أما بعد ، أيها الإخوة
المسلمون :
سألني بعضهم – والسؤال دائماً يحرّك ويحرِّض ويعبر عن حاجة فكرية معينة في نفس
السائل ، وفي نفس عدد لا بأس به يشابه وضعهم وضع السائل – سألني بعضهم عمن
يسمون بالدعاة ، ما مقومات الداعي إلى الله ، وما صفاته ؟ وهل يصلح الإنسان
المسلم بشكل عام من أجل أن يكون داعياً إلى الله ، أم لا بد من شروط يجب أن
تتوافر في هذا الذي يدعو إلى الله عز وجل ؟ أجبته ، وها أنا أعيد الجواب عليكم
طمعاً في فائدة تنتشر ، وأملاً في تمتع بصفات تذكر . قلت له أولاً :
ليست الدعوة إلى الله حكراً على أحد ، وليست الدعوة إلى الله عز وجل نافلة من
النوافل ، بل الدعوة إلى الله عز وجل واجبة على كل مسلم يقدر استطاعته ، وإذا
أردنا أن نذكر شروط الداعي قلنا :
- أولاً : يجب أن يكون الداعي إلى الله على علم بما يدعو إليه . وتعلمون أن
ربنا عز وجل قال : ( ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم
لقطعنا منه الوتين ) . الصفة الأولى والمقوم الأول أن يكون عالماً بما يدعو
إليه ، أي أن يتحدث عن الإسلام بتوثيق وتحقيق ، وأن لا ينسب إلى الإسلام ما ليس
منه إن بدافع خيِّر أو بدافع ما سوى ذلك . يجب أن يكون متأكداً من أنه يدعو إلى
دين الله ، إلى دين صحيح النسبة إلى شرع الله عز وجل . وتعلمون أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال كما جاء في صحيح الإمام مسلم : " من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رَدٌّ " ولا نريد أن نحدث في الإسلام ما ليس منه – كما قلت – إن
بنيةٍ طيبة أو بغير ذلك ، فهو رد علينا ، ن الإسلام تامٌ كامل ، لا يحتاج إلى
إضافات منا ، ولا يحتاج إلى زيادةٍ خيّرةٍ منا ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ، لا نريد قصة لا أصل لها ، ولا نريد
حديثاً ضعيفاً ، ولا نريد أرقاماً لا وجود لها ، ولا نريد تقريبات عاطفية لا
مستند لها ، وإنما نبتغي من الداعي إلى الله أن ينقل عن هذا الدين بأمانة ، وأن
يستشعر مراقبة الله عز وجل له من غير زيادة ولا نقصان ، ولنعلم جميعاً أن تحليل
الحرام كتحريم الحلال ، من حلًّل حراماً كمن حرّم حلالاً ، ولهذا يجب أن نؤكد
على هذا الشرط وهذه الصفة وذلك المقوم ، واعذروني إن قلت ذلك لأننا بدأنا نرى ،
أو كنا نرى منذ زمن غير قليل وإلى أيامنا هذه بدأنا نرى من يدعو إلى الإسلام –
وإن كنا لا نشك في حسن نيته – لكنه يدعو إلى إسلام من غير توثيق ولا تحقيق ،
ومن غير تثبت ، ومن غير امتلاك ناصية ، ومن غير قوة في الحديث والنسبة والإشارة
والإلحاق ، لهذا نُصِرُّ ونلح ونؤكد على هذه الصفة .
- ثانياً : من صفات الداعي إلى الله أن يكون رحيماً ، مُوَطَّأ الأكناف ، سهل
الجانب ليّنه ، وتعلمون أن ربنا عز وجل قال : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو
كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ، ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما
جاء في السنن : " إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون
أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " .
- ثالثاً : أن يستشعر الداعي مسؤوليته التكليفية في دعوته ، فهو لا يمارس هواية
، وإنما يمارس واجباً ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ، ( ومن
أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إني من المسلمين ) هو يمارس
أمراً تكليفياً ، ولا يمارس – كما قلت لكم – هواية ، ذاك هوايته الدعوة ، وذاك
هوايته أن لا يدعو هذا ، هذا أمر غير مقرّ عليه في شريعتنا ، هذا أمر مرفوض ،
أن يستشعر الداعي – وكلنا معني بالدعوة بحسب مساحته ، وبحسب ما يمتلك في صدره ،
وبحسب قدرته ، كلنا معنيون وعلينا أن نستشعر مسؤوليتنا التكليفية .
- رابعاً : على الداعي أن يتقن فنّ الدعوة وأن يتقن أساليبها ، أن يتعلم من سيد
الدعاة محمد بن عبد الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وعليه أن يكثر من
قراءة أولئك الدعاة ، أن يكثر من قراءة قصص الأنبياء ، من قراءة السيرة النبوية
الشريفة ، ومن قراءة حياة الصحابة ، وسيرة آل بيت رسول الله الأطهار حتى يتقن
كما قلت لكم فنَّ الدعوة ، حتى يتصل برموزها ، وإلا لماذا جاء القرآن بأحاديث
كثيرة وبذكر مطول على الأنبياء ، والله عز وجل قال لنبيه في أكثر من موطن (
واذكر في الكتاب إبراهيم ) عيسى ، موسى ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك
ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ) وفي القرآن الكريم سورة تسمى سورة
القصص ، وأخرى تسمى سورة الأنبياء ، وأخرى تدعى سورة نوح ، وخامسة سورة هود ،
وهكذا ، كل هذا من أجل أن يتعلم المسلم من هؤلاء الأنبياء ، من لقمان الذي
اختُلف فيه ، هل هو نبي أم لا ؟ والله ذكره ، وأنا أميل إلى أنه ليس بنبي ،
فالله ذكره ليقول للإنسان المسلم : اقرأ سيرة الدعاة من أنبياء وأولياء وصالحين
، وتعلّم منهم ، ولن ننسى في هذه المناسبة ما قاله سيدنا لقمان حسب ما جاء في
كتاب إحياء علوم الدين للغزالي : " يا بني ! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ،
فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء " .
- خامساً : على الداعي أن يكون مطبقاً لما يدعو إليه ، وقد نستصعب هذا الشرط ،
لذلك أقول : أن يكون الداعي مطبقاً أو جاداً في تطبيق ما يدعو إليه ، صادقاً في
تطبيق ما يدعو إليه ، أن يكون في داخله صادق التوجه للتطبيق أو لتطبيق ما يدعو
إليه ، إن قلت أن يكون مطبقاً لما يدعو إليه فذاك أمر شاق ، والله لا يكلف
نفساً إلا وسعها ، لكني أقول أن يكون صادقاً في تطبيق ما يدعو إليه ، وعلينا أن
نعلن في دواخلنا وأن نسرَّ فيها ، وفي نفس الوقت لنقول لربنا في حالنا وقالنا :
اللهم وفقنا وبصدق لتطبيق هذا الدين الحنيف ، اللهم وإن كنا مقصرين لكن تقصيرنا
ليس عن صدق توجه ، لكن صدق توجهنا يأتي على ما نريد أن نطبقه على ما يرضيك يا
رب العالمين .
- سادساً : أن يكون صابراً ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك
) ، ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) أن يكون صابراً متحملاً ، لأن الإنسان
الداعي سيتحمل في سبيل دعوته وسيبتلى ، وابتلاؤه هذا سيدفعه للإصرار على مثابرة
الدعوة ، وسيدفعه للإصرار على أن يكون ملتحقاً بالنبيين الذين هم أشد بلاء : "
أشدكم بلاءً الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل " إذا ابتليت فاصبر ، فذاك علامة على
أنك إن شاء الله في دعوتك إلى الله مقبول عند الله عز وجل ( أحسب الناس أن
يتركوا أ، يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله
الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) . أن يكون صابراً ، وأن يكون مع صبره واثقاً
بنصر الله . نقول لإخواننا في كل مكان : ثقوا بنصر الله ، ثقوا بفضل الله ،
ثقوا بعطاء الله ، فالداعي والمجاهد وإن كنا نتحدث عن الدعاة نتحدث عن مشاريع
مجاهدين ، عن مشروع مجاهد ، كل داعٍ هو مشروع مجاهد ، لأن الداعي في حال السلام
مجاهد حال الحرب ، لا نريد أن نتحدث عن دعاة ليكونوا بعيدين أو منفصلين عن
المجاهدين ، فالمؤمنون والدعاة والمجاهدون هم هم أنفسهم ، لكن المؤمن يدعو حيث
يستلزم الأمر الدعوة ، ويجاهد حيث يستلزم الأمر القتال ، وهكذا المؤمن جاهزيته
شاملة كاملة وليس عندنا في هذا المقام من يتفرغ للدعوة باللسان والكلام حتى إذا
ما نادى منادي الجهاد أو القتال : يا خيل الله اركبي ذهب إلى بيته وقال : ليس
دوري الآن وأنا في عطلة إلى أن تتكشف الحرب أو المعركة أو القتال ، عندها سأعود
إلى سدة الدعوة باللسان والكلام . هذا غير موجود وغير مقبول ، فالمؤمن مشروع
داعية ، والداعية مشروع مجاهد ، والمجاهد مشروع منتصر أو مشروع شهيد ، والشهيد
مشروع فائز عند الله ، مشروع حيعند ربه يرزق . نغتنم الفرصة لنقول لإخواننا في
فلسطين : صابرون أنتم ، واثقون بالله أنتم إن شاء الله ، فأنتم دعاة وأنتم
مجاهدون لأنكم تدعون إلى الله ، وبوركت كل أعمالكم التي تعبر عن جهاد وقتال
لعدوٍ شرس ولفساد يريد أن يعم ولسرطان معنوي يريد أن ينتشر في جسم الأمة
الواحدة . بورك جهادكم وعملياتكم الاستشهادية ، وليس ثمة فصل بين عملياتكم
الاستشهادية المباركة وبين دعوتنا إن كنا دعاةً أو إن كنا مشروع دعاة، ندعو إلى
الله عز وجل ، فليكن إذاً الداعي صابراً وواثقاً بنصر الله وبفضل الله ، وكلنا
يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لآل ياسر : " صبراً آل ياسر ، فإن
موعدكم الجنة " ويروي الطبراني أن المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام جاء مرة
وقد عاد من سفر ، وكان من عادته أنه إذا عاد من سفره مرّ أولاً ببيت السيدة
فاطمة رضي الله عنها ، فعاد في إحدى المرات من سفر له – وقد كان هذا السفر في
سبيل الله بلا شك – ففتحت له الباب ، ولما رأته بكت . فقال لها : " ما يبكيكِ
يا فاطمة ؟! " قالت : يا أبتاه ! أرى وجهك قد اصفرَّ ، وثيابك قد اخلولقت فأبكي
. فيجيبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " أي بنية ! لا تحزني ، فإن الله
مانع أباكِ " سينصر أباكِ ، إنها الثقة بالله القائمة على تحقيق شروط هي من عند
الله ، فمن فعل كذا نال كذا ، والرسول عليه وآله الصلاة والسلام فعل كذا ، فعل
الشروط فعلاً ، فهو متقن لا ريب ولا شك في إتقانه على الإطلاق ، " يا بنية ! إن
الله مانع أباكِ ، والله ما من بيت من شجر أو مدر أو حجر إلا سيبلغه هذا الأمر
حتى يبلغ – أي الإسلام – ما بلغ الليل ولانهار " سيبلغ الكرة الأرضية كلها .
- سابعاً : على الداعي أن يكون مخلصاً ، وهذا شرط في كل مجال نذكره ، لأن الله
هكذا سن سنناً كونية تكليفية ، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً
وابتغي به وجه الله . الإخلاص للداعية . أيها الإخوة : قرأت في كتاب إحياء علوم
الدين عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذه القصة هي تعبير عن مدى مراقبة أولئك
العظماء رضي الله عنهم لخلجاتهم ، لتحركات قلوبهم ، كان سيدنا ابن عباس يدرس
الناس مرة ، وإذ به في منتصف الدرس يلملم ما أمامه من أوراق مصنوعة بحسب ذلك
العصر ، ويقول نقف هنا ، وحين يسأل عن السبب يقول : أُخذنت من حيث لا أدري . إن
نفسي برت عليَّ فالآن أنهي الدرس . لقد أحس بأن شيئاً ما ولو كان بسيطاً أصاب
الإخلاص المتكامل عنده فلذلك أنهى الدرس . أخلصوا أيها الدعاة ، أخلصوا لربكم (
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) أيها الداعي ! لا تبتغي إلا وجه
الله ، ولا تتوجه إلا إلى الله ، ولا تكن دعوتك إلى الله سبيلاً للتكسب أو
للحصول على منصب أو للتقرب من حاكم ، فإني أنصح نفسي وأنصحك لتكن دعوتك تقرباً
إلى الله ، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، ولست عبد أحد
سواك ، وأنا عبدك وعلى عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك
بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . نريد للدعاة
، وكلنا دعاة بشكل أو بآخر ، بنسبة أو بأخرى ، بميدان أو بآخر أن نكون صادقي
التوجه لله ، أن نخلص في دعوتنا ، أن يكون لاله همَّنا ، أن يكون الله مقصدنا ،
أن يكون الله مرادنا ، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ، وكما نكرر في الدعاء
نكرر الآن : لإن لجأ غيري إلى غيرك فأنا الذي لا ألجأ إلا إليك ، ولإن اعتمد
غيري على غيرك فأنا الذي لا أعتمد إلا عليك ، ولإن لاذ غيري بغيرك فأنا الذي لا
ألوذ إلا بك ، خلصني لك يا رب ، لا أريد أن أتوجه إلى سواك ، ولا أريد أن أعتمد
على سواك ، ولا أريد أن أتَّكل على سواك ، ولا أريد أن أبتغي إلا وجهك ، فيا رب
الإخلاص ويا رب المخلصين ارزقنا الإخلاص في أقوالنا ودعوتنا وأعمالنا ، اللهم
جنبنا الرياء في كل ما نقول ، في كل ما نعمل ، اللهم اجعل همنا أنت يا رب
العالمين ، واجعلنا نصدق التوجه غليك ، أنت ربنا وأنت ملاذنا ، نعم من يسأل أنت
، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات