|
أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
وإذ نطلب وننشد مجتمعاً سليماً قويماً نُحسُّ بضرورة تفقد مكوناته ومفرداته ،
ومفردات المجتمع ومكوناته : فرد ، وأسرة ، وجماعة تتجلى بشكل دائرة أو ومديرية
ومؤسسة . كنا قد تكلمنا في الأسبوع الماضي عن مكون للمجتمع أو عن خلية هامة
جداً هي الأسرة ، وقلنا ونحن الذين نفتخر بأننا في مجتمعاتنا الشرقية نمتلك
مكونات أسرة ناجحة ، إلا أنه وللأسف الشديد نجد أن خلايا المجتمع التي هي الأسر
اقتحمها الخراب والدمار ، وكما قلنا في الأسبوع الماضي تكاد نسب الطلاق ترتفع
شيئاً فشيئاً ، وتكاد العلاقات ضمن الأسرة الواحدة تتفكك وتصاب بشلل ، ولعل ذلك
كان نتيجة غياب شعور الإنسان الفرد الذي يكوِّن طرف الأسرة بعدم المسؤولية عن
هده الأسرة . بعبارة أخرى نسي أفراد الأسرة واجباتهم وراحوا يطالبوا بحقوقهم من
غير أن يعرفوها ، ولئن سألتهم عن الحقوق التي يريدون الحصول عليها أجابوك بأنهم
لا يمتون إلى مصدر علمنا ، إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة بِصِلَة .
تحدثنا عن واجبات الزوج من أجل أن يسعى للقيام بها تجاه زوجته ، وعن واجبات
الزوجة من أجل أن تسعى للقيام بها تجاه زوجها ، واليوم وبإجمال ننتقل للحديث عن
واجبات الأبناء نحو آبائهم ، أعني واجبات الأولاد من ذكور وإناث نحو آبائهم
وأمهاتهم ، فإن قلنا واجبات الأبناء فإنما ذلك من باب التغليب ونعني به واجبات
الأبناء والبنات نحو الآباء أيضاً من باب التغليب ونعني به نحو الآباء والأمهات
.
إذا ما تحدثنا عن واجبات الأبناء نحو الآباء ، فسنتحدث عن واجبات الآباء نحو
الأبناء ، وآمل أن يكون ذلك بداية تعرف جاد ليُتبَع بممارسة جادة من أجل أن
نتلافى هدا الذي أصاب أُسَرَنا من تفكك وتشرذم وضياع وتَلاشٍ ، حتى تعود لأسرنا
ألقها ووضعها الصحيح ، ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن مجتمع وصَفه النبي عليه وآله
الصلاة والسلام بالجسم الواحد : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .
واجبك نحو آبائك - أي نحو أمك وأبيك - واضح في كتاب الله عز وجل ومختصر بكلمة
واحدة البر ، والبر اسم جامع لكل صنوف الخير ، وإذا فَصَّلنا بعض الشيء من أجل
ذكر عناوين تبقى في الذاكرة متوناً أي كمتون قلنا : إن واجباتك نحو أبيك وأمك
هي :
طاعتهما ، مصاحبتهما بالمعروف إن كانا غير مؤمنين ، الدعاء لهما حَيَّين كانا
أم ميتين ، التذلل لهما . قال ربنا عز وجل ونحن نقرأ هذه الآيات
﴿
وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر
أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً . واخفض
لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً
﴾
الإسراء : 23-24
جمعت هذه الآية كل صنوف البر من طاعة ومصاحبة بالمعروف ودعاء وتذلل ، قال ربنا
عز وجل أيضاً : ﴿
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي
ولوالديك إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما
وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إلي مرجعكم فأنبئكم
بما كنتم تعملون ﴾
لقمان : 14-15
ولئن كنا نحتفل أو يحتفل المسيحيون بميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام رسول الله
وكلمته ألقاها إلى مريم ، فإن سيدنا عيس النبي الرسول قال فيما يخص بره بوالدته
: ﴿
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً . وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً
﴾
مريم : 31-32
وأنا ألفت عناية المواطنين المسيحيين قائلاً لهم : نحن مشتركون في أن عيسى رسول
الله ونبي الله ، ولئن تفردتم في تصور آخر فآمل أن يكون هذا التصور الذي لا
نقره موضع حوار متفاهم بيننا وبينكم
﴿
وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً . والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم
