أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون
الصائمون :
ما أعظمَ رمضان وما أجملَ رمضان ، وما أحرانا على أن نكون على مستوى رمضان ،
على مستوى شهر الصيام ، على مستوى شهر القرآن ، وحين أقول ما أحرانا فمن أجل أن
نتحقق بصفات هذا الشهر ، فصفاته كلها رائعة جميلة . شهر رمضان هو شهر المواساة
، شهر الصبر ، شهر الأمان ، شهر الجهاد ، شهر الأخوة ، شهر اغتنام الفرص ، شهر
العلم والمعرفة ، شهر كل الفضائل والقيم ، شهر كل المحاسن والآداب والأخلاق
الحميدة . لذلك حينما أطالب نفسي وإياكم أن نكون على مستوى شهر رمضان فإننا
نتوجه إلى أنفسنا من أجل أن نكون متصفين ولو بالقَدْرِ القليل بهذه الصفات .
أدعو نفسي وإياكم إلى أن نقف كل مَغْرِبٍ عند الإفطار لنرى فيما إذا كنا قد
تحققنا ببعض هذه الصفات إلى أن ينتهي رمضان ، ففي اليوم الأخير وفي العشر
الأواخر علينا أن نقف مع أنفسنا لنرى فيما إذا كنا صابرين ، فيما إذا تحققنا
بصفة شهر رمضان التي هي الصبر ، وفيما إذا كنا محسنين ، وفيما إذا كنا متقين ،
وفيما إذا كنا مجاهدين ، وفيما إذا كنا إخوةً متضامنين متعاونين متباذلين ،
وفيما إذا كنا متعلمين وعالمين وقرأنا وعرفنا وتعلمنا ، فيما إذا كنا من أهل
القرآن فعشنا مع القرآن الكريم تلاوةً وقراءةً وتدبراً وهكذا ..
يا أيها الشهر الفضيل : أنت شهر الجهاد لأن بدراً كانت فيك ، وبدر هي يوم
الفرقان ، وسأتحدث عنها سرداً في الأسبوع القادم إن شاء الله . يا شهر رمضان
أنت شهر الجهاد فيك غزوة الفتح ، وهي أهم غزوة وأهم فتح فيك ، وفيك الفتح التي
هي الفتح العظيم ﴿
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
﴾
الفتح : 1
فيا إخوتي يا أيها الصائمون : تحققوا بالجهاد ، ولا أريد أن أكرر ما قد قلته
سابقاً ، لكنني أقول : " من لم يغزُ " كما جاء في صحيح الإمام مسلم " من لم يغز
أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " فنحن الآن وإن كنا لا نغزو
فعلياً أو عملياً فلا أقلَّ من أن نحث أنفسنا إذا ما نادنا منادِ الجهاد لنكون
جاهزين ، نقول لهذا المنادي الذي ينادي باسم الله : يا خيلَ الله اركبي . لبيك
يا ربنا إلى جهادٍ نَفِي بوعدنا فيه معك لأنك اشتريت منا يا ربنا :
﴿
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
﴾
التوبة : 111
فمن لم يغزُ أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق . ولا أقلَّ أيها ألأخ
المسلم الصائم من أن تدعو لإخوانك المجاهدين ، من أن تدعو لإخوانك فسيُكتَبُ
ذلك تحديث نفسٍ بالغزو ، إذا دعوتَ لإخوانك المجاهدين عند الإفطار وفي السحور
وما بينهما فأرجو اللهَ أن تُكتَب عنده من الذين يُحدِّثون أنفسهم بالغزو .
أدعو الله أن ينصر إخواننا في فلسطين وأن ينصر إخواننا في العراق وأن يدحر
الصهاينة المجرمين والأمريكيين الفاسدين إِنْ في فلسطين أو في غير فلسطين ، إن
في القطاع أو القدس أو في بغداد أو في الفلوجة أو في أي مكان . فاللهم نسألك
نصراً للمسلمين يا رب العالمين .
