آخر تحديث: الجمعة 15 مارس 2024
عكام


لطيفة قرآنيــــة

   
طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى

طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى

تاريخ الإضافة: 2006/03/31 | عدد المشاهدات: 4674

سيكون حديثنا اليوم في اللطائف القرآنية عن الآيات الأولى من سورة طه، وهي قوله تعالى: ﴿طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى﴾.

وفي البداية أسأل: ما المقصود بالشقاء في الآية الكريمة ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾؟

ولمعرفة المقصود من ذلك لا بد من معرفة مقابل (الشقاء) في القرآن الكريم وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما في القرآن الكريم فقد وردت مشتقات الكلمة بالتقابل مع ضدها مرتين، وهي قوله تعالى في سورة هود: ﴿يوم يأتِ لا تكلم نفسٌ إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد* فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق* خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد* وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ...﴾هود: 105-108.

وأما في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد وردت الكلمة أيضاً في مقابل السعادة، ومن ذلك الحديث الذي أخرجه الشيخان في خلق الإنسان، وفيه: "فيكتب اللهُ عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد". فالشقاء في مقابل السعادة، والشقي في مقابل السعيد.

وإذا أردنا أن نعرف معنى (الشقاء) ينبغي أن نحدد معنى (السعادة). ولقد بحثت في مدلول كلمة السعادة، ووصلت منذ سنوات إلى أن السعادة بالنسبة لي تقوم على اطمئنان الداخل، فالسعادة أمران: اطمئنان الداخل وتنظيم الظاهر. فقوله تعالى: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾، أي: ما أنزلنا عليك القرآن ليكون داخلك مضطرباً به وغير مستقر ولا مطمئن. ويؤكد هذا المعنى، وأن المراد بالشقاء اضطراب الداخل وعدم استقراره، الآيات السابقة لسورة طه، وهي الآيات الأخيرة من سورة مريم، أي قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً* فإنما يسّرناه بلسانك لبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً* وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً﴾ مريم: 96-98. وكأن هذه الآيات تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أنت مبشر ومنذر، وليس لك من الأمر شيء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تجعل داخلك مضطرباً بسبب الخوف عليهم، فلعلك باخع نفسك على آثارهم، لكننا ما أنزلنا عليك هذا القرآن ليضطرب داخلك بسبب هؤلاء الذين يُعرضون.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين يبشر وينذر يبدو وكأنه (مضطرب) حيال من بشر وأنذر، فلم يؤمن، وتابع طريقه ممعناً في الغي، فجاء القرآن الكريم ليقول له: إنما أنت مبشر ومنذر، وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. واللام في قوله تعالى: ﴿لتشقى﴾ لام التعليل. فلا تتعب نفسك ولا تشقها، فإنما أنت مبشر ومنذر. وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في الآيات اللاحقة، في قوله تعالى: ﴿إلا تذكرة لمن يخشى﴾. فإنما أنت يا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – مذكر، ومن أراد ألا يتبع وأن يعلن المحاربة، فليس عليك هداه، ولا تجعله سبباً في اضطرابك وشقاء نفسك. فالشقاء هنا إذن هو الشقاء الدعوي، وليس الشقاوة الإثمية التي تكون نتيجة للمعصية، إنه الشقاء الدعوي الذي قد يتعب الداعية ويؤثر على مسيرته. لكن الله تعالى يقول لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجعل نفسك مضطربة بسبب تخلف هؤلاء عن الهدى وإعراضهم عنه، فالنتيجة غير مطلوبة منك، وليس عليك هداهم، وإنما أنت مبشر ومنذر ومذكر.

ومن هذا القبيل قول المعلم للطالب: لا تشقَ بالتفكير في النتيجة – وإن كان هذا التفكير مشروعاً في أصله – لأن هذا قد يؤثر على عملك ونشاطك، وقد يجعلك تشعر بالحزن أو بالفرح، وكلاهما مؤثر. إذن السعادة هي اطمئنان الداخل، والشقاء اضطراب الداخل، وهذا يذكرني بقول من قال:

ولست أرى السعادة جمع مال                    ولكن التقي هو السعيد

فإن لم يكن داخلك مطمئناً فلست سعيداً، وإن كانت الدنيا كلها بين يديك، لأن السعادة في الداخل.

ولكن: كيف تأتي السعادة إلى الداخل ؟... بالإيمان !

فداخلك محتاج إلى ما يناسبه ليكون مطمئناً، والإيمان هو الذي يناسب الداخل: ﴿يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين﴾ الحجرات:17، ﴿الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ الرعد:28.

من كان يظن أن سحرة فرعون - الذين كانوا من جنوده، وأعواناً مساندين له – سينقلبون هذا الانقلاب الكلي ؟

لا شك في أنهم لم يكونوا مطمئنين عندما كانوا مع فرعون، ولكنهم بعد أن آمنوا اطمأنت قلوبهم، واطمأن داخلهم، وانظروا إلى جوابهم لفرعون عندما قال لهم: ﴿قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى﴾ طه:71. انظروا إلى جوابهم لفرعون، لقد قالوا له وقد سعدوا بالإيمان واطمأنت سرائرهم: ﴿قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾ طه/72. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا التي لا تمنح سعادة: ﴿إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى﴾ طه/73. السعادة استقرار الداخل، فإن استقر داخلك فأنت سعيد، ولو سألنا مئة إنسان: هل أنت سعيد ؟ أظن أن تسعين منهم سيجيبون: لا !

لماذا ؟ لأن قضية الإيمان غير مفعّلة.

فعّل الإيمان بالله تسعد، ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك يوم وقف ودعا فقال: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، لكن عافيتك هي أوسع لي".

كما تعلمت منه تلك الأنصارية التي أخبرت عمن قتل من أهلها وبنيها وهي تسأل: ما فُعل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فلما رأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً قالت له: لا أبالي إذا سلمت بمن هلك. اللهم إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، لكن عافيتك هي أوسع لنا، الحمد لله رب العالمين.

 

التعليقات

شاركنا بتعليق