أبعث حياً ﴾
مريم : 31-32
ويقول عليه وآله الصلاة والسلام ، وتذكروا يا أيها الأبناء ذكوراً وإناث
واجباتكم تجاه آبائكم وأمهاتكم : طاعة ، مصاحبة بالمعروف ، دعاء ، تذلل . قال
عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في البخاري وقد سأله ابن مسعود : يا رسول
الله : أيُّ العمل أحب إلى الله ؟ قال : " الصلاة على وقتها " وأغتنمها فرصة
لأنادي شبابنا بالصلاة والحفاظ عليها ، قلت : ثم أيّ ؟ قال : " بر الوالدين "
قلت : ثم أيّ ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " بعد بر الوالدين . ويروى أن
جاهِمة ، وجاهمة صحابي ، جاء - كما في مسند الإمام أحمد - جاء إلى النبي عليه
وآله الصلاة والسلام وقال يا رسول الله : أريد أن أستشيرك في الجهاد معك - أريد
الجهاد معك - قال له : " هل أحد من أبويك حي ؟ " وفي رواية - ورسول الله كأنه
علم بتعليم الله – " ألك أم " : قال : نعم . قال : " فالزم رجلها فإن الجنة تحت
قدميها " يا أبناءنا مهما كانت أعماركم : أين التذلل مع الآباء والأمهات لقد
أضحينا نرى الولد نداً لأبيه ، لهجته كلهجته ، يناديه الوالد يا فلان باسمه ،
فيجيبه الولد أيضاً باسمه نعم يا فلان أو بكنيته أحيانا ً، ويظن أنه يريد أن
يكون أَرْيَحِيَاً مع والده أو والدته . أريد أن أركز على التذلل . أين التذلل
حينما يقف الولد أمام والده أو والدته يكلمه ، والرائي لهما لا يقول هذا كلام
والد لولده ، والناظر إليهما لا يقول هذا كلام ولد لوالده لما يحتوي عليه هذا
الكلام من تكبرٍ لا طعمَ له ، من كلام لا يدل على قلبٍ منكسر أمام قلب الوالد
والوالدة . أنا أسمع أولاداً ينادون آباءهم بالحجي تعال يا حجي ، كيف حالك يا
حجي ... وهكذا ، إن لم يناده أيضاً يا أبا فلان وكأن هذا الولد يشعر - وقد أضحى
في سن متقدمة – وكأنه قد كبر عن أن يقول لوالده يا أبت ، أو يا بابا ، كأنه
أضحى كبيراً على هذه الكلمة ، أهو صغير حتى يقول لوالده يا أبتِ ! ولا سيما وأن
هذا الولد درس وتعلم وحمل شهادة الطب أو الصيدلة أو الحقوق وأن والده لا يحمل
شيئاً ، أيقول له يا أبت ، أيقول له يا بابا ، أيقول له يا روحي ! هذه كلمات
للصغار ، أما الكبير فهو ند لوالده . لا يا هؤلاء ، بر الوالدين سر النجاح ،
وأغتنمها فرصة لأقول : إن من بر الوالدين أن تبر وطنك ، أن تبر أرضك ، لأن
الأرض بالمعنى المجازي أم ، فالأرض أم ، والذين يخونون أوطانهم بفجور وفسوق
هؤلاء ليسوا بارين بآبائهم ولا أمهاتهم ، الذين يخونون أوطانهم بابتعادهم عن
خير آتٍ من الله هؤلاء ليسوا بارين بآبائهم ولا أمهاتهم ، البر بالوطن من البر
بالوالدين لأن الوطن أم ، أولسنا نقول حسب التعبير المجازي : الأرض أمنا ، أين
برنا بأرضنا ، أين عملنا ، أين تطويرنا زراعتنا وصناعتنا ، أين شغلنا ، أين
حرصنا ، أين تآخينا ، أين توادنا ، أين تراحمنا ، أين رعايتنا ، أين رعاية
المسؤول لأفراد الناس ، ونحن مع الأرض نشكل أماً لكل فرد فينا ، كلنا أم لكلنا
، هكذا يجب أن نفهم بشكل أو بآخر .
أما واجبات الآباء والأمهات نحو الأولاد ، ولعل أيضا ًبعض الآباء والأمهات في
تناسٍ لهذه الواجبات ، ينتظرون حقوقهم تعطى من قبل أولادهم ، وينسون واجباتٍ
تصدر عنهم نحو أولادهم ، وأول هذه الواجبات الرحمة ، وثانيها الإنفاق ، والرحمة
، والإنفاق ، والتأديب ، والعدل ، والدعاء . خمسة واجبات .
الرحمة : جاء في البخاري أن رجلاً يسمى الأقرع بن حابس جاء إلى النبي عليه وآله
الصلاة والسلام فوجده يقبل الحسين ، وفي رواية يقبل الحسن . قال هذا الرجل : يا
رسول الله : إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم ! فالتفت إليه النبي عليه
وآله الصلاة والسلام وقال : " أَوَأملك إن كان الله قد نزع من قلبك الرحمة " إن
كانت الرحمة قد نزعت من قلبك ، " أَوَأَملك إن كان الله قد نزع من قلبك الرحمة
، من لا يرحم لا يرحم " .
