آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


بحوث و مقولات

   
السنن الإلهية وأثرها في حركة التاريخ من منظور إسلامي

السنن الإلهية وأثرها في حركة التاريخ من منظور إسلامي

تاريخ الإضافة: 2000/01/01 | عدد المشاهدات: 6327

تَصدير:

الحمدُ لله علَى مَا أنعَم، ولهُ الشُّكرُ علَى ما علَّمَ وألهَم، أحمَدُهُ علَى عُمُومِ فعَالهِ وعَميمِ نَوالهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى وليِّنا محمَّدٍ وآلهِ، وصَحبهِ النَّاسِجينَ علَى مِنوَالهِ، وبعدُ:

فلَستُ أَعدَمُ عَاقِلاً أُوافِقُه أَو يُوافقُني علَى أنَّ حَاضِرَ الفَلسفةِ في كَبوةٍ وتَأزُّق، وأنَّ النَّاسَ منهَا في جَفوةٍ وتَعفُّف، ثمَّ لا أَفتأُ سَائِلاً أَو مَسؤُولاً:

هَلْ لِلفَلسفةِ أَن تَنشَطَ مِن فَتْرَتها، لتَأتلِقَ في فضَاءِ الحكْمةِ الإنسانيَّة بمَا مَا يشَاؤُه الإنسانُ، وأَعني بمَا لا يزالُ يَنشدُه صَادِياً لاغِباً مِن بَهجةٍ واطْمئنَانٍ معَاً ؟

وهَلْ للإنسَانِ وقَد انْسلَختْ عَنهُ الدُّهورُ بالحيرَةِ والإعيَاء أَن يَأويَ إلى رُكنٍ فَلسفيٍّ شَديد، وأَعني إلَى فلسَفةٍ تبثُّه مِن ذاتِهَا نَفْخةَ الإحيَاء، فتُجرِيَ في حضَارتهِ المُتداعيَةِ أسبَابَ الحرَكةِ والحرَارةِ والضِّياء(1) ؟ وقد كانَ في جُلِّ أحيانِه يَأوي إلَى فلسَفاتٍ فيَجِدُ منهَا مسَّ خَلْبٍ وابتهَاج، ولكِن ندرَ أن كانَ يَجِدُ منهَا مَسَّ سَكينةٍ واطمئنَان !.

وظنِّي بالإنسَانِ وهُو يَرودُ معالمَ التَّاريخِ في حمَى الفَلسفةِ أَن يقعَ علَى مثْلِ هذَا النَّادرِ العَزيزِ(2)، فيُصِيبَ به غُنماً ؛ إن لَم يكُنْ مادَّة الحقيقةِ أو كلَّها، فلَا أقلَّ مِن أَن يكونَ صُورتَها أَو بعضَها.

وأَنا بفَلسفَةِ التَّاريخِ - وهذَا شَأنُها - مَا كنتُ لِأرقَى بهَا عَن رُتبةِ ( الظَّنِّ ) أو حُدُودِ ( البَعض )، مُضاهِئاً قولَ مَن قالَ مِن قبلُ: (إنَّ زواجَ التَّاريخِ منَ الفلسَفةِ كَثيراً ما يَبوءُ بالعُقمِ أو الإخفَاق، وهُو مِن بعدُ لا يُنجِبُ غيرَ الشُّكوكِ والظُّنونِ)(3) ، ولكنَّني إذْ أرَى بُدوَّها في آيِ القُرآنِ وصُحُفِ الحدِيث أَعلمُ أنَّها سَائرةٌ بالإنسَانِ إلى يُنبُوعِ الحقَائقِ ومَعدِنِ النَّواميس، مُوقناً بمَا قَالهُ الله ولمَّا يزَلْ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ البقَرة:252.

علَى أنَّ النَّاظرَ في مثلِ هذَا البابِ يَلزَمهُ في غَيرِ انفكاكٍ المَيزُ بينَ التَّأريخِ في منهَجِهِ الرِّوائيِّ والجُزئيِّ، وبينَ التَّاريخ في منهَجِهِ التَّعليليِّ والكلِّي:

- فالأوَّلُ: مُنضَمٌّ علَى نُقولٍ مَصفُوفةٍ بتَوالٍ، تتَّجهُ منَ الماضِي إلى الحاضرِ في مَشهَدٍ سَرديٍّ ورِوائيٍّ ظَاهرٍ ليسَ غَير، يَعرِفُ الإنسَانُ بهِ كيفَ كانَ ثمَّ لا يَزيدُ.

