|
الحقوق ترفض الالتصاق بمن
يفرط بها ، وتأبى الانتساب إلى من يتساهل بها أيضاً ، ومن تهاون بحقوقه نزعت
منه ، وأخذها سواه : ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم . ومَن تهاون في
الشبهات ففعلها جاء يومٌ وقع فيه في الحرام ، ومن تهاون في المندوبات فتركها
جاء يوم ترك فيه الواجبات .
إيّانا والتهاون ، إيّانا والتساهل الذي يودي إلى فعل حرام وترك واجب ، وأحب أن
أتوجه بهذه الخطبة بالذات إلى المربّين من أساتيذ وشيوخ وآباء وأمهات لأقول لهم
جميعاً : لا نريد تربية تهاونيّة - وأعني بالتهاونيّة السلبية - لا تعلِّل ولا
ترضَ من ولدك أن يتهاون في الشبهات ويفعلها ، لأنه سيأتي يوم يقع فيه في الحرام
، ولا تدع طالبك ولا ولدك يتهاون في المندوبات ليتركها فسيأتي يوم يترك فيه
الواجبات . لا أريد أن أعطي أمثلة على هذا ، لكني - أيها الإخوة - وباعتبار أن
الهاجس الأكبر قضية فلسطين أقول لكم : انظروا كيف أنا تهاونّا في حقوقنا ،
فجاءت أيام صرنا نرضى بالحد الأدنى من هذه الحقوق ، والحقوق قوية بذاتها ولا
تحب الصلة إلا بالأقوياء ، ومن لم يكن قوياً فرَّت من ساحته الحقوق ، وتزاحمت
على بابه أنصاف الحلول التي لا تجعل من صاحبها شخصية متناسقة منسجمة ، وإنما
تجعل منه شخصية مهزوزة . أقول هذا ونحن بحاجة ماسة إلى أطفال وأبناء ، إلى
تلاميذ وطلاب يقفون أقوياء بحقوقهم ، لا يتهاونون ولا يتنازلون ، يقفون أمام
الشبهات ليعلنوا عزوفهم عنها ، ويقفون أمام المندوبات والمستحبات ليعلنوا فعلها
وارتباطهم بها ، فالمندوبات سياج الواجبات ، ومن قصر في السياج قصر في ذات
الأمر المسيَّج ، وكذلك الشبهات سياج الحرام ومن دخل السياج في أمر ممنوع وصل
به الأمر إلى أن يصل ذات الأمر الممنوع . أتوجه إلى جميعنا لأقول حديث النبي
صلى الله عليه وآله وسلم المتفق عليه : " إن الحلال بين ، وإن الحرام بين ،
وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ
لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك
أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمىً ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"
القلب عضو أهم ، ولذلك سُيِّج بقفص صدري ، وباحتياطات ، لأنك إن قصرت في السياج
انتاب التقصير القلب ذاته ، وإن حافظت على سياج القلب كان أولى بك أنك تحافظ
على القلب .
أيها الإخوة : منهاج الإسلام واضح ، لا تهاون في الشبهات ، في فعلها حتى لا نقع
في الحرام ، ولا تهاون في المندوبات في تركها حتى لا نترك الواجبات ، وكما قلت
لكم : الحديث واضح ، وفي رواية أخرى : " إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيّن " ،
يروي البخاري ومسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة فأخذها
بيده وقال: " لولا أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها " فمن اتقى الشبهات فقد
استبرأ لدينه وعرضه ، لأن الأنبياء لا يأكلون الصدقات ، خشي أن يكون هنالك
احتمال أن تكون من الصدقات فعدل عنها ، إنه احتياط وحسم وقوة بالارتباط بالحق ،
النبي لا يأكل الصدقة هذه قضية حقَّة في حقِّهِ ، فلذلك تعامل معها بقوة ، لم
يتنازل عن هذا الأمر الذي ارتبط به صلى الله عليه وآله وسلم .