رمضان أيضاً شهر الأخوة . خطر ببالي أيها الأحبة الصائمون أن الإسلام جعل
للرضاع أخوة ، فإذا ما رضعتَ مع إنسانٍ ما ولو مَصَّة ، ولو قَطرة ، ولو أقلَّ
من قطرة كنت أخاً لهذا الذي رضعتَ معه ، وكنت ابناً لهذه الذي رضعتَ منها ،
أفلا يجدر بنا أيضاً أن نتحقق بأخوة الصيام ، والصيام رَحِمٌ ، لأنك تشتركُ مع
أخيك في الامتناع عن الطعام والشراب والمُفَطِّرات من الفجر وإلى المغرب . هذا
أخوك الذي بجانبك يمتنع عن الطعام والشراب كما تمتنع . إذاً فكِّر في أخوته
وفكر في بناء جسورٍ بينك وبينه ، وقل بينك وبين نفسك هذا أخي ، عَقَد أخوتي معه
الله عز وجل حين قال :
﴿
إنما المؤمنون إخوة
﴾
الحجرات : 10
هذا أخي ، فاللهم وفق أخي وادعو له
كما تدعو لنفسك ، لأن المؤمنين كاليدين تغسل أحداهما الأخرى ، ولأن المؤمنون
متضامنون هكذا يحبنا ربنا أن نكون ، ويوم القيامة سينادي ربنا كما جاء في
الحديث الصحيح : " أين المتحابون فيَّ ، أين المتزاورون فيّ ، أين المتعاونون
فيّ ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي " شهر الأخوة . قرأتُ البارحة
عبارةً لسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد شكا إليه عامله معاوية بن
الحارث شكا إليه بعض المسلمين فأجابه عمر رضي الله عنه فقال له : يا هذا انصح
أخاك ، ولكن إياك وكراهيته ، إياك والحقد عليه ، إياك ومعاداته ، فوالله لرجلٌ
من المسلمين أحبُّ إليَّ من الروم وما حَوَت . هل تقول هذا لأخيك : لأنتَ يا
أخي أحبّ إلي من غير المسلمين وما جمعوا ، أم أنك تذهب تُقطع أوصار الأخوة بينك
وبين أخيك على أقل سبب ، وتنسى مشتركاتٍ بينك وبينه ، تنسى أنه صائم كما أنت
صائم ، وتنسى أنه يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله كما أنت تقول ، وتنسى يا
أخي أنه يقرأ القرآن كما تقرأ القرآن الكريم ، وأنه يصلي وأنه يوحد الله كما
تفعل أنت ، ولربما كان في عمله هذا الذي ذكرناه كانَ أفضلَ منك ، ومن يدري يا
هذا ؟ شهر رمضان شهر الأخوة تلتقي مع أخيك في صلاة التراويح وتلتقي معه في صلاة
الفجر وتشترك معه في الصيام ، وبعد ذلك تعرض عنه وتسيء إليه ، وبعد ذلك تحمل
عليه ، وبعد ذلك تؤذيه وبعد ذلك .. وبعد ذلك..
﴿
فماذا بعد الحق إلا الضلال
﴾
يونس : 32
.
ثالثاً : شهر رمضان شهر الثبات . انظروا كيف يعلمنا رمضان الثبات ، لأنك تصوم
ثلاثين أو تسعةً وعشرين يوماً ، تصومُ اليومَ بعدَ اليوم من غير انقطاع ، وهذا
ما يعلمنا الثبات على الحق ، فرمضان شهر الثبات على الحق ، على المبدأ السليم .
تصوم اليومَ الأول والثاني والثالث ولربما مللتَ ولكن ربك يقول لك صم أياماً
معدودات ، صم شهر رمضان حتى تتعلمَ الثبات على الحق ، على محبة الله ، حتى
تتقلد خُطَى الثابتين على هذا الدين الحنيف ، خُطَى المُضَحِّين من أجل رفعه
كلمة الله التي هي الكلمة القويمة المستقيمة . كلما ذكرتك يا أيها الصحابي يا
زيد ، وهذا زيد بن الدَّثِنه كما جاء في السيرة النبوية لابن اسحاق ولابن هشام
عندما أَسَرَه المشركون وأرادوا صلبه ، وكلكم يعلم القصة لكنها درسٌ وأعظِم بها
من درس في الثبات على الحق ، في الثبات على محبة الله ومحبة رسوله ، يقف أمامه
أبو سفيان وقد رفع زيد رضي الله عنه من أجل أن يُصلَب لا لشيءٍ إلا لأنه قال
ربي الله ، ورسولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقف أمامه أبو سفيان وقال :
يا زيد - وليتصور كل واحد منا أنه مكانه وأنه على الحال التي كان عليها زيد ،
فماذا سيقول ؟ هل سيقول كما قال زيد بن الدثنة هذا - يا زيد : أتحبُّ لو أن
محمداً هذا الذي اتبعتَه مكانك يصلب وأنك في بيتك آمن ؟ نظر إليه زيد وقال -
وما أروع هذه الكلمة التي رُبِّينا عليها ولكننا لم نتأثر بها كثيراً وأسأل
الله أن نتأثر بها وأن تكون دَيْدَناً لنا في حياتنا - نظر إليه زيد وقال : يا
هذا ، والله ما أحب لو أني في بيتي آمن ، وأن محمداً يُشاكُ بشوكة في يده .
التفت إليه أبو سفيان وقال : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً !
فهل ستقول يا أخي مثل هذا الكلام لو أنك كنت مكان زيد ؟ اللهم اجعلنا كذلك يا
رب ، اللهم اجعل شبابنا يفتدون إسلامهم بأرواحهم ، بأموالهم ، اللهم اجعل
شبابنا ومثقفينا وكلنا يا رب يفتدون دينهم ، يفتدون توحيدهم ، يفتدون قرآنهم
بهذا الذي سمعنا عن زيدٍ وعن سواه .
رمضان شهر اغتنام الفرص ، فرصه كثيرة إن فاتتك فرصة فلن تفوتك الفرصة التالية .
جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُحضِر له المنبر في
رمضان ، فلما ارتقى الدرجة الأولى قال : آمين ، ثم لما ارتقى الدرجة الثانية
قال : آمين ، ثم لما ارتقى الدرجة الثالثة قال : آمين . ثم خطب ، ثم نزل ققيل
له : يا رسول الله كنتَ تُؤَمِّن فمن الذي كان يدعو ؟ فقال : " عَرَضَ لي جبريل
فقال يا محمد بَعُدَ مَن أدركَ أبويه أو أحدهما فلم يُغفَر له . قل آمين فقلت
آمين . ثم قال يا محمد : بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له قل آمين فقلت آمين .
ثم قال يا محمد بَعُدَ من إذا ذكرتَ عنده فلم يصلي عليك قل آمين فقلت آمين .
بَعُدَ من أدركَ رمضان فلم يغفر له لأن رمضان فيه فُرصٌ كثيرة الفرصة الأولى
جاء في صحيحي البخاري ومسلم : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر ما تقدم
من ذنبه " هذه فرصة ، وفرصة ثانية جاء في الصحيحين : " من قام رمضان إيماناً
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " فرصة ثانية ، وفرصة ثالثة : " من قام ليلة
القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه " فرصة رابعة : " من قام ليلة
العيد أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب " فرصٌ كثيرة في رمضان فإن فاتتك هناك
فرصة فاحرص على أن لا تفوتك فرصة ثانية وثالثة ، ولئن كنت مقصراً في فرصة فاسعَ
لأن لا تفوتك الفرصة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة فـ " من أدى
فريضةً في رمضان كان كمن أدى سبعين فريضة فيمن سواه " اغتنموا فرصة رمضان بما
ذكرنا ولكن ليس بالطعام والشراب ، لا تغتنم الفرص بالطعام والشراب وضياع الوقت
والتيه وقلة المعروف وتضييعٍ لزمن اؤتمنت عليه من قِبَل ربك ، فكلنا مؤتَمنون
على زمننا ، على عصرنا ، على عمرنا ، على وقتنا ، وهكذا .. أرأيتم يا إخوة !
حدثتكم عن صفاتٍ لرمضان . ولو وقفتُ أعدد صفاته كلها لطالَ بنا المطال ، ولكننا
ذكرنا هذا ليكون الأمر أنموذجاً أو عَيِّنة كما يقال وتابعوا أنتم المسير ،
تابعوا أنتم الاطلاع ، فأريدكم أن تتعلموا في رمضان ، فمن تعلم في رمضان مسألة
كان له ثواب تعلم سبعين مسألة في غير رمضان ، لأننا كما قلنا وروينا عن سيدنا
رسول من أدى فريضة في رمضان كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، والعلم فريضة
، طلب العلم فريضة على كل مسلم ، فهل تتعلم يا أخي في رمضان من مائدة القرآن أو
من القرآن الكريم من دون أن نسمي القرآن مائدة ، فكفانا حديثا عن موائد ، فهل
تتعلم يا أخي شيئاً من القرآن الكريم في كل يوم هل تتعلم من القرآن الكريم
آياتٍ تتدبرها كلَّ يوم . أسأل الله ذلك لأنك في تعلمك من القرآن الكريم تقتدي
بسيد المرسلين ، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدارسه ، أي يدرس
معه ، يدارسه جبريل القرآن في رمضان أكثر منه في غير رمضان في كل يومٍ يدارسه
القرآنَ ، مرتين : ﴿
لا تحرك لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه
﴾
القيامة : 16
فيا أخوتي : لنتعلم في رمضان ولنقرأ السيرة في رمضان ولنقرأ الأحاديث في رمضان
ولنشتغل بالدراسة يا أيها الطلاب في رمضان ، فرمضان مبارك ، اللهم بحق رمضان
تقبل منا صيامنا واجعلنا من عتقائك من النار ، اجعلنا من عتقاء شهر رمضان
وأدخلنا الجنة من باب الريان بسلام ، واحفظ بلادنا وادحر عدونا وأَعِد إلينا
مقدساتنا يا رب العالمين يا مجيب السائلين ، حسبي الله ونعم الوكيل ، نعم من
يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول واستغفر الله .
التعليقات