نحن اليوم مع لطيفة أظن أنها شاقة إلى حد ما على الفهم، لاسيما إذا لم يُعرها الإنسان اهتمامه، وهي في الوقت نفسه هامة جداً، لأنها تحل إشكالات كثيرة، لذا فهي تحتاج إلى الاهتمام.
سأقرأ عليكم أولاً الآيات التي كنت أقرؤها اليوم فأشعرتني بضرورة الحديث عنها.
الآية الأولى قول الله تعالى: ﴿وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين* وكأيّن من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم معرضون *وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ يوسف: 104-106.
فكيف يكون هذا ؟ كيف يؤمنون وهم مشركون ؟ هذه إشكالية.
والآية الثانية هي قوله تعالى: ﴿ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يُدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين﴾ المائدة: 84. الإيمان هنا بالله أولاً وبما جاء من الحق ثانياً، فما الفرق بينهما ؟
والآية الثالثة هي قول الله تعالى: ﴿وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أوَلم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصُرْهُنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعُهُنّ يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم﴾ البقرة: 260.
فكيف يسأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريَه إحياء الموتى، وقد كان في الآيات السابقة يقول للنمرود: ﴿ربيَ الذي يحيي ويميت﴾ البقرة: 258.
والآية الرابعة هي قول الله تعالى: ﴿الم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب﴾ البقرة: 1-3. وسوف تكون هذه الآية منطلق الجواب.
وأبتدئ الجواب بسؤال: أنت تؤمن بالغيب. فما الغيب الذي تؤمن به ؟ أنا أؤمن بالله تعالى، فالله غيبٌ بالنسبة لي. وأؤمن بالملائكة، وهي غيب بالنسبة لي أيضاً. وأؤمن برسل الله، فالإرسال والرسالية غيب بالنسبة لي أيضاً.
هذا الغيب الذي أؤمن به له مستويان اثنان:
المستوى الأول: مستوى أصل الوجود.
المستوى الثاني: مستوى الهيئة والكيفية.
أنا أؤمن بالغيب، فهل يقوم إيماني هذا على عقل أم على غير عقل ؟ لقد قلنا من قبل: إن الإيمان يجب أن يكون بعقل.
أنا أعمل عقلي فأؤمن بالله، وعندما أعمل عقلي فأؤمن بالله فأنا أؤمن به من حيث الوجود لا من حيث الكيفية.
وأضرب مثالاً للتوضيح: عندما أسمع طرق الباب أقول: هناك شخص، أو كائن حي يطرق الباب. لقد وصلت بعقلي إلى أن وراء الباب كائناً حياً متحركاً يطرق الباب. معرفتي بهذا الكائن لها مستويان: مستوى أصل الوجود: وقد وصلت إلى العلم به من خلال الأثر الذي أحدثه وهو قرع الباب. مستوى الهيئة والكيفية والشكل. لقد وصلت بعقلي إلى الإيمان أو المعرفة بأصل الوجود. لكن: هل أستطيع أن أصل بعقلي إلى معرفة كيفية الطارق وشكله ؟
سمعت طرق الباب، فعلمت من الأثر بعقلي أن هناك مؤثراً. أعملتُ عقلي فعلمتُ، فهل أستطيع أن أعمل عقلي فأدرك كيفية المؤثر وتفاصيل هيئته ؟ لا.
يمكنني أن أعمل عقلي في إدراك اصل الوجود، ولكن لا أستطيع ذلك في الكيفية، ولو حاولت لدخلت في متاهات لا تقوم على علم.
أعود إلى الآية الثانية، إلى الإيمان بالله وما جاء من الحق.
نحن نؤمن بالله تعالى، نؤمن بأصل وجوده، ولكن إدراك كيفية هذا الوجود وهيئته غير ممكنة، فلا يستطيعها أحد بعقله.
الإيمان الذي ينتجه العقل، وهو الإيمان المطلوب، ينصب على أصل الوجود، وأما الكيفية فتحتاج إلى نقل صادق.
أعود إلى الآية الأولى: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ إنهم يؤمنون بالله بعقولهم، لكنهم يعودون فيشركون بعقولهم أيضاً عندما يدخلون هذا العقل في المستوى الذي لا يستطيع إدراكه، وهو مستوى الهيئة والكيفية.
المشركون مثلاً جعلوا لله بنين وبنات، وعبدوها لكي تقربهم إلى الله زلفى. لقد وصلوا بعقولهم أن لهذا الكون خالقاً، ولكنهم أدخلوا عقولهم في تفاصيل لا تستطيع الإحاطة بها. فالهيئة والشكلية تحتاج إلى ناقل ينقل عنها.
الله تعالى يقول على لسان المؤمنين: ﴿ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمعَ أن يُدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين﴾ إنهم يؤمنون بالله، بالعقل، أي عن طريق العقل، يؤمنون بأصل الوجود. ويؤمنون بالحق: توصيفاً عن الشكل والهيئة وصفاً عن الله عز وجل.
فلا يجوز أن نأخذ الهيئة إلا من خلال النقل الصادق، فإسلامنا نقل وعقل. يجب أن أشتغل بالعقل حتى يوصلني إلى الإيمان، وبعدها يجب أن اعتمد على النقل، وهذا ما نراه في الآية الثالثة وهي قول الله تعالى:
﴿وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أوَلم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم﴾ البقرة: 260. لم يقل إبراهيم عليه السلام لربه تعالى: هل أنت قادر على أن تحيي الموتى ! لم يسأله عن أصل الفكرة، فلقد آمن بذلك، وها هو يحاجج النمرود في هذا الموضوع. لقد قال: ﴿أرني كيف تحيي الموتى﴾ إنه آمن بأصل الإمكان، ولكنه يسأل عن الصيغة والكيفية.
قال: ﴿أولم تؤمن قال بلى﴾ نعم آمنت بقدرتك على الإحياء، ولكن أريد أن أرى الكيفية.
وبما أن الله تعالى هو القادر المطلق فإنه يستطيع أن يمنح شيئاً من قدرته وأن يُعديَها إلى من يشاء.
وها هو تعالى يعطي شيئاً من هذه القدرة ليَدي إبراهيم عليه السلام، وهذا الأمر أقوى في التعبير عن إطلاق قدرته تعالى.
لقد قال لإبراهيم: ﴿فخذ أربعة من الطير فصرهنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم﴾. القادر المطلق يستطيع أن يحوّل مَنْ أمامه إلى قادر أيضاً، وهذا أبلغ في الدلالة على قدرته.
نرجع الآن إلى أصل الفكرة:
الإيمان عقل ونقل.
الإيمان طريقه العقل لأن الإيمان ينصب على أصل الوجود. نؤمن بالله في أصل وجوده، ولكن الهيئة والكيفية تحتاج إلى النقل. لقد وصلنا بعقلنا إلى أن هناك يوماً للحساب، لكن: ما الذي سيجري فيه ؟ أنا لا أستطيع إعمال عقلي في إدراك ذلك. لا دور للعقل هنا، أي في الكيفية. دوره أن يصدق النقل الصادق ويسلّم له.
ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام قريش فقال لها: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدّقيّ ؟). قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
الله تعالى يخبرنا بالكيفية ويصف لنا الهيئة عبر كتابه الذي ينزله على رسوله.
كل شيء يخضع للعقل والنقل، حتى الأشياء في العالم المحسوس، وكذلك ما يتعلق بالإيمان بالغيب.
الإسراء والمعراج حقيقة واقعة لكن إدراك التفاصيل لا ينفع فيه إعمال العقل لوحده، لذا نحتاج إلى النقل الصادق. وكذلك قتال الملائكة في بدر أمر يحتاج إلى نقل صادق لإدراكه. ولا دور للعقل فيه سوى تمحيص الخبر لمعرفة صدق ناقله، لأن هذا الأمر يتعلق بالكيفيات، وإنما ينحصر دور العقل في أصل الوجود. عالم الشهود وعالم الغيب كلاهما يقومان على العقل والنقل.
كيف تكون الجنة باقية وقطوفها دانية ؟ هذه هيئات وأوصاف ولا دخل لعمل العقل فيها.
أنت تؤمن بالوجود من حيث أصله، وأما النقل الصادق فهو الذي يأتينا بالكيفية.
لقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صف لنا ربك.
العقل يفرض أن نسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده مثل هذا السؤال في حال خطر ببالنا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدر النقل الصادق. ولقد جاء الجواب على هذا السؤال: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾. لو وصف لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربّه، أو لو وصفه لنا القرآن لاقتضى ذلك أن يكون بناء على صور قائمة في أذهاننا، والله تعالى لا شيء مثله حتى أحيلكم إليه. لا نظير له ولا مثيل.
خلاصة الأمر:
الإيمان بالغيب له مستويان:
مستوى أصل الوجود: وهذا يمكن أن أصل إليه بالعقل.
مستوى الكيفية: وهذا يحتاج إلى نقل ورواية صادقة موثوقة.
القرآن الكريم براهين تدلل على أصل الوجود ويقبلها العقل، وفيه نقول عن كيفيات وهيئات لا يمكن أن يدركه العقل مستقلاً. فلا تقحم عقلك في أشياء لا يجب أن يتدخل فيها.
أطمئنكم في النهاية:
الإسلام عقل ونقل، عالم الشهود عقل ونقل، الغيب عقل ونقل.
والقرآن الكريم يوفر لكل باحث أسباب الوصول إلى حل لكل مشكلة أو سؤال يخطر ببال من يقرأ القرآن.
فإذا خطر ببال أحدنا سؤال، أو بدت له ثغرة، أو مشكلة، فعليه أن يبحث وسيجد في القرآن الكريم ما يقنعه ويجيب عن أسئلته.
التعليقات