الواجب الثاني الإنفاق : ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود :
" كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول " وفي رواية " أن يضيع من يقوت " يأتيني
بعض الأبناء يقولون إن آباءهم أغنياء ، إلا أنهم لا يشعرون بعطاء وإنفاق واجب
على الآباء نحو الأبناء ، لا ينفق عليه ، يقول الأب أو الوالد : أولادي أعدائي
، لا أريد أن أعطيهم ، لا أريد أن أنفق عليهم . لا يا أخي ، لا أيها الأب ، لا
أيتها الأم .
الواجب الثالث التأديب : التأديب الذي هو إنفاق معنوي ، انتبه إلى أدب ولدك ،
يروي البيهقي أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام قال : " ما نَحَل والد من
نُحْلٍ أفضل من أدب حسن " ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما في سنن ابن ماجه
: " أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم " أحسنوا أدبهم ، نحن نرى - كما كان يقول لي
بعض شيوخنا - نرى في الشارع أولاداً عليهم سِمَة – اعذروني إن قلت هذا – عليهم
سِمَة قلة الأدب ، نقول : وهل هؤلاء إلا أولاد هؤلاء ، الذين يأتون إلى المسجد
، والذين يأتون إلى الجامع ، والذين يحضرون الدرس . عندما نقول للدولة : إن
هؤلاء الموظفين يسيئون . أوليس الموظفون أبناء الدولة فأين عمل الدولة نحوهم ،
وأين عمل الآباء وتأديب الآباء نحو أولادهم ، هؤلاء الذين نراهم في الشارع
يَتَسَّكعون إن هم إلا أولادنا ، إن هم إلا أولادكم ، يتسكعون هنا وهناك أمام
كل محفل فاسد ، من هم ؟ إن هم إلا أولادنا ، ما الذي جرهم إلى تلك الأماكن ؟
غياب الشعور بالمسؤولية عن تأديبهم من قبل الآباء " أكرموا أولادكم وأحسنوا
أدبهم " .
الواجب الرابع العدل : يروي الترمذي أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام كان مع
أصحابه ، وكان من بين هؤلاء رجل فدخل عليه ولده الذكر ، ابنه ، فقبله ووضعه في
حجره ، ودخلت عليه ابنته الأنثى ، الصغيرة ، فأجلسها بجانبه ولم يقبلها ولم
يضعها في حجره ، فالتفت إليه النبي غاضباً وقال : " ما عدلت بينهما " العدل بين
الأولاد ، نريد أن يتجَسَّد العدل عند الآباء ، إذا كنا نطالب الدولة بالعدل
فيجب أن نتدرج في تطبيقه في أسرنا ، في دوائرنا ، في معاملنا ، يا رب العمل كن
عادلاً مع عمالك ، يا أيها الأب ، يا أيتها الأم ، ... وهكذا دواليك .
الواجب الخامس الدعاء : ادع لأولادك
﴿
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً
﴾
الفرقان : 74
ادع لأولادك صباح مساء في صلواتك النافلة وعقب صلواتك الفريضة ، قل : اللهم
ردهم إلى دينك رداً جميلاً ، اللهم أحسن أدبهم ، اللهم اجعلهم مواطنين صالحين ،
قل هذا في صلواتك في كل لحظاتك ، لأن الدعاء من الوالد لولده مقبول عند الله
ومجاب . هيا فادع لأبنائك وذريتك ، ليس فقط لأبنائك الصلبيين ، ولكن لكل ذريتك
: ﴿
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً
﴾
الفرقان : 74
.
أسأل الله عز وجل أن يوفق أُسَرَنا من أجل أن تكون خلايا متينة ليتكون منها
مجتمع متين ، أسأل الله أن يوفقنا لتعامل إسلامي بَنَّاء في علاقاتنا ، في
أُسَرِنا ، ولنلتفت إلى ذلك بجد ونشاط لأننا إن لم نَعِ التغيير نحو الأفضل ،
فسينتابنا التغيير نحو الأسوأ وسيعلو في الأرض المفسدون ، إن لم نكن مسابقين
ومسارعين إلى الخير . لنا لقاء مع الأسرة أيضاً في منحى آخر حتى نعي هذه الخلية
عناية ووعياً تاماً ، أو وعياً قريباً من التمام ، ونسأل الله أن يوفقنا من أجل
أن نحوِّل ما نسمع ، ما نقرؤه ، ما نعرفه ، ما نعلمه إلى واقع ، اللهم وفقنا
لذلك ، نعم من يسال أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات