ضمن فعاليات ندوة: بلاد الشام في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين المنعقدة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ألقى الدكتور الشيخ محمود عكام محاضرة بعنوان: مكانة بلاد الشام في الحديث النبوي الشريف.
وقد قسم الدكتور عكام مداخلته إلى المحاور الثلاثة التالية:
1- بلاد الشام: الحدود والجغرافية.
2- أرض مباركة على مستوى الدين كله.
3- مكانة بلاد الشام في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
واستهل محاضرته – التي استمع إليها الأستاذ الدكتور أحمد قدور عميد كلية الآداب، وجمع من الأساتذة المؤرخين، منهم الدكتور سهيل زكار والدكتور محمود حريتاني – بقوله: لست مؤرخاً - وإن كنت أعجب بالمؤرخين الصادقين – ولكني أقول: إذا كان للقضايا والمسائل المادية مختبراتها التي يمتحن صدقها فيها، فإن التاريخ هو مختبر الأفكار الإنسانية، وإليه يُرجع ليتعرف الإنسان على مصداقية فكرة ما.
ولقد امتاز "الفكر القرآني" بميزتين اثنتين:
أولاهما: المنطق. أي منطقية هذا الفكر ووضوح مفاهيمه وتماسك قضاياه
والثانية: المصداقية من خلال التأكيد بالتجربة والواقع.
ثم قدم الدكتور عكام مداخلته، وفيما يلي نصها:
مكانة بلاد الشام في الحديث النبوي الشريف
1- الحدود والجغرافية:
بلاد الشام أو الشام أو سورية، مهد الإنسان الأول، وأحد الأقاليم الجغرافية الأكثر شهرة في العالم القديم، ومن أكثر المناطق الإستراتيجية أهمية في العالم الحديث. واسم (الشام) قديم، وقد استعمله العرب للدلالة على جميع المناطق الواقعة إلى الشمال من الجزيرة العربية، ما عدا إقليم العراق، كما كانوا يطلقون اسم اليمن - يَمنات أو يَمون - على مناطق الجنوب.
ولم يكن لبلاد الشام حدود سياسية ثابتة، وقد حددها الجغرافيون العرب بعبارات مختلفة إلا أنها متفقة عموماً.
يقول ياقوت الحموي: "حدّ الشام من الفرات إلى العريش المتاخمة للديار المصرية، وأما عرضها فمن جبل طيئ من نحو القبلة إلى بحر الروم".
وكان الأصطخري مِن أقدم مَن أوضح حدود الشام، فهو يقول: "وأما الشام فإن غربها بحر الروم، وشرقها البادية من أَيلة إلى الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم، وشمالها بلاد الروم، وجنوبها حد مصر وتيه سيناء، وآخر حدودها مما يلي مصر رفح، ومما يلي الروم الثغور". ويضيف الأصطخري وهو يتحدث عن الثغور الشمالية لبلاد الشام أنها مما يلي الروم، وهي ملطية والحدَث ومرعش والهارونية وعين زربة والمصيصة وأذنه وطرسوس. وتقع كلها اليوم في تركيا.
ويتفق الأصطخري مع ابن حوقل والمقدسي في تحديد أقاليم بلاد الشام، فيرون أنها فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين، ويضيفون إليها الجبال والشراة.
وهكذا فإن حدود بلاد الشام ، بحسب ما أورده الجغرافيون العرب الأوائل هي تقريباً سورية الحالية ولبنان وفلسطين والأردن وسيناء وقسم من تركيا.
2- أرض مباركة على مستوى الدين كله:
- قال الله تعالى: ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربَها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا...﴾ الأعراف:137. ومعلومٌ أن المقصود هنا مشارق أرض بلاد الشام ومغاربها.
- قال الله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ الإسراء:1. والمسجد الأقصى من أرض الشام.
- قال الله تعالى: ﴿وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين * ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾ الأنبياء:70-71. ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً - من أرض الجزيرة والعراق - إلى أرض الشام.
- قال الله تعالى: ﴿وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة وقدَّرنا فيها السيرَ سيروا فيها لياليَ وأياماً آمنين﴾ سبأ:18. والقرى التي بارك فيها هي قرى الشام، وأما القرى الظاهرة فهي ما كان بين اليمن - مساكن سبأ – وبين قرى الشام من العمارة القديمة.
- وأيضاً ففي بلاد الشام الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، والذي أقسم به في سورة الطور، قال الله تعالى: ﴿والطور * وكتابٍ مسطور﴾ الطور:1-2. وقال الله تعالى: ﴿وناديناه من جانب الطور الأيمن وقرّبناه نجيّاً﴾ مريم:52. وقال الله تعالى: ﴿والتين والزيتون * وطور سينين﴾ التين:1-2.
- وفي الشام عمود الدين والطائفة المنصورة وإليها المحشر والمعاد كما سنرى في الأحاديث الشريفة محل دراستنا وموضوعنا.
3- مكانة بلاد الشام في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
1- عن زيد بن ثابت الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يا طوبى للشام. يا طوبى للشام. يا طوبى للشام". قالوا: يا رسول الله وبم ذلك ؟ قال: "تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام". حديث صحيح أخرجه الترمذي وأحمد.
2- عن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ستُجندون أجناداً: جنداً بالشام وجنداً بالعراق وجنداً باليمن". قال عبد الله: فقمتُ فقلت: خِر لي يا رسول الله. فقال: "عليكم بالشام. فمن أبى فليلحق بيَمنه وليستق من غدره، فإن الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله". قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه. حديث صحيح أخرجه الحاكم وأحمد وأبو داود والطحاوي.
3- عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فنظرت فإذا هو نور ساطع عُمِد به إلى الشام. ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام، وعقر دار المؤمنين بالشام". حديث صحيح أخرجه الحاكم والطبراني وابن عساكر وأحمد.
4- عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشام أرض المحشر والمنشر". حديث صحيح أخرجه أحمد وصاحب المصنف.
5- عن شعبة عن معاوية مرفوعاً: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة". حديث صحيح رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه.
6- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لن تبرح هذه الأمة منصورين أينما توجهوا، لا يضرهم من خذلهم من الناس حتى يأتي أمر الله وهم بالشام". حديث صحيح.
وكلمة "وهم بالشام" يشهد لها ما رواه مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة"، على اعتبار أن أهل الغرب هم أهل الشام كما قال الإمام أحمد وأيده شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد ورد هذا صراحة في بعض الأحاديث، كما إن لغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولغة أهل مدينته في أن أهل الغرب هم أهل الشام.
7- عن عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفجر ثم أقبل على القوم فقال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مُدِّنا وصاعنا. اللهم بارك لنا في شامنا". فقال رجل: وفي العراق ؟ فسكت ثم أعاد، قال الرجل: وفي عراقنا فسكت. وفي رواية فقال: "فيها الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان". رواه أبو نعيم وابن عساكر. وأخرجه أحمد مختصراً بلفظ: قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير بيده يؤم العراق: "إن الفتنة ههنا" (ثلاث مرات) من حيث يطلع قرن الشيطان". وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد أخرج مسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام عند باب حفصة وقال بيده نحو المشرق: "الفتنة ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان"، قالها مرتين أو ثلاثاً.
وفي رواية لأحمد أيضاً: عن سالم بن عبد الله قال: "يا أهل العراق ما أسألَكم عن الصغيرة وأركَبكم للكبيرة".
وعن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا. اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: وفي نجدنا ؟ قال: "هناك الزلازل". أخرجه البخاري ومسلم وابن عساكر.
ويستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من "نجد" في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف بهذا الاسم، وإنما العراق وبذلك فسره الإمام الخطابي وابن حجر العسقلاني.
8- عن عبد الله بن حوالة أنه قال: يا رسول الله. اكتبْ لي بلداً أكون فيه، فلو أعلم أنك تبقى لم أختر على قربك. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "عليك بالشام". ثلاثاً. حديث صحيح أخرجه ابن عساكر والطبراني.
9- عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ستخرج نار في آخر الزمان من حضرموت تحشر الناس". قلنا: فماذا تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: "عليكم بالشام". حديث صحيح أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان.
10- عن بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله أين تأمرني ؟ فقال: "ها هنا". وأومأ بيده نحو الشام. قال: "إنكم محشورون رجالاً وركباناً ومجرون على وجوهكم". حديث صحيح أخرجه أحمد والترمذي وابن عساكر.
11- عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة. فيها مدينة يقال لها دمشق. خير منازل المسلمين يومئذ". وفي رواية: "فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام". حديث صحيح أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم.
12- عن أوس بن أوس الثقفي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ينزل عيسى بن مريم عليهما السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق".
وفي رواية: "عليه ممصرتان كأن رأسه يقطر منه الجمان". الممصرة: لباس فيه صفرة خفيفة. حديث صحيح رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وروي عن النواس بن سمعان في مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
13- عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إذا وقعت الملاحم بعث الله من دمشق بعثاً من الموالي، أكرمُ العرب فرساً وأجودهم سلاحاً، يؤيد الله بهم الدين". حديث حسن أخرجه ابن ماجه والحاكم على شرط الشيخين.
14- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس. لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة". ضعيف بهذا السياق، وهو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف.
15- عن عوف بن مالك قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بناء له، فسلّمت عليه. فقال: "عوف ؟". قلت: نعم يا رسول الله. قال: "ادخل". فقلت: كلّي أم بعضي ؟". قال: "بل كلك". فقال لي: "أعدد يا عوف ستاً بين يدي الساعة: أولهن موتي". قال: فاستبكيت حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسكتني. قال: "قل: إحدى. والثانية فتح بيت المقدس. قل: اثنتين. والثالثة فتنة تكون في أمتي". قال عوف: وعظّمَها. قال: "والرابعة مَوَتان يقع في أمتي يأخذهم كقُعاص الغنم. والخامسة يفيض المال فيكم فيضاً، حتى عن الرجل ليُعطى المئة دينار يسخطها. قل: خمساً. والسادسة هنةٌ تكون بينكم وبين بني الأصفر، يسيرون إليكم على ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً، فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها الغوطة، فيها مدينة ويقال لها دمشق". صحيح. أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجه.
16- وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة". صحيح. أخرجه مسلم.
قال أحمد بن حنبل: أهل المغرب هم أهل الشام، وقد كان أهل المدينة – بناء على هذا – يسمون الأوزاعي إمام أهل المغرب، وهو إمام الديار الشامية، ولد في بعلبك 88 هـ، وتوفي ببيروت 157 هـ.
ثم أعقبت هذه المداخلة التي مناقشات وتعقيبات من الحاضرين، كان منها:
– ما السر الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينسب الشام إليه في قوله: "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" ؟
- ألا تعتقدون أن الأحاديث التي ذكرتها قد تتضمن طعناً في بلاد أخرى كالعراق مثلاً ؟
- ألا تعتقدون أن هذه الأحاديث هي من إنتاج فترة زمنية، وأعني أنها من الأحاديث التي وضعت بعد معركة صفين ثم رسخت بعد سقوط الدولة الأموية ؟
وقد أجاب الدكتور عكام عن ذلك بقوله:
- ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا للشام بالبركة فمن الطبيعي أن ينسبها إليه وأن ينسب نفسه إليها.
- وأما عن أحاديث الفضائل المتعلقة ببعض البلدان كالشام مثلاً فنحن لا نتكلم – حين نذكرها – من وجهة نظر عصبية ولا بلدانية ضيقة. كما إننا لا نتكلم بصيغة الحسم والجزم والقطع، بل بصيغة موضوعية، فنقول: هذا رأينا، وهذه حصيلة اجتهادنا، وهذا ما وصلنا إليه.
- وأما عن احتمال كون هذه الأحاديث موضوعة، واستخدامها من قبل بعض الفئات ضد الأخرى، فإني لا أنكر هذه الاستخدام، فلقد استعملها الأمويين وغيرهم ضد خصومهم السياسيين ومنافسيهم من أرباب الفرق الأخرى، ولكنني عندما أذكرها الآن فإني لا أوجهها باتجاه فترة زمنية معينة مضت أو لا تزال قائمة، بل أفهمها على أساس أنها إشارة إلى الفتن والملاحم وما سوف يقع في آخر الزمان. لأنني لا أستطيع أن ألغي هذه الأحاديث ولا أن أردها كلها، خاصة وأنها قد ثبتت بمعايير أرباب الحديث، وهي معايير نقدية دقيقة لا تقل عن معايير أشد المؤرخين تشدداً، بل إنها تزيد عليها في تحري التوثيق والصحة في النقل.
التعليقات