ربما لم يعد أحد يشك في قدرة
الفكر الإسلامي على مساءلة العصر ، والدخول في حوار حول قضاياه الراهنة ، ومسائله
الملحّة ، وتقديم حلول ومقترحات تتميز بالأصالة وبالاستجابة للهوية الحضارية للأمة
الإسلامية من جهة ، وبالراهنية والتساوق مع روح العصر ومعطياته النظرية وتطوراته
العملية في شتى المجالات من جهة أخرى .
ضمن هذا السياق يأتي الكتاب ( حوار مع الصحافة ) وهو مجموعة حوارات أجرتها بعض
وسائل الإعلام المكتوبة من مجلات وجرائد مع الدكتور الشيخ محمود عكام أحد رجالات
الفكر الإسلامي المعاصر . والكتاب كما يقول عنوانه الفرعي : أسئلة من الواقع
وإجابات من الإسلام . أسئلة من الواقع : لأنه يحمل القضايا الساخنة اليوم ( ونعني
باليوم مرحلة ما بعد سقوط المنظومة الشيوعية ، وانهيار رأس حربتها " الاتحاد
السوفييتي " ، وبروز مقولة " النظام العالمي الجديد " و " المتغيرات العالمية
الجديدة " هذا النظام الذي لم تحدد بعد معاييره ) . وإجابات من الإسلام : لأن
الإجابات التي يحملها الكتاب صادرة عن عاِلم جمع بين العلوم الشرعية التقليدية ،
والعلوم الإنسانية المعاصرة ، وهو مع ذلك ليس بالذي ( يَعدُّ فهمه حاكماً على بقية
الفهوم ، وقولاً فصلاً لم تنتج مصادر الإسلام غيره ، وإنما الذي أقول فهم من
المفهوم ، ومحتمل من المحتملات المنبثقة عن الإسلام ) .
وإذا كان من العسير على المرء أن يحد ناظماً واحداً لهذا الكتاب ، نتيجة التنوع
الكبير في الموضوعات المطروحة ، وتباين طبيعة الحوارات لتعدد المحاورين ، فإنه يبدو
من الممكن الحديث عن عدة نقاط أساسية في فكر الدكتور محمود عكام ، تبدو من مجمل
الأحاديث التي ضمتها دفتا الكتاب ، وسنستعرض أبرزها هنا محاولين إيضاحها بالاعتماد
على المادة الحية المقتطفة من الحوارات بشكل أساسي . فعن مفهوم الحوار وحدوده ،
وأهميته يرى المؤلف أن ( المبدأ أولاً حوار ، والحوار منهاج ) ، فلا غنى من الحوار
المفتوح مع الآخر دون قيود مسبقة تحد من مساحة هذا الحوار الذي قد يطال كل القناعات
والمسلمات لدى الأطراف المتحاورة ، وقد كان أول من أرسى مبادئ هذه القاعدة هو
الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم متبعاً في ذلك آيات الحوار الواردة في
القرآن الكريم ، واستمر هذا التقليد واتسع في ظل الحضارة العربية الإسلامية ، التي
ضمت مختلف الأديان والعقائد والمذاهب في ظل الرعاية الإنسانية الإسلامية ( فمسألة
الحوار مسألة إنسانية معرفية " إنتربولوجية " ) بحتة ، وعلامة على مدى تقدم الإنسان
في سلّم المصدر الصناعي المشتق منه ، وإذا ما غاب عن أرض حل بها الدمار . وقد جاءت
هذه الحوارات لتؤكد على التوحيد والتجديد .
فالتوحيد كما يعرفه مؤلفنا بقوله : ( هو اللقاء الأمثل بين الحكومات الإسلامية
المتعددة ، وبينها وبين الشعوب على محاور مستمدة من دينها ، وإعلان الهوية الجامعة
علناً وصراحة ، والابتعاد عن أي صيغة مفرقة ، عرقية كانت أم مذهبية أو سواها). فهو
يرفض رفضاً قاطعاً أن تفرقنا الاجتهادات المختلفة المختلفة في فهم النصوص الإسلامية
، ويرفض أن تتحول ميزة الاختلاف في الرأي وسعة الأحكام ، وتفاوت الرؤى إلى رذيلة
وقوف كل فئة من المسلمين عند حدود فهما الخاص فلا تقبل غيره ، وتعتبر الآخرين وفق
معيارها الضيق خارجين أو مرتدين أو عصاة ، إذ أن ( القرآن الكريم أوسع من أن
يُحَدَّ بفهم أو رأي ، والإسلام أكبر من أن يرسم معالمه عالم أو مفكر ) .
أما التجديد فهو : السعي الجاد إلى من قبل المفكرين المسلمين في كل الأصقاع لإيجاد
بنيان معرفي معاصر واستراتيجية ثقافية واحدة مأخوذة من منابع ديننا الحنيف . وإن
مراعاة النعاصرة في هذا البنيان المعرفي هي ما يدعو إليه المؤلف ، إذ أن القرآن
الكريم هو ( خطاب الله تعالى للعقل في كل العصور والأزمان ، وليس لعقل في زمن محصور
، وعلى العقل أن يتعامل مباشرة مع هذا الخطاب ، وله أن ينتج ما شاء من الفهوم
الموصولة بألفاظه وصلاً لغوياً ودلالياً صحيحاً ) .
وإن ضرورة التجديد تكمن في تغيير ظروف كل عصر عما سواه من العصور ، وبما أن القرآن
الكريم والشريعة الإسلامية المستمدة منه صالحة لكل زمان ومكان فإنا لا نستطيع ( أن
نقف عند حدود " فهم " عصر من العصور للقرآن الكريم ، لنفرضه على بقية العصور
التالية ، بل إن هناك ثوابت تتخلل كل العصور يسميها علماؤنا " القطعيات " ، وهناك
تنزيلات تتناسب وكل زمن وأحواله ، ترعاها وتغطيها وتكتنفها ) .
وختاماً : فإذا كنا قد اخترنا محوري التوحيد والتجديد للبحث عن للحديث عن كتاب "
حوار مع الصحافة " فذلك لأنهما محورا الإحداثيات اللذان يحددان الأطر التي يتحرك في
فضائها توجه الدكتور محمود عكام في قضايا الفكر الإسلامي . وهذا ما يلحظه كل قارئ
للكتاب الذي يتصدى للحديث عن العديد من قضايا الساعة العربية والإسلامية ،
كالعلمانية والديمقراطية والاقتصاد الإسلامي ونظرية الحاكمية ، وغيرها ...
ورغم قصر الحجم الذي يشغله كل من هذه الموضوعات - تبعاً لمتطلبات الحوار الصحفي -
ف ن الحديث فيها جاء متميزاً وأصيلاً ، وإن كانت هذه الأحاديث كما ورد ( لا تعدو أن
تكون متناً لشروح تضاف ) فإننا بانتظار هذه الشروح التي لا ستغني ولا شك مسيرة
الفكر الإسلامي المعاصر ، وتحرك حوارات عديدة معه .
التعليقات