مقامات فكرية في مفهوم الحرية
المقام الأول: الحديث عن الحرية في الإسلام حديث عن مفهوم حَرج، وإن شئت قل: هو حديث عن معنى دقيق، ليس بينه وبين مقابله العبودية إلا خط حاد وفاصل، يتهيب الباحث من ملامسته. فالحرية في مواجهة العبودية التي يقوم عليها الدين الإسلامي برمته، فهل يستطيع الباحث فيها تحديد أطرها وتبيان مساراتها، حتى لا تؤثر على ما يجب أن يتوفر في مشروع المسلم من عبودية ؟! ولعل الحديث عنها – أي عن الحرية – كالحديث عن الغنى في الإسلام، في مقابل الفقر الذي نستطيع الحديث عنه كيفما اتفق، ما دمنا قد وصُفنا به جملة وتفصيلاً من قبل الله: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد﴾ فاطر: 15. وأسحب الأمر على القوة والعظمة في مقابل الضعف والتواضع والحقارة، فهل يستطيع الإنسان وصف نفسه بالقوة والعظمة بذات الأريحية التي يستجلب بها لذاته الفقر والتواضع ؟ وقس على ما قد سلف حديثاً عن الجلال والوقار والرفعة والمجد، في مقابل حديث عن مقابلاتها.
المقام الثاني: الحرية التي نريد تفصيل مفهومها ليست بتلك التي تعني أن يفعل الإنسان ما يريد، بل هي احترام الإنسان لفعل إنسان آخر مهما كان، ولقوله كذلك، حتى وإن لم يرق ذاك الفعل أو هذا القول للإنسان المحترم، ونقصد بالاحترام الابتعاد عن التسفيه والرد بالقوة والسب والشتم واللعن والطعن والإبعاد. فـ: "ليس المؤمن باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء" كما ورد عن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعبارة أخرى: لا نريد بالحرية المنشودة حريتك أو حريتي، ولكننا ننادي بحرية الآخر إذ يكون معنا أو نكون معه... استمع إليه وأنصت، واجعله يعبر ويتكلم وينطق ويتحدث، وإياك أن تصادره أو تمنعه أو تسكته، ما دام في فعله أو في قوله لا يتجاوز ذاته، ولا يتعدى على سواه ولا يتناول من عداه. فمن فعل ذلك فقد باء بفشل ذريع عن أن يكون في درب الحرية أو في مسارها: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ البقرة: 194.
المقام الثالث: الحرية عنوان جماعة ومجتمع وأمة قبل أن تكون عنوان فرد أو مجموعة، فنحن ننشد الجماعة الحرة، والمجتمع الحر، والأمة الحرة، والشعب الحر، وبعد ذلك فلا علينا إن قيّدنا الفرد لمصلحة حرية الجماعة والمجتمع والأمة والشعب. والحرية في المناخ الجماعي والاجتماعي: حقوق مصونة وواجبات مرعية، وأهم هذه الحقوق حق الحياة وحق النماء وحق التعبير والتفكير، ولا أريد عرض أدلة تثبت رعاية هذه الحقوق في الإسلام عندما يخيم إسلام القرآن على مجتمع ما، فيكون موجّهاً ملتزماً به من قبل هذا المجتمع.
المقام الرابع: الحرية مطلب لا يُمنح من الإنسان إلى الإنسان، ولكنه مطلب يحققه الإنسان بحد ذاته، وعبر جهاد وكفاح: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ العنكبوت: 69. ولا أعني بالجهاد قتلاً أو عراكاً مادياً، لكنني أقصد به سعياً حثيثاً بالكلمة الجادّة، وتضحية بالعبودية المرفوضة للوصول إلى الحرية، أو تضحية بحياة بلا حرية للوصول إلى حرية تنعم بها أمة المضحي أو شعبه أو مجتمعه.
