أولاً:
كلماتٌ رشيدة، بل صرعاتٌ منذرة، يُرسلها حكيمٌ قد أبصرَ عارِضَ سوء يريد أن يُمطر أمته، فنادى:
إنه لا يقوم بهذا الدين إلا من حاطه من كل جوانبه. وأعظم عنوان يُحيط بالإسلام "رحمة" تقوم على عدلٍ وإحسانٍ وإيتاء. فأين إسلام اليوم، المرهون إلى المسلمين، من هذه العناوين ؟!
وما بال سيماه قد ارتبطت في أذهان العالم بقَتَرة الحرب والعنف والإرهاب ؟!
فأنصتوا يا بني قومي إلى الناصح الأمين، ولا يستخفنَّكم الغالون.
بهذه الكلمات عرفت "دار فصلت" الناشرة، كتابَ المفكر الإسلامي الدكتور الشيخ محمود عكام الجديد: "التطرف والاعتدال، وقضايا مقاربة...".
ومؤلفه يشعر بالأسى لكتابته هذا الموضوع، ويتمنى أن لو كتب عن التطور والتقدم، أو عن ريادة العالم الإسلامي الراهن، المفقودة. ولكن... يعتذر لربه، ويدعو بني قومه للتدارك.
بما أننا ظلمنا أنفسَنا ودينَنا وتاريخَنا، فلنتحدث عن أمورٍ تلفتنا نحو الوعي المستقرِّ في دواخلنا، الذي هو ما نبغي الوصول إليه.
أما مواضيع الكتاب فقد تنوعت بين:
الحديث عن الحرية، والأصولية الإسلامية، والحركات السياسية الإسلامية، وتعليقاتٍ على أحداث مضت، ومصارحات ومناشدات...
ولنقف عند بعض مواضيعه تلك.
- في البداية يتحدث عن المقامات الثماني التي تشكّل الحرية، ونقرأ في المقام الأول عن الخط الدقيق الذي يفصل بين الحرية والعبودية، تماماً كما هو الفرق بين الغنى والفقر. ثم يُفصّل مفهوم الحرية ويحددها في المقام الثاني، لينتقل إلى الثالث الذي يبين أن الحرية عنوانُ جماعة ومجتمع وأمة، قبل أن تكون عنوان فرد أو مجموعة، وأنها -الحرية-مطلبٌ إنساني يحققه الإنسان عبر جهاده وكفاحه، أما الجهاد فهو سعي حثيثٌ بالكلمة، وتضحية بالعبودية، للوصول إلى الحرية، التي تحمل في دلالات القرآن كل معنى إنساني جميل.
وما استمرارُ أنصار الإسلام بوجودهم وثِقلهم، إلا دليل على مناداته بالحرية المنشودة في عالم الإنسان، وفي مقامات الدكتور عكام.
أما المقام السابع: فيبين أن القوي مَن يُشعِر الآخر بقدرته على الاختيار.
وأخيراً: فالمعايير التي تحكم المجتمع الصالح هي: الحرية والحق والعدل. فلنتعرف على حقوقنا، وعلى حقوق الآخرين، لنوصف بالعدل.
- وفي موضوع آخر (الإسلام بين التطرف والاعتدال) يتحدث مؤلفنا عن إسلامٍ يئنّ من متطرفين يُنسبون إليه، ويُذكّرهم بالمقولة العظيمة التي قالها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصيته لأحد ولاته: "أشعِر قلبكَ الرَّحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطفَ بهم. فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".
فالمسلم يحرص على العدل والاعتدال، (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن: 9، والوزن يجب أن يقام بالقسط، وليست إقامته بالقسط أن تعدل حينما تَزِن طعاماً، أو تكيل شراباً، بل العدل في الدائرة الإنسانية الأوسع، و (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) البقرة: 21، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) سبأ: 28.
و "يا أمة الإسلام:
التطرف في كل الدوائر مرفوض، وهو تشويه للدوائر التي أرادها الله منتظمة جيدة".
- وينادي الدكتور عكام الأمةَ في أيامها الصعبة، فيقول: "إنها صرخات! وقد لا يكون ثمة من يستمع لها أو ينصت. ولكن حسبُ الصارخ اعتقادٌ مفاده أن الكلمة الجادَّة باقية غير فانية، ومؤثرة ولو بعد حين".
فيا أيها الشعوب تيقظوا، ويا أيها الحكام ابحثوا عن حلٍّ جذري لمشكلة التعامل مع الإسلام، وما دعوتُنا بحلم، فـ "لسنا بحالمين، وما نبغي أن نصير كذلك، ولكننا مجاهدون أو مشاريع مجاهدين، ووعينا يتكامل في هذه الكلمات".
- لا للتفجير ... نعم للتعمير. "فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المُفجِّرون، لعلنا نفلح ونتقدم، ونقدم للإنسان أمناً وأماناً وراحة".
فما سر التفجير، وما سببه، وقد أخاف التفجيرُ العالمَ كلَّه، فهل الفجور أدى إلى التفجير ؟! لكن العتب ليس على المفجِّر وحده، بل اللوم الأكبر على المسبِّب والآمر والمنظر والمفلسف.