يروي الإمام أحمد أن رجلاً يدعى وابصة جاء إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا وابصة تسألني أم أخبرك ؟ قال : بل
أخبرني يا رسول الله . فقال يا وابصة : جئت تسأل عن البر . قال : بلى يا رسول
الله . فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " البر ما اطمأنت إليه نفسك ،
والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ، استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك
" ، استفتِ قلبك ، ابتعد عن الشبهات ، إذا وجدت أنك تلجلجت في هذا الأمر فدعه
واتركه ، وإياك والاقتراب من الشبهات ، لأني أؤكد أن الاقتراب من الشبهات يعني
الاقتراب من الحرام ، وأن الابتعاد عن المندوبات ابتعاد عن الواجبات ، عن
الفرائض والمطلوبات ، وهذا هو سيد الكائنات يوصي سبطه سيد الشباب الحسن فيقول
له : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ما كان فيه شك فدعه إلى ما لا شك فيه ،
ما كان فيه أدنى عدم ارتياح في داخلك فدعه إلى ما ترتاح إليه ، فالمؤمن الذي
يستمد راحته من الله عز وجل بطريق الدعاء ، وطريق اللجوء إلى الله ، وطلب
المعونة ، وهيهات أن يطلب قلبك معونة وأن لا يستجيب ربك ، دع ما يريبك إلى ما
لا يربيك . يروي كتاب حياة الصحابة أن غلاماً لأبي بكر رضي الله عنه جاءه بطعام
، فلما أكله الصديق رضي الله عنه سأل الغلام - وأنا أريد أن يسأل كل واحد منا
أخاه وولده من أين اكتسبت هذا حتى إذا ما رآه قد اكتسبه بشبهة نبّهه ، فإن لم
يتنبه قاطعه ، لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ، قل لولدك
ووالدك وللجميع من أين هذا ، وليس بالضرورة أن يكون هذا السؤال بأسلوب وقح ، بل
يجب أن يكون بأسلوب طيب عظيم - يسأل أبو بكر غلامه : من أين اكتسبت هذا ؟ قال:
ثمن كهانة - إنه مصدر غير جائز شرعاً ، غير حلال ، فيه شبهة ، والآن انظروا
أموالنا هل فيها شبهة ، استعن بالله ولا تقرب الشبهات ، أنادي نفسي وأوصيها
بهذا وأناديكم وأوصيكم . قال الغلام : ثمن كهانة أو أجر كهانة تكهنت بها في
الجاهلية ، وكان أبو بكر الصديق قد تناول الطعام ، فوضع إصبعه في فمه وقاء
الطعام ليُعلِّم هذا الغلام أن الابتعاد عن الشبهات أمر من ديننا ، وضع إصبعه
في فيه حتى أخرج ما أكله ، ثم رفع يديه إلى ربه وقال : اللهم إني أني أعوذ بك
مما بلَّ العروق وخالط الأمعاء . إنه احتياط ، وعدم تهاون . نحن بحاجة لأن نكون
غير متهاونين ، فالحقوق ترفض أن تكون متصلة بغير قوي يحافظ عليها كما هي من غير
أن يفرط فيها . يروي الترمذي في حديث حسن صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما
به بأس " حتى يحتاط ، ويتقي الشبهات ويفعل المندوبات والمستحبات ، أنت تحب الله
. يقول لك أستاذ مربٍ ، والد شيخ : افعل هذا الأمر . تسأله : هل هذا فرض ؟ يقول
لك : لا . هل هذه سنة ؟ يقول لك : لا . هل هو مستحب أو مندوب ؟ يقول لك : نعم .
تقول إذاً لسنا بحاجة إلى تأكيد على فعل مندوب ، وهذا بداية الخطر لأن التهاون
في هذا سيؤدي بك إلى ارتكاب المحرمات . إذا كنت أقول لك يا أخي هذا مستحب أي
يحبه الله، مستحب من قبل الله فلماذا تعرض عنه ؟ أين مصداقية حبك لله إذا كان
هذا الأمر مما يحبه الله ، أين مصداقية علاقتك الطيبة مع الله ؟ أصبحنا الآن في
عالم لا يعرف قيمة الحق ، لذلك يتساهل بمقدماته وبالتالي تأتي النتائج وخيمة
عليه ، أصبحنا في وضع يتساهل الناس فيه في مقدمات الحقوق الساطعة الواضحة فكانت
النتائج خسراناً . كما بدأت أقول : إننا حينما نتحدث عن حقنا في فلسطين ينبغي
أن لا نتساهل - أيها الإخوة - حتى ولو كنا ضعفاء ، وأكرر مقولتي وكلمتي التي
