آخر تحديث: الجمعة 29 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
التقوى وأركانها/ الجامع الأموي الكبير بحلب

التقوى وأركانها/ الجامع الأموي الكبير بحلب

تاريخ الإضافة: 2008/05/02 | عدد المشاهدات: 3716

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

من منا لا يحب كلمة التقوى ؟ ومن منا لا يريد الاتصاف بها ؟ ومن منا لا يريد أن يصف بها من يحب ؟ ومن منا لا يحب أن تكون التقوى سمته وأن تكون التقوى ملء حياته وحياة أولاده، تريد لولدك أن يكون تقياً وتريد لأخيك أن يكون تقياً وتريد لحاكمك أن يكون تقياً وتريد لمديرك أن يكون تقياً وهكذا...

لكن المشكلة ما المراد من التقوى ؟ كل ما أخشاه أن تكون هذه الكلمة بالنسبة لنا كلمة غائمة عاتمة ضبابية لا نعرف دلالتها، وبالتالي لا يمكننا أن نطبقها أو أن نتحقق بها أو أن نكون واصفين صادقين لمن نصفهم بها بالتقوى.

التقوى من حيث اللغة اتخاذ وقاية، فأنت إذا أردت أن تكون تقياً فما عليك إلا أن تتخذ وقاية، هذه الوقاية تمنع من أن يتسرب إليك ما يؤذيك، ألا تتخذ اللباس السميك في الشتاء من أجل أن تتقي البرد ؟ ألا تتخذ الرداء عندما تريد أن تنام ليقيك ما يمكن أن يصيبك من أذى أو برد ؟ أرأيت إلى هذا الذي تلبسه، هو عبارة عن وقاية يقيك ما يمكن أن تتصف به من خروج عن القانون والأعراف والدين إن خلعت هذا اللباس الذي عليك اُتهمت في عقلك، تسرب إليك ما يؤذيك، اُتهمت في عقلك وفكرك واجتماعيتك. فالتقوى في أصلها اتخاذ وقاية تمنع من أن يتسرب إليك ما يؤذيك ولذلك وصف ربنا عز وجل التقوى في القرآن الكريم باللباس فقال: ﴿ولباس التقوى ذلك خير﴾. إذا أردت أن تمنع عن جسمك وعن عقلك وعن فكرك وعن قلبك ما يؤذيه فما عليك إلا بلباس التقوى.

هذا هو التعريف العام للتقوى، لكننا نريد أن نتحدث عن أركان التقوى، عن مكونات هذا اللباس، فما مكونات هذا اللباس، وما أركان هذه الصفة التي نريد أن نتصف بها ؟ سأذكر لكم صفاتٍ ثلاث، إن رأيتموها في أنفسكم فأنتم أتقياء، إن رأيتموها فيمن تريدون أن تحكموا عليه بالتقوى فإنه تقي، هذه الصفات الثلاث دقيقة للغاية فكونوا على بينة منها:

الركن الأول للتقوى: إخلاص التوجه لله جلت قدرته: عليك أن تخلص في توجهك لله، عليك أن تعتقد أن الذي يُتوجه إليه في كل شأن من شأنك هو ربك، قل لي بربك لمن تتوجه في صلاتك ؟ لمن تتوجه في عملك ؟ إن كان المُتوجه إليه هو الله فاعلم أنك حققت ركناً من أركان التقوى، قال ربي جلت قدرته: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾، وقال ربي أيضاً: ﴿إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً﴾، وقال ربي عز وجل: ﴿وسيجنبها الأتقى. الذي يُؤتي ماله يتزكى. وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى﴾، أخلص في توجهك تنل ركناً من أركان التقوى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح الإمام مسلم: (التقوى ههنا) وأشار إلى صدره الشريف، والإخلاص ههنا الإخلاص في صدرك.

الركن الثاني للتقوى: الاعتقاد واليقين أن الله وحده هو المؤثر المطلق: وهو مسبب الأسباب، واعلم أنه لا يضر وينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يفرق ولا يجمع إلا الله، عليك أن توقن أن المؤثر المطلق هو الله، ولذلك: ﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا﴾، ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾. كان بعض الصالحين يضع في جيبه آية إذا ما ألم به مصيبة أو خوف أو جزع أخرج هذه الآية وقرأها: ﴿واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا﴾، المؤثر المطلق هو الله: ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير﴾، ﴿أليس الله بكافٍ عبده ويخوفنك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد﴾. المؤثر المطلق هو الله: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

المؤثر المطلق هو الله، الذي وضع الرقبة -كما يقال في اللغة العامية-  هو الذي يفكها، الذي خلقني هو الذي يميتني، ولا يستطيع أحد أن يكون مكان ربي في التأثير المطلق عليّ، إنما هذه البرايا هباء، لكن الفاعل المطلق هو الله، أرأيتم إلى سحرة فرعون يوم أسلموا هددهم فرعون بالقتل والصلب والإماتة، ماذا أجابوا ؟ ﴿قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى﴾ هل أنت ممن تعتقد أن الله هو المؤثر المطلق وبالتالي لا تتوجه إلا إليه ؟ إذاً فأنت مشروع تقي، لأن التقوى لها ثلاثة أركان، الركن الأول للتقوى: إخلاص التوجه لله جلت قدرته، الركن الثاني للتقوى: الاعتقاد واليقين أن الله وحده هو المؤثر المطلق.

الركن الثالث: السعي من أجل أن تكون أعمالك وأقوالك وأفعالك مضبوطة بضابط الشرع: التقوى ليست حبيسة الصدر فقط، إنها تحتاج إلى برهان ألا وهو العمل والسعي من أجل أن يكون عملك وسعيك مضبوطاً بشرع ربك، بشرع من تعتقد أنه المؤثر المطلق، لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلاماً تجوب يده في الصحن وهو يأكل، أراد منه أن يضبط أفعاله وسلوكه بضابط الشريعة وإلا فالتقوى منقوصة، قال له: (يا غلام، سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك) علينا أن نسعى من أجل أن نضبط أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا بضابط الشرع، ﴿ولا تمش في الأرض مرحاً﴾ هذا ضبط لسلوكك ﴿إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير﴾، ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً﴾ يضبطون أفعالهم وأقوالهم بضابط الشرع ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً. والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون...﴾ لا يشهدون الزور، يجتنبون الإثم...، آيات كثيرة في القرآن الكريم، الركن الثالث أذكركم حتى لا تكون خطبة الجمعة عبارة عن سماع كلمات غير محددة، وبالتالي لا يمكن لغير المحدد أن يكون مطبقاً، نحن نتكلم عن أمور محددة، الركن الثالث أن تسعى من أجل أن تكون أعمالك وأقوالك وأفعالك مضبوطة بضابط الشرع، بضابط القرآن، بضابط سيدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، سمحا إذا قضى) عليه أن يضبط بيعه وشراءه وعطاءه وأخذه بضابط الشريعة، روى الإمام البيهقي أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال وهذا الحديث من جوامع كلم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها, وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رخصة لكم ليس بنسيان، فلا تبحثوا عنها) اضبطوا سلوككم من قول أو فعل أو حركة أو سكنة بضابط الشرع فإنك إن سعيتم بذلك كنتم على درجة من التقوى مقبولة.

التقوى ثلاثة أركان، إخلاص التوجه لله جلت قدرته، الاعتقاد واليقين أن الله وحده هو المؤثر المطلق، السعي من أجل أن تكون أعمالك وأقوالك وأفعالك وحركاتك وسكناتك مضبوطة بضابط الشرع، هذه أركان التقوى، فإن وجدت هذه الأركان فيك فأنت تقي، وإن وجدتها في جارك فهو تقي، وإن وجدتها في أي إنسان مسلم فاعلم بأنه تقي، ها قد عرفت صفات المتقي فهلا حثثتَ السير من أجل أن تكون تقياً ومن أجل ان تتحقق بهذه الأركان، واعلم في النهاية أن العاقبة في الدنيا والآخرة للمتقين: ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين﴾ أتريد أن تتعرف على بعض الجزاء والأجر فيما إذا كنت متقياً ؟ إذن اقرأ قوله تعالى: ﴿إن المتقين في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾ اقرأ قوله تعالى: ﴿إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً﴾ اقرأ الآيات الكثيرة التي جعلت للمتقين منزلة عظمى في الدنيا قبل الآخرة، فالمتقون أحباب الله عز وجل والمتقون أولئك الذين يشكلون مصابيح الدجى.

يا ربنا أسألك بحق أسمائك أن تجعل أبناءنا من الأتقياء وطلابنا من الأتقياء وطالباتنا من التقيات ونساءنا من التقيات وحكامنا من الأتقياء وأن تجعل شيوخنا وتجارنا من الأتقياء وأطباءنا من الأتقياء وموظفينا من الأتقياء لأنهم إن كانوا أتقياء كان المجتمع المتطور.

اللهم حققنا بالتقوى بأركانها حققنا بإخلاص التوجه إليك وحققنا بالاعتقاد بأنك أنت الفاعل والمؤثر المطلق وحققنا في أن نضبط سلوكنا وأقوالنا وافعالنا بضابط الشرع، نعم من يسأل أنت ونعم النصير انت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت في الجامع الأموي الكبير بحلب بتاريخ: 2/5/2008

 

التعليقات

شاركنا بتعليق