وها نحن أولاء في ذكرى عاشوراء التي علمنا فيها الحسين بن علي كيف ينتصر الدم على
السيف، وقد خاطبتُه مرة فقلت: "سيدي أبا عبد الله: لقد علّمت الناس من خلال ثورتك
كيف يموتون، لأن الموت فن كالحياة، ومن لم يختر الشهادة النبيلة فسيختاره الموت
الوضيع. علّمت الناس كيف تُعتنق المبادئ وكيف تُحرس، وكيف تُقدَّس الحرية وكيف
يُدافع عنها، فقد قلتَ: يزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرَّمة، ومعلن
بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله" !
وقد قلتَ أيضاً: "هيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت،
وبطون طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية. ألا ترون أن الحق لا يُعمل به, والباطل لا
يتناهى عنه ؟ فلا أرى الموت إلا سعادة, والحياة مع الظالمين إلا بَرماً".
وصدق العلايلي حين قال : "آلهة الأساطير تحتاج إلى نبيّ يمحوها حتى يردها إلى خيال
طائش في حدود الخرافة, والإنسان المستأله يحتاج إلى مصلح يمحوه حتى يرده إلى طبيعته
في حدود الحقيقة" (1).
المقام الخامس : تتحمل دلالات القرآن الكريم كل معنى للحرية إنساني جميل, ولن تقف
هذه الدلالات أمام امتدادات طيبة لتفكير الإنسان في قيمة ايجابية كالحرية, وحدثوني
– إن وجدتم – عن تناقض أو مناقض أو معاكس لهذا الذي أقول. فإن ذكرتم الجهاد القتالي
الذي دعا إليه القرآن فاسمعوا مني فهماً لمعانيه ضمن السياقات الدلالية في هذا
الكتاب الكريم، فالجهاد شُرع إذ شُرع من أجل رد الظلم في الواقع: ﴿أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا
أن يقولوا ربنا الله﴾ الحج: 39-40. فهو إذن دفاع عن الحرية، وهو في استمراره أداة
لرد الظالم ودحره وإزاحته من طريق كان يريد – وهو يسير فيها – استعباداً
واستبداداً، لذا يمنع عن الناس طعاماً لأجسادهم يأتيهم، أو أفكاراً قابلة للتداول
الإنساني تعرض عليهم، وهو في النهاية دفاع مشروع عن كلمة يُدعى إليها، وحوار جادّ
يتنادى إليه: ﴿فقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين﴾ البقرة: 190.
المقام السادس: إن استمرار الإسلام ديناً له أنصاره ومعتنقوه دليل على مناداته
بالحرية المنشودة في عالم الإنسان، ولولا ذلك لسقط منذ أمد بعيد، لأن الحرية مطلب
إنساني فطري، يَجدُّ الإنسان في البحث عنه، والسعي إليه أنَّى كان، ولن يقبل بدين –
حتى ولو شكلاً أو على سبيل النفاق – هذه المدة الطويلة إذا كان ذاك الدين لا يؤمن
له – على الأقل – المناداة بهذا المطلب، وما كان الإسلام في يوم من الأيام لينقص من
قدر الحرية قيمةً إنسانية عظيمة، ويبقى الإنسان الواعي ينتمي إليه ويضحي من أجله
بالغالي والنفيس. قد يخطئ بعض الدعاة لكن الخطأ في الفهم مردود عليهم، فربك الحق لا
يشوبه باطل الناس لأنه خلقهم !
المقام السابع: يبتدئ بسؤال: هو مَن يُشعر مَن بالقدرة على الاختيار؛ إذا كانت
الحرية اختياراً ؟ والجواب:
لا شك في أن القوي هو من يُشعر الطرف الآخر المقابل له بأنه
قادر على ذاك الاختيار. فالدولة مثلاً هي من تُشعر الفرد بأنه حر وقادر على فعل
الممكنات، والأب هو من يُشعر ولده بالحرية والقدرة على الاختيار أيضاً. وهنا تحضرني
قصة عمر بن الخطاب
رضي
الله عنه
عندما قال لمن قال له اتق الله : "لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا
لم نسمعها". فالخليفة عمر هنا أشعرَ من أمامه بقدرته على الاختيار، فاختار (اتق
الله(، ولم يختر المجاملة، وأقرّه
عمر على هذا الاختيار.
المقام الثامن:
إن المعايير التي تحكم المجتمع الصالح في النهاية ثلاثة، هي
الحرية والحق والعدل. فالحرية ما ذكرنا والحق هو ما لك وما لغيرك، أو ما لك على
الآخر وما للآخر عليك فتعرّفْ أيها الإنسان على مصدر معرفي موثوق يعرّفك بها،
وأنصحك بالعود في هذا الشأن إلى ما جاء عن ربك الذي يعلم مَن خلقَ وما خلقَ. وأما
العدل فهو ممارسة أمينة ووفية للحق الذي عرفتَ. والناس حيال الحقوق معرفةً
وتنفيذاً أصناف غافل وعادل وفاضل. فالغافل من يعرف ما له ويتجاهل الذي عليه.
والعادل من يعرف ما له وما عليه. والفاضل من يعرف ما عليه ويتسامح في الذي له.
في ختام المقامات:
تعريف وتحديد لهذا المفهوم ذي الدراسات الأكثر في عالم المفاهيم والقيم. فليسمح
القارئ الواعي بعرض ما وصلت إليه من تعريف وتحديد لهذا المفهوم وتلك القيمة، وإذ
أقدم هذا نهاية المطاف فمن أجل إبقاء باب النقاش مفتوحاً ومتصلاً بما يمكن أن يأتي
من قرائح أخرى، وإني على شبه يقين أننا سنتفق في هذا الشأن كثيراً، وسنختلف قليلاً
قليلاً، ولكننا في الاتفاق والاختلاف سعداء، لأننا وصلنا إلى ما وصلنا إليه
أحراراً، وسنتابع الطريق دائماً بتوفيق الله أحراراً.
فالحرية – إذاً – في رأيي: شعور بالتمرد على ما ينافي الفطرة، يعقبه بحث جاد عن
المناسب، ومن ثم تأتي الممارسة الجريئة لهذا الذي انتهى إليه البحث.
وليسمح لي القارئ أن أقدم مثالاً موضحاً لما عرضت، وسيكون المثال مستلاً من القرآن
الكريم، وأما بطله فنبيٌّ متفق على نبوته من قبل كل الديانات السماوية هو إبراهيم
عليه الصلاة والسلام، فقد قال متمرداً: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، ثم
بحث عن إله حق، فرأى القمر فقال: هذا ربي. ثم عدل فرأى الشمس فقال: هذا ربي، لأنها
أكبر. ثم عدل وقال: سيهديني ربي إلى الحق ما دمت باحثاً جاداً في ذلك. وقد تمت
الهداية وقام بالممارسة فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً
وما أنا من المشركين. وواجه بعد ذلك التمردِ المستعبدَ بغير حق، وحطم الأصنام
وكسرها، وضحّى بنفسه وهو يستمع التهديد الجادّ من قبل أعداء الحرية، فقالوا: حرقوه
وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. وبرزت عناية الراضي عن السعاة الصادقين إلى الحرية،
فقلنا: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين
(2).
وبناء على ذلك:
لا تُكرهنّ أيها الحرّ غيرك على نتائجك، بل علمه برفق، وادعه بأناة وحلم حتى يسلك
الطريق التي سلكتَ، ولستَ فيما وراء ذلك عليهم بمسيطر: ﴿(قل هذه سبيلي أدعو إلى
الله على بصيرة أنا ومن اتبعن﴾ يوسف: 108.
الهوامش:
1-
العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي: تاريخ الحسين نقد وتحليل، ص 8، دار الجديد،
بيروت.
2-
قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال
مبين * وكذلك نَري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنّ
عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر
بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين * فلما
رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون *
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). الأنعام:
74-75.شاركنا بتعليق
التعليقات