رددتها على هذا المنبر مرات ومرات : ( إن الضعف العابر لا يغير الحق الثابت)
ومهما كنا ضعفاء فهذا يعني أن لا نتساهل في الحقوق . فلسطين كلها لنا ، فلسطين
إسلامية عربية . هذا حق سجله العلماء ، وقاله المؤرخون ، والله أولاً وأخيراً
هو الذي قال ذلك ، والمصطفى عليه وآله الصلاة والسلام هو الذي أيد ذلك . فلسطين
حق لنا ، لن نتساهل بشبر واحد ولا بذرة تراب ، هذا حق ينبغي أن نعلنه ، وإذا
تساهلنا بشبر ، فسنتساهل بشبرين ، ومن تساهل بشبرين سيتساهل بالنصف أو بالثلاثة
أرباع ، أنا أقول لهؤلاء : بينوا الحق وقولوا للناس هذا هو الحق ، وبعد ذلك
اتركوا الناس يبحثون عن طريقة لتحصيل هذا الحق . لا أريد أن أعلّق على هذا
الأمر أكثر من هذا الذي قلت ، لكني أقول : إن مما يؤسف له أن بعض وزراء الدول
العربية ، وقد تحدثت عنهم في خطبة سابقة يتحدثون عن فلسطين على أساس أنها حق
لإسرائيل ، وأنَّا نريد أن نأخذ هذا الحق من أجل أن يعيش بضعة ملايين من
الفلسطينيين في حالة ذليلة لاجئين عند الإسرائيليين . ذكر هذا أو قريباً منه
بعض وزراء الدول الخليجية ، ويجتمع وزراء الإعلام - الأربعاء الماضي - ويقولوا
يجب أن نقدم معونة - نحن الوزراء - الذين اجتمعنا أي دولنا التي نمثلها . سنقدم
عوناً مادياً لإخواننا في فلسطين ، هذا العون مقداره مليون دولار ( أي خمسون
مليون ليرة سورية ) ، الدول بمجموعها ، وهنالك ثري يهودي معروف ينفق المليارات
من الدولارات ، لإقامة مستوطنات - ولا أريد أن أسميها مستوطنات - وإنما هي
محتلات ، وإنما هي أماكن يتجلى فيها الظلم والظلام ، ولا أقول عنها مستوطنة ،
لأنه يُفهم أن من يستوطن فيها هو صاحب وطن ، ليست مستوطنات ، وإنما هي أماكن
للظلم .
يا إخوتي : نربي أنفسنا على عدم التساهل والتفريط في الحق . الكلام كبير علينا
صحيح ، لأننا في حال ضعيفة هو كبير علينا ، لكننا لن نصغِّر الكلام لأن وضعنا
ضعيف ، أنت بين أمرين إما التنازل عن الحق لتتابع ضعفك ، وإما أن تقوي ضعفك
لتكون على مستوى الحق ، ومن اختار المنهج الأول فقد ساء ما عمل ، وأما الذي
اختار المنهج الثاني فلنعم ما يعمل .
أيتها الأمة العربية والإسلامية : علمي أفرادك على عدم التفريط بالحقوق ، على
أن لا يتساهلوا بحقوقهم ، علميهم أن لا يقتربوا من الشبهات وأن لا يحوموا حول
الشبهات ، علميهم فعل المندوبات والمستحبات ، لأننا بحاجة إلى من يرتبط بالحق
بنسبة قوة الحق ، فالحق قوي ولا يرتبط بالحق إلا القوي ، الحق قدير ولا يرتبط
به إلا القدير .
أبناء أمتي : لا أريد أن تكونوا ضعفاء ، وإنما أريد أن ترتقوا بالضعف الذي أنتم
فيه إلى مستوى قوة الحق الذي تتبنونه ، لأن القرآن حق والقرآن قوي ، لأن الرسول
حق والرسول قوي ، لأن الله حق والله القوي الحميد المجيد .
لأننا إذ نتكلم عن هذا الدين نتكلم عن حق ، وبالتالي نتكلم عن قوي " المؤمن
القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " ، و هل تريد الابتعاد عن ساح محبة
الله ؟ عن ساح الخيرية التي يصطفيها الله ؟ ما أظنك كذلك . علموا أولادكم
ارتباطاً بالحق ودفاعاً عنه ، وقوة بالتمسك بالحق ، علموا أولادكم كلمة نكررها
، وكلما كررناها كانت حلوة لأنها كلمة سيد المجاهدين : " لو وضعوا الشمس في
يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك
دونه " .
أسأل الله أن يجعلنا أقوياء في حقنا ، في ارتباطنا بحقنا ، أسأل الله أن يجعلنا
من الذين يتقون الشبهات ، وأن يوفقنا لفعل المستحبات والمندوبات . نعم من يسأل
ربنا ، ونعم النصير إلهنا . أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات