آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الضعف العابر لا يغير الحق الثابت

الضعف العابر لا يغير الحق الثابت

تاريخ الإضافة: 2001/08/31 | عدد المشاهدات: 4740
 

الحقوق ترفض الالتصاق بمن يفرط بها ، وتأبى الانتساب إلى من يتساهل بها أيضاً ، ومن تهاون بحقوقه نزعت منه ، وأخذها سواه : ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم . ومَن تهاون في الشبهات ففعلها جاء يومٌ وقع فيه في الحرام ، ومن تهاون في المندوبات فتركها جاء يوم ترك فيه الواجبات . 
إيّانا والتهاون ، إيّانا والتساهل الذي يودي إلى فعل حرام وترك واجب ، وأحب أن أتوجه بهذه الخطبة بالذات إلى المربّين من أساتيذ وشيوخ وآباء وأمهات لأقول لهم جميعاً : لا نريد تربية تهاونيّة - وأعني بالتهاونيّة السلبية - لا تعلِّل ولا ترضَ من ولدك أن يتهاون في الشبهات ويفعلها ، لأنه سيأتي يوم يقع فيه في الحرام ، ولا تدع طالبك ولا ولدك يتهاون في المندوبات ليتركها فسيأتي يوم يترك فيه الواجبات . لا أريد أن أعطي أمثلة على هذا ، لكني - أيها الإخوة - وباعتبار أن الهاجس الأكبر قضية فلسطين أقول لكم : انظروا كيف أنا تهاونّا في حقوقنا ، فجاءت أيام صرنا نرضى بالحد الأدنى من هذه الحقوق ، والحقوق قوية بذاتها ولا تحب الصلة إلا بالأقوياء ، ومن لم يكن قوياً فرَّت من ساحته الحقوق ، وتزاحمت على بابه أنصاف الحلول التي لا تجعل من صاحبها شخصية متناسقة منسجمة ، وإنما تجعل منه شخصية مهزوزة . أقول هذا ونحن بحاجة ماسة إلى أطفال وأبناء ، إلى تلاميذ وطلاب يقفون أقوياء بحقوقهم ، لا يتهاونون ولا يتنازلون ، يقفون أمام الشبهات ليعلنوا عزوفهم عنها ، ويقفون أمام المندوبات والمستحبات ليعلنوا فعلها وارتباطهم بها ، فالمندوبات سياج الواجبات ، ومن قصر في السياج قصر في ذات الأمر المسيَّج ، وكذلك الشبهات سياج الحرام ومن دخل السياج في أمر ممنوع وصل به الأمر إلى أن يصل ذات الأمر الممنوع . أتوجه إلى جميعنا لأقول حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتفق عليه : " إن الحلال بين ، وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمىً ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" القلب عضو أهم ، ولذلك سُيِّج بقفص صدري ، وباحتياطات ، لأنك إن قصرت في السياج انتاب التقصير القلب ذاته ، وإن حافظت على سياج القلب كان أولى بك أنك تحافظ على القلب . 
أيها الإخوة : منهاج الإسلام واضح ، لا تهاون في الشبهات ، في فعلها حتى لا نقع في الحرام ، ولا تهاون في المندوبات في تركها حتى لا نترك الواجبات ، وكما قلت لكم : الحديث واضح ، وفي رواية أخرى : " إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيّن " ، يروي البخاري ومسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة فأخذها بيده وقال: " لولا أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، لأن الأنبياء لا يأكلون الصدقات ، خشي أن يكون هنالك احتمال أن تكون من الصدقات فعدل عنها ، إنه احتياط وحسم وقوة بالارتباط بالحق ، النبي لا يأكل الصدقة هذه قضية حقَّة في حقِّهِ ، فلذلك تعامل معها بقوة ، لم يتنازل عن هذا الأمر الذي ارتبط به صلى الله عليه وآله وسلم . 
يروي الإمام أحمد أن رجلاً يدعى وابصة جاء إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا وابصة تسألني أم أخبرك ؟ قال : بل أخبرني يا رسول الله . فقال يا وابصة : جئت تسأل عن البر . قال : بلى يا رسول الله . فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " البر ما اطمأنت إليه نفسك ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ، استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك " ، استفتِ قلبك ، ابتعد عن الشبهات ، إذا وجدت أنك تلجلجت في هذا الأمر فدعه واتركه ، وإياك والاقتراب من الشبهات ، لأني أؤكد أن الاقتراب من الشبهات يعني الاقتراب من الحرام ، وأن الابتعاد عن المندوبات ابتعاد عن الواجبات ، عن الفرائض والمطلوبات ، وهذا هو سيد الكائنات يوصي سبطه سيد الشباب الحسن فيقول له : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ما كان فيه شك فدعه إلى ما لا شك فيه ، ما كان فيه أدنى عدم ارتياح في داخلك فدعه إلى ما ترتاح إليه ، فالمؤمن الذي يستمد راحته من الله عز وجل بطريق الدعاء ، وطريق اللجوء إلى الله ، وطلب المعونة ، وهيهات أن يطلب قلبك معونة وأن لا يستجيب ربك ، دع ما يريبك إلى ما لا يربيك . يروي كتاب حياة الصحابة أن غلاماً لأبي بكر رضي الله عنه جاءه بطعام ، فلما أكله الصديق رضي الله عنه سأل الغلام - وأنا أريد أن يسأل كل واحد منا أخاه وولده من أين اكتسبت هذا حتى إذا ما رآه قد اكتسبه بشبهة نبّهه ، فإن لم يتنبه قاطعه ، لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ، قل لولدك ووالدك وللجميع من أين هذا ، وليس بالضرورة أن يكون هذا السؤال بأسلوب وقح ، بل يجب أن يكون بأسلوب طيب عظيم - يسأل أبو بكر غلامه : من أين اكتسبت هذا ؟ قال: ثمن كهانة - إنه مصدر غير جائز شرعاً ، غير حلال ، فيه شبهة ، والآن انظروا أموالنا هل فيها شبهة ، استعن بالله ولا تقرب الشبهات ، أنادي نفسي وأوصيها بهذا وأناديكم وأوصيكم . قال الغلام : ثمن كهانة أو أجر كهانة تكهنت بها في الجاهلية ، وكان أبو بكر الصديق قد تناول الطعام ، فوضع إصبعه في فمه وقاء الطعام ليُعلِّم هذا الغلام أن الابتعاد عن الشبهات أمر من ديننا ، وضع إصبعه في فيه حتى أخرج ما أكله ، ثم رفع يديه إلى ربه وقال : اللهم إني أني أعوذ بك مما بلَّ العروق وخالط الأمعاء . إنه احتياط ، وعدم تهاون . نحن بحاجة لأن نكون غير متهاونين ، فالحقوق ترفض أن تكون متصلة بغير قوي يحافظ عليها كما هي من غير أن يفرط فيها . يروي الترمذي في حديث حسن صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس " حتى يحتاط ، ويتقي الشبهات ويفعل المندوبات والمستحبات ، أنت تحب الله . يقول لك أستاذ مربٍ ، والد شيخ : افعل هذا الأمر . تسأله : هل هذا فرض ؟ يقول لك : لا . هل هذه سنة ؟ يقول لك : لا . هل هو مستحب أو مندوب ؟ يقول لك : نعم . تقول إذاً لسنا بحاجة إلى تأكيد على فعل مندوب ، وهذا بداية الخطر لأن التهاون في هذا سيؤدي بك إلى ارتكاب المحرمات . إذا كنت أقول لك يا أخي هذا مستحب أي يحبه الله، مستحب من قبل الله فلماذا تعرض عنه ؟ أين مصداقية حبك لله إذا كان هذا الأمر مما يحبه الله ، أين مصداقية علاقتك الطيبة مع الله ؟ أصبحنا الآن في عالم لا يعرف قيمة الحق ، لذلك يتساهل بمقدماته وبالتالي تأتي النتائج وخيمة عليه ، أصبحنا في وضع يتساهل الناس فيه في مقدمات الحقوق الساطعة الواضحة فكانت النتائج خسراناً . كما بدأت أقول : إننا حينما نتحدث عن حقنا في فلسطين ينبغي أن لا نتساهل - أيها الإخوة - حتى ولو كنا ضعفاء ، وأكرر مقولتي وكلمتي التي رددتها على هذا المنبر مرات ومرات : ( إن الضعف العابر لا يغير الحق الثابت) ومهما كنا ضعفاء فهذا يعني أن لا نتساهل في الحقوق . فلسطين كلها لنا ، فلسطين إسلامية عربية . هذا حق سجله العلماء ، وقاله المؤرخون ، والله أولاً وأخيراً هو الذي قال ذلك ، والمصطفى عليه وآله الصلاة والسلام هو الذي أيد ذلك . فلسطين حق لنا ، لن نتساهل بشبر واحد ولا بذرة تراب ، هذا حق ينبغي أن نعلنه ، وإذا تساهلنا بشبر ، فسنتساهل بشبرين ، ومن تساهل بشبرين سيتساهل بالنصف أو بالثلاثة أرباع ، أنا أقول لهؤلاء : بينوا الحق وقولوا للناس هذا هو الحق ، وبعد ذلك اتركوا الناس يبحثون عن طريقة لتحصيل هذا الحق . لا أريد أن أعلّق على هذا الأمر أكثر من هذا الذي قلت ، لكني أقول : إن مما يؤسف له أن بعض وزراء الدول العربية ، وقد تحدثت عنهم في خطبة سابقة يتحدثون عن فلسطين على أساس أنها حق لإسرائيل ، وأنَّا نريد أن نأخذ هذا الحق من أجل أن يعيش بضعة ملايين من الفلسطينيين في حالة ذليلة لاجئين عند الإسرائيليين . ذكر هذا أو قريباً منه بعض وزراء الدول الخليجية ، ويجتمع وزراء الإعلام - الأربعاء الماضي - ويقولوا يجب أن نقدم معونة - نحن الوزراء - الذين اجتمعنا أي دولنا التي نمثلها . سنقدم عوناً مادياً لإخواننا في فلسطين ، هذا العون مقداره مليون دولار ( أي خمسون مليون ليرة سورية ) ، الدول بمجموعها ، وهنالك ثري يهودي معروف ينفق المليارات من الدولارات ، لإقامة مستوطنات - ولا أريد أن أسميها مستوطنات - وإنما هي محتلات ، وإنما هي أماكن يتجلى فيها الظلم والظلام ، ولا أقول عنها مستوطنة ، لأنه يُفهم أن من يستوطن فيها هو صاحب وطن ، ليست مستوطنات ، وإنما هي أماكن للظلم . 
يا إخوتي : نربي أنفسنا على عدم التساهل والتفريط في الحق . الكلام كبير علينا صحيح ، لأننا في حال ضعيفة هو كبير علينا ، لكننا لن نصغِّر الكلام لأن وضعنا ضعيف ، أنت بين أمرين إما التنازل عن الحق لتتابع ضعفك ، وإما أن تقوي ضعفك لتكون على مستوى الحق ، ومن اختار المنهج الأول فقد ساء ما عمل ، وأما الذي اختار المنهج الثاني فلنعم ما يعمل . 
أيتها الأمة العربية والإسلامية : علمي أفرادك على عدم التفريط بالحقوق ، على أن لا يتساهلوا بحقوقهم ، علميهم أن لا يقتربوا من الشبهات وأن لا يحوموا حول الشبهات ، علميهم فعل المندوبات والمستحبات ، لأننا بحاجة إلى من يرتبط بالحق بنسبة قوة الحق ، فالحق قوي ولا يرتبط بالحق إلا القوي ، الحق قدير ولا يرتبط به إلا القدير . 
أبناء أمتي : لا أريد أن تكونوا ضعفاء ، وإنما أريد أن ترتقوا بالضعف الذي أنتم فيه إلى مستوى قوة الحق الذي تتبنونه ، لأن القرآن حق والقرآن قوي ، لأن الرسول حق والرسول قوي ، لأن الله حق والله القوي الحميد المجيد . 
لأننا إذ نتكلم عن هذا الدين نتكلم عن حق ، وبالتالي نتكلم عن قوي " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " ، و هل تريد الابتعاد عن ساح محبة الله ؟ عن ساح الخيرية التي يصطفيها الله ؟ ما أظنك كذلك . علموا أولادكم ارتباطاً بالحق ودفاعاً عنه ، وقوة بالتمسك بالحق ، علموا أولادكم كلمة نكررها ، وكلما كررناها كانت حلوة لأنها كلمة سيد المجاهدين : " لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه " . 
أسأل الله أن يجعلنا أقوياء في حقنا ، في ارتباطنا بحقنا ، أسأل الله أن يجعلنا من الذين يتقون الشبهات ، وأن يوفقنا لفعل المستحبات والمندوبات . نعم من يسأل ربنا ، ونعم النصير إلهنا . أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق