايا لا قيمة للعقل فيها، ولا مجال للتفكير فيها، هي عبارة عن قضايا لا تستلزم إلا شميم عقل أو شيئاً بسيطاً جداً من التفكير، شاور أيها الأخ المسلم، اسمع قول الله عز وجل فيما وصف المستجيبين لربهم ولرسول لربهم فقال: ﴿والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون﴾ المستجيبون لربهم يتصفون بصفات هي: إقامة الصلاة ثم أمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، فهل أنت في أفعالك مشاوِراً ومشاوَراً، وأريد من المسلمين أن يشاور بعضهم بعضاً من غير نظر إلى منصب أو حالة مادية، أنت تحتاج إلى أن تشاور فلاناً لأن فلاناً يمتلك خبرة في الأمر الذي تريد المشاورة فيه لكنَّ هذا الشخص فقير، شاوره ولا يمنعنك فقره من أن تشاوره. هذا الشخص لا منصب له شاوره ما دام يمتلك القدرة الفكرية والخبرة في هذه القضية، شاوره ولا يمنعنك كونه لا يملك منصباً من عدم مشاورته.
أصبحت المشاورة ممالأة، أنت تشاور العميد واللواء والوزير والرئيس.. لا طمعاً في حصولٍ على خبرة أو معرفة ولكن تريد أن تتقرب منه على حساب القضية التي تريد مشورة فيها، يقول ربنا جلت قدرته وقد أمر نبينا الموحى إليه بالشورى فقال: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ الشورى مأمور الله لنبيه الموحى إليه، هو موحى إليه، مع ذلك مأمور أن يشاور الناس، فما بالنا ونحن لا يوحى إلينا بل إننا بعيدون عن الوحي الإلهي وعن الوحي الإنساني فما بالنا لا نشاور ؟
أخيراً فيما يتعلق بالشورى أقول وأحدد صفات من تشاور بالإضافة إلى كونه مختصاً في الأمر المدروس الذي تريد أن تشاوره فيه.
ليكن هذا المشاوَر من أولي الأحلام والنهى، من أصحاب سَعة الصدر وقوة الفكر إضافة إلى الاختصاص الذي يملكه والذي يناسب الموضوع الذي تريد أن تشاور فيه، لعل قائلاً يقول: من أين أخذت هذا ؟ أقٌول: قرأت، وأنا صغير، حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء في صحيح الإمام مسلم كان النبي يقف في الصلاة ويقول: (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى) أن يقف أقرب إليك أصحاب سعة الصدر وأصحاب قوة الفكر، ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، وهنا أقول: ليلني منكم في هذا الأمر الذي أريد أن أشاور فيه أولوا الأحلام والنهى بالإضافة إلى الاختصاص المبحوث فيه والمدروس، هذا مجتمع الشورى بشكل مختصر.
الصفة الثانية التي نريد أن نتدارسها معاً: أن يكون المجتمع مجتمع عدل، والكلمة كبيرة جداً، وكبيرة جداً جداً علينا، نحن الأمة التي افتقدت العدل فيما بينها، نحن الأمة التي ضيعت العدالة في سراديب الملذات، في تُرَّهات الملذات والمنافع الشخصية، نحن الأمة الآن من ننتسب للعدل انتساباً شكلياً لكننا في حقيقتنا ظالمون، وأول ما نظلم ومن نظلم أنفسنا، ومن باب أولى نحن ظالمون لغيرنا، المجتمع المسلم مجتمع عدل، والعدل أولاً يجب أن يكون مع كل الناس، أتريد أن تتعرف على نفسك فيما إذا كنت عادلاً أو لا، انظر هل أنت عادل مع من تحب كما أنك عادل مع من تكره ؟ هل أنت تخرج عن العدل لصالح من تحب ؟ وهل أنت تخرج عن العدل لصالح نفسك عندما تكون مع من تكره ؟ قرأت آيتين في كتاب الله عز وجل وكأن الله يريد من وراء هاتين الآيتين ألا نميل ميزان العدل بالحب والكراهية، الآية الأولى من أجل ألا نميل ميزان العدل بالحب يقول الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين﴾ لا يريد الله أن نميل ميزان العدل بحب، ولا يريد الله أن نميل ميزان العدل بكراهية فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ المجتمع المسلم مجتمع عدل، والعدل لكل الناس هذا أمر أول فيما يخص العدل، العدل لكل الناس، وأمام كل الناس، لا نفرق في الحكم بالعدل بين أنفسنا وبين من نحب وبين من نكره، الكل سواء في ميزان العدل.
ثانياً: العدل هو غاية الرسالات وغاية المبادئ، وغاية المذاهب والأحزاب حسب النظر وحسب ما يخططون، إن سألت الرسالة الإسلامية من خلال أصحابها، ما غاية الإسلام ؟ الجواب: تحقيق العدل. إن سألت نصرانياً: ما غاية المسيحية ؟ الجواب: تحقيق العدل. إن سألت اليهودي: ما غاية اليهودية ؟ الجواب: تحقيق العدل. إن سألت الأحزاب الشيوعية كذلك، الرأسمالية، الأحزاب الأرضية، فالجواب: تحقيق العدل. الله عز وجل أقرَّ هذا الأمر فقال: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ ليتحقق العدل، لكن الجواب هكذا تقولون يا أصحاب الرسالات ويا أصحاب المذاهب ويا أصحاب الأحزاب ويا أصحاب المبادئ تقولون ولكن القول ليس له اعتبار إذا كان الفعل ينافره ويجافيه، على كلٍ: نحن نعرض الإسلام ولا نعرض المسلمين، ونقول بأن الله وضع غاية لإرساله الرسل هذه الغاية هي ﴿ليقوم الناس بالقسط﴾ هذه الغاية تحقيق العدل.
ثالثاً: العدل في القول وفي الفعل والحكم، ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾، ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾.
رابعاً: كل الناس مطالَبون بالعدل، أنت مطالب بالعدل، أنت أب أنت مطالب بالعدل، أنت أستاذ أنت مطالب بالعدل، أنت حارس أنت مطالب بالعدل، أنت رئيس من باب أولى أنت مطالب بالعدل، فالناس كلهم مطالبون بالعدل، بدءاً من أعلى منصب وانتهاءً بأدنى منصب، ولا حظوا أنني أقول أعلى منصب ولا أقول من أعلى إنسان فالمناصب لا تجعل الإنسان عالياً، وإنما المناصب تجعل المسؤولية موسَّعة، أنا أتحدث عن المنصب، العدل مطالب به كل الناس بحسب مناصبهم وبحسب المساحات التي يشغلونها، لا أريد أن أكرر على مسامعكم، لكن من باب الذكرى أريد أن أضع في أذهانكم وآذانكم الكلمة العظيمة التي يرويها الصحيحان: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ضع هذا في ذهنك أيها الحاكم، وضع في ذهنك هذا أيضاً أيها القاضي، وضع هذا في ذهنك أيها الأستاذ، أيها الضابط، أيها الأب، أيها الشيخ، أيها المسؤول وكلكم مسؤولون: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
خامساً: العدل يفرز مساواةً بين الناس، الناس سواسية أمام الحاكم فيما يخص الحكم لا فرق بين هذا وهذا، لا فرق بين قريب وبعيد، الحكم سيأتي بعدل وإنصاف، هنالك رسالة أتمنى لو أن المحامين والقضاة والمثقفين قرؤوها بتمعن، هذه الرسالة هي رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، وهي رسالة جد مشهورة ومعروفة، فيها معايير العلاقة بين القاضي والحاكم، الحاكم الذي لم ينصب حاكماً من قبل الدولة وإنما نصب حاكماً من قبل الله، فأنت حاكم في بيتك، وأنا حاكم في مسجدي وبيتي ووظيفتي، وكلنا حكام من هذه الحيثية، يقول فيما يقول سيدنا عمر: "آسِ بين الناس -أي سوِّ بين الناس- في وجهك ومجلسك وقضاءك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك".
أخيراً: أذكر لكم قصة يذكرها الطبري في التاريخ ويذكرها سواه، وإن كنت لا أحب القصص حتى لا نتعلق بالتاريخ وبالماضي وننسى الحاضر لكن لا بد من ذكر بعض العبر أحياناً. لما دخل قائد عمر بن عبد العزيز قتيبة سمرقند رفع أهل سمرقند شكوى إلى عمر، هذه الشكوى تقول: يا أمير المؤمنين لقد دخل سمرقند قتيبة من غير إيذانٍ لنا ولا إنذار، دخلها هكذا فاتحاً وها هو قد احتل سمرقند فهل ترضى بهذا يا عمر ؟
رد عمر الشكوى إلى القاضي، جيش المسلمين يدخل سمرقند، أهل سمرقند يشتكون إلى خليفة المسلمين، -نتكلم ونحن نشعر بالصَّغار، وكما قلت لكم وأيم الله لا أريد أن أتحدث كثيراً عن التاريخ لأنني أخاف منكم ومن نفسي أن نتكئ على التاريخ ونتابع طريق الكسل والخمول لكن لا بد أحياناً من الإشارة– رفع هذه الشكوى أهل سمرقند، فحول عمر بن عبد العزيز هذه الشكوى إلى القاضي المسلم، وإذ بالقاضي يحكم، من القاضي إلى عمر بن العزيز خليفة المسلمين: دخول المسلمين سمرقند أمر غير مشروع، والحكم أن يخرج المسلمون من سمرقند.
قاضٍ جريء لا يخاف إلا الله، وقاضٍ لا يخاف اليمينيين ولا اليساريين، قاضٍ لا يتطلع إلا أن يرضي ربه، قاضٍ لا يحسب حساب أولئك الذين دخلوا ولم يكن ليخاف منهم، أما اليوم فالخوف من كل أحد يقبع في داخلنا، هو يخاف ممن يحملون السيف اليوم أن يقول لهم إن تصرفكم غير صحيح فأهل السيف يُعملون سيفهم فيه لذلك يخاف ويقول لهم: أنتم على حق، حتى وإن كان قلبه يعلن ويردد بالنبض أنهم على الباطل، لكن القاضي آنذاك قال لعمر: دخول المسلمين لسمرقند ظلم، ويجب أن يزال الظلم، وعلى المسلمين أن يخرجوا. فكتب عمر إلى قتيبة جواباً بشكل حازم حاسم: اخرج من سمرقند ومن معك من المسلمين. سمع أهل سمرقند بهذا الذي جرى فقالوا: أمة عادلة بهذا الشكل الذي سمعنا إنها لأمة تستحق أن تكون حاكمة وتستحق أن تكون علينا وتستحق أن نوليها علينا، لا تخرجوا رضينا فيكم.
بالله عليكم كم اليوم من الدول الغربية يقولون للمسلمين نريدكم أن تبقوا ولا تخرجوا ؟ أعتقد أن كل الدول الغربية يقولون لنا اخرجوا لا نريدكم لأنكم تسببون لنا المشاكل وتستخدمون العنف والقسوة... ما أعتقد أن منطقة اليوم في العالم تريد للمسلمين أن يكونوا عندهم، هذه حالة معروفة، لكن أهل سمرقند يرون العدل يطبق في كل المناحي التي ذكرناها قالوا للمسلمين نريدكم ولاة علينا لأن العدل سمتكم ، والعدل غاية الناس على الإطلاق.
أيها الإنسان الظالم أذكرك بحديث يرويه الإمام مسلم: (اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) وفي رواية في مسند الإمام أحمد: (اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) كم ذا ظُلمنا من بعضنا وكم ذا ظَلمنا غيرنا.
اللهم إني أسألك أن تجعلنا ممن يبغون العدل في كل أمورهم قولاً وفعلاً وحكماً وحركة وسلوكاً، يا رب العالمين، تولنا يا إلهنا وارحمنا فإنك أنت الغفور الرحيم، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ: 20/7/2007
التعليقات