"أما المنفذون فهم -وأيم الحق- أغرار مغرَّرون، لا تتجاوز آمالهم الموت تمزيقاً ليستجمع نفسَه فيما بعد في نعيمٍ مقيم، أو ذكرى خالدة لدى أمثاله من بسطاء الخليقة".
- الإسلام والحرب: والعطف هنا يقتضي التغاير، فليس ثمة تجانسٍ بين الإسلام والحرب" وكيف يكون بينهما تجانس وهو يُنفِّر منها، ويدعو لإطفاء نارها: (كلما أوقوا ناراً للحرب أطفأها الله) المائدة: 64، شريطةَ أن يكون رداء السِّلم والسَّلام على أُهبة الاستعداد لممارسة بسط رداء السلم والسلام عبر القول والفعل.
هذه بعض مواضيع كتاب: "التطرف والاعتدال، وقضايا مقاربة"، ومَنْ أولى بالكتابة عن الاعتدال من رجلٍ أحبَّ الاعتدالَ ودعا إليه، والتزمَه فكانَ منهاجه، وكَرِه التطرّفَ ودعا لنبذه.
أما المواضيع الأخرى، فلن أتحدث عنها، لأترك للقارئ متعة العود إلى هذا السِّفر وقراءته بتمعن وفهم، ليقرأ فيه أيضاً:
النصر قادم، ولكن إلى متى ؟! وليسمع دعوة الدكتور عكام العربَ للإجابة والإغاثة قبل فوات الأوان: "يا عرب أجيبونا وأغيثونا، وإلا".
وليقرأ أيضاً عن عدو الإنسان، وعن حرب ومقاومة وانتصار لبنان، والوحدة قبل فوات الأوان وتلقي اللعنة، حتى لا تزداد دموعنا من أجل الوطن، وتتكسر أحلامنا وتكثر، بعد أن غدونا في عرف الناس حالمين.
دراسة: أحمد محمد خطيب
ثانياً:
التطرف والاعتدال وقضايا مقاربة
صدر لسماحة الدكتور محمود عكام مفتي حلب، مستشار وزير الأوقاف، كتاباً بعنوان: (التطرف والاعتدال، وقضايا مقاربة، السلام والحرب، المقاومة والإرهاب، الأصولية، الوسطية) وهو يتألف من 125 صفحة من القطع الوسط، والورق الأبيض الصقيل.
حملت عناوينه العديد من الأبواب والفصول منها:
مقامات فكرية في مفهوم الحرية، والأصولية الإسلامية: نشأة وملامح وتأثيراً على العيش المشترك، والحركة الإسلامية السياسية، تعلقيات ومصارحات ومناشدات، نداء للأمة في الأيام الصعبة، الإسلام والحرب، دمعة من أجل الوطن، وغيرها من العناوين...
في باب مقامات فكرية في مفهوم الحرية يُعرِّج بنا الدكتور عكام إلى فضاءات الحرية النبيلة التي تؤكد على احترام الإنسان لفعل وقول إنسان آخر حتى وإن لم يرق لنا ذلك الفعل أو القول، وتعني حرية الآخر أن يكون معنا أو نكون معه, و الحرية عنوان جماعة ومجتمع وأمة قبل أن تكون عنوان فرد أو مجموعة، والحرية مطلب لا يُمنح من الإنسان إلى الإنسان، ولكنه مطلب يحققه الإنسان بذاته وعبر جهاد وكفاح، ولا أعني بالجهاد قتلاً مسلحاً أو عراكاً مادياً، لكني أقصد به سعياً حثيثاً بالكلمة الجادة، وتضحية بالعبودية المرفوضة للوصول إلى الحرية، وما كان الإسلام في يوم من الأيام لينقص قدر الحرية كقيمة إنسانية عظيمة، ويبقى الإنسان الواعي ينتمي إليه ويضحي من أجله بالغالي والنفيس.
ويتحدث في الباب الثاني عن الأصولية الإسلامية نشأة وملامح وتأثيراً على العيش المشترك من خلال وجهات النظر التاريخية المتباينة للأصولية الإسلامية والإسقاطات المعاصرة عليها.
كما ويؤكد الدكتور عكام أن الإسلام ليس دين تطرف، بل هو ضد التطرف، لأنه دين العدل، والتطرف في كل الدوائر التي يرسمها العقل النقدي مرفوض، سيما أن الإسلام لا يقر العنف، ففرق بين الجهاد والمجاهدة. العقل لا يخلط، والدين يقف ضد الخلط وضد القهر مهما كانت مصادره وسلطاته، فالقهر هو إرهاب، والإرهاب الذي هو اعتداء على الآمن غير الظالم.
في التطرف والاعتدال يريد الدكتور عكام أن نعمل العقل (عقلنا)، فلا سلطة عليه سوى سلطة البرهان العقلي، فأي اجتهاد أو إصلاح يجب أن ينبع من العقل، لأنه وحده من يفسر ويؤول كي يعطي النص قوة الحياة.
جريدة الجماهير: 14/2/2008
التعليقات