( يا أيها
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة :
183 .
لماذا قال الله عز وجل ( كُتب عليكم الصيام ) ، ولم يقل : فُرض عليكم الصيام , أو
يقل : صوموا .
بعد البحث في كلمة ( كتب ) في القرآن الكريم وجدتها مقرونة بفريضة القتال ( كتب
عليكم القتال ) ، ووجدتها مقرونة بفريضة القصاص ( كتب عليكم القصاص ) ، ووجدتها في
آية تتعلق بالوصية التي كانت محل الإرث فجاء نظام الإرث فنسخها ( كتب عليكم إذا حضر
أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية ).
لن أتحدث عن الوصية ، بل سأكتفي بالحديث عن الصيام والقتال والقصاص ، فما السر في
أن الله فرض الصيام بكتب وكذلك القتال والقصاص ؟
أولاً : من باب الشكليات نلاحظ أن الصيام والقصاص والقتال على نفس الميزان الصرفي ,
فالصيام على وزن فِعال والقتال والقصاص كذلك على وزن فِعال ، هذا فقط من الناحية
الشكلية . فالله سبحانه وتعالى لم يفرض فريضة ما بقوله ( كتب ) إلا تلك الفريضة
التي يُراد منها نيتها ولا يراد منها صورتها ، لان صورتها ستقع بأمرٍ أو تقديرٍ من
العزيز العليم , فالقتال سيقع سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ، وسيكون هناك قتال
بين الناس , والصيام سيقع لأن الإنسان بطبعه يصوم , ولأن الإنسان يصوم اليوم ويسمي
صيامه بـ " الريجيم " ، وهذا حاصل سواء أكان الصائم مسلماً أم غير مسلم , وكذلك
القصاص سيقع لأن الناس سيقتصون من بعضهم سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين .
لكن الصلاة - مثلاً - لن تقع صورتها إذا كنا غير مسلمين لأنه يراد فيها نيتها
وصورتها , وإذا لم يفرض ربنا علينا الصلاة بصورتها فلن نصلي , أما إذا لم يفرض
علينا القتال فبطبيعة الحال سنقاتل لأنه أمر طبيعي تكويني .
لذلك قال الله سبحانه وتعالى : ( كتب عليكم الصيام ) ، و ( كتب عليكم القتال ) ، و
( كتب عليكم القصاص ) لأن المراد من هذه الأمور نيتها , وأنت قبل أن تكون مسلماً
ستقاتل وستصوم وستقتصّ , لذلك جاء الإسلام ليجعل من هذا الصيام الذي تصومه لله عز
وجل , وقد قال سيدي رسول صلى الله عليه وآله وسلم : " من صام رمضان إيماناً
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " , وقال تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم
) ، والنبي عليه وآله الصلاة والسلام قال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا
فهو في سبيل الله " , كذلك القصاص من أجل ألا يكون القصاص انتقاماً وإنما لله عز
وجل . فكلمة ( كتب ) إذن رُبطت بالفريضة التي يُراد فيها نيتها ولا يراد فيها
صورتها ، لأن صورتها ستقع سواء أكنا مسلمين أم غير مسلمين .
ثانياً : هذه الفرائض التي ربطت بـ ( كتب ) تتعلق بالآخَر ، ولذلك قلنا صيام على
وزن فِعال وكذلك قتال وقصاص ، فهي تتعلق بالآخر على سبيل النية , فالصيام عبارة عن
علاقة بيني وبيني ، أي بين النفس المؤتمرة بأمر الله عز وجل وبيني ، أي النفس
الأمارة بالسوء , فالصيام عبارة عن سجال ومعركة بين ندّين . والفريضة التي تتعلق
بالآخر على سبيل الندّية أيضاً ( القتال ) ، فهما يتقاتلان ، أي الواحد مع الآخر ،
والقصاص أيضاً الواحد نقيض من الآخر والآخر نقيض من الأول , والصيام معركة مع آخر ،
لكن الآخر أحويه أنا في داخلي , فأنا في صراع ومواجهة بين نفسي التي تأمرني بالشر ,
حيث أرى الأكل تأمرني أن آكل ، وهذه نفسي الأمارة بالسوء ، أما نفسي المطمئنة أو
الراضية تنهاها عن ذلك , ولذلك كان الصيام صِياماً أي فعالاً , والفعال يكون بين
اثنين ، كالقتال والنزال والسجال والنضال والقصاص ... الخ .
وربما قيل بأن الزكاة تتعلق بالآخر أيضاً ؟ أقول : إن الزكاة تتعلق بالآخر ليس على
سبيل الندية ، بل على سبيل الأعلى والأدنى ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : "
اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى " فليس هناك مواجهة أو مقابلة أو
ندية .
ثالثاً : إن ( كتب ) تأتي لتفرض علينا الفريضة المكروهة بالنسبة للنفس ، فالصيام لا
تحبه النفس وكذلك القتال والقصاص , قال تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم )
والصوم كما ورد في الحديث القدسي الذي حسَّنه بعض العلماء بأن الله لما خلق النفس
خبرها وامتحنها بالصوم فرضخت بهذا الامتحان لأن الصوم صعبُ عليها .
التعليقات