- أمَّا الثَّاني: فمُنطَوٍ علَى علَلٍ ونَواميسَ مطَّردةٍ، يَتَّجهُ الفكرُ بهَا منَ الحاضرِ إلى الماضِي في مَشهَدٍ استرداديٍّ واعتبَاريٍّ عَميق، يتَجاوزُ بهَا الإنسانُ معرفةَ كيفَ كانَ إلى مَعرِفةِ كيفَ هُو كائنٌ.

علَى أنَّ أمثالَ هذِه العلَلِ والنَّواميسِ ليسَت تَعدُو طورَ الفرَضِ إلَى طَورِ الحقيقَة، كما لَيسَت تَنفُذُ مِن قُطرِ الجزئيِّ الموقُوت إلى فضَاءِ الكليِّ المُطلَق، إلَّا بسُلطَان، ثمَّ إنَّ هذَ السُّلطانَ ليسَ يقدِرُ علَى مثلِ هذَا الإنفاذِ العَسِر مَا لَم يُصنَع علَى عَينِ مُتجالٍّ، يتنزَّهُ عَن أَعلاقِ الزَّمانِ والمكانِ بأَسرِها، كَي يَستقيمَ لهُ الانتقالُ بالإنسَانِ مِن ظَنائِنِ الذَّاتِ إلَى حقَائقِ الموضُوعِ، ومِن أَحيَازِ الواقعِ وأَحيانِه إلى آفاقِ التَّاريخِ وآمَادِه،، فيكونَ لهُ أشبهَ بمَعمَلٍ لتَفجيرِ الذرَّة، ذرَّةِ (الآن) من قيُودِهَا الزَّمانيَّةِ والمكَانيَّة، لتُضحِيَ طاقةً تَظلُّ سَاريةً، وتَظلُّ مَصدَر تَوليدٍ وإمدَاد.

وفي المنظُورِ الذي التزَمتهُ في هذَا البَحثِ، أَنهدُ إلى المصدَر الإسلَاميِّ في أَصلَيهِ المُتعاطِفَين، علَى أنَّه ذلكَ المعمَلُ العَجيبُ، أَستَلْهِمهُ بَعضاً من تلكَ الطَّاقةِ العِلميَّة النضَّاخَة، بمَا أطالُعهُ فيهِ من قَوانينَ تاريخيَّةٍ كُبرَى، تُلاحِمُ بينَ ما هُو مَعيشٌ ومَشهُودٌ وبينَ مَا هُو مَعلُومٌ ومَنقولٌ، وأَعني تِلكَ (السُّننَ الإلهيَّة) التي تَجمَعُ النَّاسَ والتَّاريخَ والحضَارةَ في وَحدةٍ إنسَانيَّة شَائعَة، مَساكُها البصَائرُ(4) النَّظريَّةُ والعمَليَّة، بمَا تَستَتبعهُ مِن قضَايا الارتقاءِ والتَّقهقُر والتَّفاعُلِ الإنسَانيِّ علَى طُولِ التَّاريخِ، بحَيثُ لا يَعيا النَّاظرُ فيهَا بفَهمِ مَا وراءَ الحوادثِ الغابرَةِ والمظَاهرِ الحاضِرَة ممَّا لهُ صفةُ الحقيقَة، ولا يَتخبَّط مِن بعدُ في تتبُّع مطَارحِ القيمَةِ والبواعثِ العاملَة التي تَشدُّه إلَى النَّجاح أو تَدفعُ به إلَى الإخفَاق.

علَى أنَّ الأمرَ يَظلُّ قيدَ التَّلجلُجِ والتَّردُّد مَا لَم يُسلِّم الإنسانُ بحَاكميَّةِ السُّننِ علَى التَّاريخ، لا بحَاكميَّة التَّاريخِ علَى السُّنن:

- فهُو في الطَّريقَةِ الثَّانيةِ قَد يَرتكِسُ في منهَجٍ ضيِّقٍ محدُودٍ، أَو قَد يَبوءُ بمَنهجِ تَعضيةٍ واجتزَاء، فيَنتَقِي مَا يُسعِفُ مَصَالحَهُ ويُرضِي مَطَامِحَهُ ليسَ غَير، وهوَ في المنهَجَينِ لَيسَ يأمنُ الوقوعَ في دُوارِ الاشتبَاهِ وحَومَةِ الالتبَاس إزاءَ كَثيرٍ منَ الوقائِع، ثمَّ لا ينشَبُ حتَّى يتردَّى في حَيرةٍ تُعجِزُهُ عَن اكتنَاهِ الصَّوابِ، فلَا تُلفيهِ إلَّا فَاغراً فاهُ في شَدَهٍ وإبلَاس، لا يُحيرُ جَواباً ولا يُبدِي حِراكاً.

- ولَو أنَّهُ استَقامَ علَى الطَّريقَةِ الأُولى، أَي علَى الاحتكَامِ بالتَّاريخِ إلى مَوازينِ السُّنن الإلهيَّةِ الثَّابتَة، فلعلَّه أَن يَخلُصَ - وإن بعدَ اجتهَادٍ وجهَاد - إلَى مَحجَّةٍ لاحِبَة، تتلاشَى عنهَا الزُّيوفُ، وتَنتَصِبُ فيهَا سُننُ اللهِ منَائرَ وصُوًى، يَلزَمُ غَرْزَها، فتَنظِمُ لهُ خُطاهُ، وتَهبُهُ رُشدَه، وتُسدِّدُ لهُ فَلسَفتَه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ العَنكبُوت:69.

دَاعيةُ البَحث:

رُبما لا تَقِفُ في عُهودِ الإسلَامِ الأُولى علَى فَلسَفةٍ للتَّاريخِ مُبوَّبةٍ مفقَّرة، شأنَ سَائرِ العلُومِ النَّاشئةِ في مُحيطِ الإسلامِ، ولَا أحسَبُكَ أيضاً ترَى أنَّ المُسلِمينَ كانُوا عَن مثلِ هَذِه الفلسَفةِ في شُرودٍ وذهُولٍ، ولاسيَّما - وأنتَ تعلمُ - أنَّ القرآنَ كانَ يُرافِدهُم بزَادٍ تاريخيٍّ وَفير، إذ يَتلُو علَيهِم منَ القَصصِ أَحسَنَه، ومنَ النَّبأ أَصدَقَه وأنفعَه، بلْ إخالُكَ تَرى أنَّهم كانُوا يَنقلِبونَ عَن ذلكَ كلِّه ببَصيرةٍ تَاريخيَّةٍ حيَّة، تَحفِزُهم إلى صنَاعةِ التَّاريخِ حَفزاً مُلهَماً ومُباشِراً، دونَ المُرورِ بمَراحلَ فلسَفيةٍ مُتراكبَة، فقَد كانَ الإيمانُ المَشبُوبُ يَكفيهِم مَؤونةَ ذلكَ كلِّه، ولكِن لَا علَى وَجهِ التَّقانُع السَّاذَج، بلْ علَى وَجهِ التَّبصُّر الصَّادِق.

ولمَّا أَن آلَ الزَّمانُ إلَى ما ترَى مِن فُتورِ الوَعيِ وخُفوتِ التَّبصُّر، كانَ لِزاماً علَى الغَيارى أَن يَجهَدُوا في استفتَاحِ مَا انسَدَّ مِن سبُلٍ بينَ النَّاسِ وبينَ المنَاهلِ والأُصولِ، بمَا يُعيدُ إليهِم فُتوَّةَ الوَعيِ واتِّقادَ البَصيرَة، وذلكَ في عَملٍ فَلسفيٍّ دائب.

والحقُّ، أن مثلَ هذَا الهمِّ الفَلسفيِّ كان يُواثِبُ العُقولَ المُسلِمةَ لأوَّلِ عَهدِهَا بالتَّاريخ وبكتَابتِه، أَي منذُ ابتدَاءِ عَهدِها بتَدوينِ المعارِف والعلُومِ في القَرنِ الهجريِّ الثَّاني، ولكنَّه تفَاوتَ ضُمُوراً وظُهوراً، نُدرةً وكَثرةً، بحَسبِ الحاجةِ، علَى أنَّه مَا زالَ ينمُو ويَشتدُّ حتَّى بدَا جليَّاً لا يُنكَرُ ؛ إنْ في تَفاريقِ المَرويَّاتِ التَّاريخيَّة، أَو في تضَاعيفِ العلُومِ المُستنهلَة مِن آيِ القُرآنِ ومُتونِ الحدِيث.

حتَّى باتَ منَ الصَّحيحِ أن يُقال: إنَّ العقليَّة الإسلَاميَّة تَشكَّلتْ بمَنطقِ السُّنَن، غيرَ أنَّ أُصولَ هذَا المنطقِ بقِيَت - رُغمَ رسُوخها في الصُّدورِ والنُّفوس- دونَ تَفصيلٍ في السُّطورِ والطُّروس، وذلكَ إلَى عَهدٍ غَيرِ بَعيدٍ، إذ أخذَ هذَا العلمُ - علمُ السُّنَن - بالبزُوغِ في تَواليفِ المُتأخِّرين علَى نَحوِ اختصَاصٍ علميٍّ مُستَقلٍّ، وفَرعٍ فَلسفيٍّ مُعتَبر(5)، ومعَ هذَا، لَم يتفَصَّ هذَا العلمُ بَعدُ عَن عامَّةِ أَسرارِه ومعَالمهِ، كما لَم يتفرَّ عَن جُملَةِ أُصولِه ومَسائلِه، بلْ لَا يُجاوزُ الحقَّ مَن يدَّعي أنَّه لَم يَعدُ طورَ النُّشوءِ والتَّهيكُل، وأنَّ أبوابَ الإضَافةِ والإنضاجِ والإصقَالِ فيهِ لَم تَزلْ مُشرَعةً واسِعَة(6).

مَنهجُ البَحث:

علَى تَطاوُلِ البَحثِ والتَّنقيرِ فيمَا تنَامَى إليَّ مِن فَلسفَاتِ التَّاريخ المُحدَثة، لَم أَقعْ منهَا علَى مَا يَبلُّ الغلَّة إلَّا قليلاً، إذ كانَت الأفكَارُ التي بلَوتُها - خلَا ما كانَ صَادراً عَن مِشكَاةِ الوَحي - أشبهَ بضُروبِ التَّخمينِ وفلَتاتِ الوَهْم، وأقربَ ما تكونُ إلى جِنسِ الأمانيِّ والمطَامع، أَو المطَامح المحكُومةِ بالمصَالِح، أَو نَحوِ هذَا ممَّا ارتأيتُ وَسمَهُ مِن بعدُ بِـ (فَلسَفةِ التَّناوُشِ مِن مكَانٍ بَعيد)، فكانَ أَن أَورثَني ذلكَ حَيرةً أَعقَبَتني شُكُوكَاً وظُنوناً، حتَّى قلتُ في نَفسي: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ يونُس:36.

ولمَّا أَن تَفاقَمَتْ منِّي الشُّؤونُ، وتكاثَفتْ عليَّ الهمُومُ، أَرْفَأْتُ إلَى شَاطئِ القُرآنِ الأَيمَن - منَ اليُمن - أَسألُه مَا عسَاهُ يكونُ جوابَ مسَائلِ الإنسَانِ حيالَ التَّاريخِ وفَلسَفتهِ وحرَكتهِ، نَشأةً وسَيرُورةً ووِجهَةً ومَآلاً ، علَى أنِّي لَم أتكَّلفْ في ذِي المُساءَلةِ قَسْرَ مَداليلِ الآياتِ علَى نمَطٍ فَلسفيٍّ مُبيَّتْ، أَو مَشهَدٍ تَاريخيٍّ مُحدَثٍ، وإنَّما تحرَّيتُ (مَنهجَ التَّدبُّرِ) المَشرُوعَ، بلهَ الواجبَ في تَعاطِي آي الذِّكرِ الحكِيم، أَحتكِمُ إلَيه فيمَا اختلفَ فيهِ المُختلِفُون، وأَردُّ إليهِ أَهمَّ مَا أذاعُوا بهِ مِن مشَاكلَ ومحَائرَ، وأنا مُوقنٌ بأنَّ القُرآنَ كلٌّ بيَانيٌّ مُكتَمِل، لَم يدَّعِ أَمراً إلَّا وكانَ لهُ علَيه مِن ذاتهِ دَليلٌ، أَي مِن داخلِهِ، بمَا يَستَغنِي بهِ عَن دلائلَ خَارجَةٍ، ومَواضِيعَ مُضافَة(7)، علَى أنَّ ذلكَ ليسَ يُغنِي عَن بيَانِ النبوَّةِ، وبيَانِ العَربيَّة، فهُما منَ القُرآنِ كالشَّيءِ الواحِد.

وكانَ يَحدُوني علَى مثْلِ هذَا المنهَجِ سرَيانُ السُّننِ في آيِ القُرآنِ سرَيانَ المعنَى في اللَّفظِ المُؤتَنِق، أَو سرَيانَ البَريقِ في الماسِ المُؤتَلِق، وَلكِنْ.. لشَدَّ مَا كانَ يتَكأَّدُني نَظمُ تلكَ السُّنَنِ علَى وَفرَتِهَا وتَشعُّبِها في مَسيلٍ بَحثيٍّ، يَستقيمُ لهُ التَّتابعُ المَنطقيُّ والتَّحابكُ المَعقُولُ، وطَفِقْتُ أُخيِّرُني بَينَ مَنهَجَين اثْنَين:

1- بينَ أَن أَقفُوَ آثارَ الفلَاسفَةِ والمُتفكِّرينَ في هذَا البابِ، فأَحذُوَهَا وأَستَنسِخَها.

2- وبينَ أَن أنقادَ لآي القُرآنِ المُبينِ نَفسِهَا، فأَستَهدِيهَا وأَستَلْهِمَها.

وتَراءَى إليَّ بَعدَ لَأْيٍ أنَّ المنهَجَ الأوَّلَ خُطَّةٌ مُتراخِيةٌ وسَبيلٌ نَائيَة، ومِن ثمَّ، خَشِيتُ إنْ أنَا انْتهَجتُهُ ألَّا أَخرُجَ بأكثرَ مِن عَياءِ التَّقميشِ والجمْع، فَضلاً عمَّا فيهِ مِن غَائلةِ الإغفَالِ والغَمْطِ، مِن أَجلِ ذلكَ، كانَ الانتياطُ بآيِ القُرآنِ المُبينِ نَفسِهَا - فيمَا أحسَبُ - أَوثقَ تعوِيلاً وأَحسَنَ تأوِيلاً، وأَحكمَ منَ التَّعلُّقِ بشتَاتِ الآراءِ وشعَابِ الأفهَام، علَى أنِّي أَفدتُّ منهَا فلَسْتُ أَلْمِزُهَا بحَالٍ، وإنَّما أَردتُّ - وحَسْب - أَن يكُونَ المنظُورُ الإسلَاميُّ لأيِّ قَضيَّةٍ تاريخيَّةٍ أو حضَاريَّةٍ صَادِراً عَن القُرآنِ نَفسِه، أَي عَن مَجمُوعِ مَا يَسوقهُ في المَسألةِ الوَاحِدَة، وذلكَ بتَوسُّلِ العرَبيَّةِ، وصَحيحِ الحدِيثِ والأَثرِ(8)، وأُصُولِ الاستِنبَاطِ، وبتَعبيرٍ جَامعٍ: أَن يكونَ بيَانُ القُرآنِ في هذَا الشَّأنِ مَتبُوعَاً حَاكِماً، لَا محكُوماً تابعَاً.

وحَسْبي مِن هذَا المنهَجِ، أَنِّي كنتُ أَظفَرُ منهُ بعَاصمٍ مَنهَجيٍّ، أَفيءُ إليهِ كلَّما تاهَتْ بيَ المسَالكُ وتَجاذبَتني المذَاهبُ، فإذَا أنَا في طُمأنينةٍ وأَمانٍ، علَى أنَّني كُنتُ لَا أُعلِّلُ نَفسِي بأَن أَرجِعَ بأكثرَ مِن مُحاولةٍ جَادَّةٍ، حظُّها في أَنَّني أَورَدتُّها حيَاضَ القُرآنِ، فأصَابَتْ منهَا -كمَا أَرجُو - إنْ لَم يكُن الصَّواب، فلَا أقلَّ مِن أَن يكُونَ الثَّواب.

خُطَّةُ البَحث:

وقَد هَاءَتْ لي خُطَّةُ البَحثِ علَى فُصولٍ خَمسَةٍ:

- يَتقدَّمُهَا فَصلٌ مُوطِّىءٌ: وفيهِ ثلاثةُ مبَاحثَ:

عَرضتُّ فيهَا لبيَانِ مفهُومِ التَّاريخِ، ورُتبَتِهِ العِلْميَّة، ثمَّ عَرضتُّ لمَفهُومِ السُّنةِ الإلهيَّة ورُتبَتِهَا بينَ النَّزعَاتِ الفَلسَفيَّة، وفي المَبحثِ الثَّالثِ تلمَّستُ قدرَ حُجِّيةِ السُّننِ الإلهيَّةِ، إنْ مِن حيثُ الثُّبوتُ، أَو مِن حيثُ الدِّلالَة.

- ثمَّ كانَ الفَصلُ الأوَّلُ: (فَلسَفةُ النُّشوءِ الحضَاريِّ في التَّاريخ) في مبَاحثَ ثلاثَة، دارَتْ علَى سُنَّتَين رَئيسَتَيْن هُما:

1- سُنَّة الخَلْق: بمَا تَعنيهِ مِن تَقابُلٍ بينَ الوجُودِ الكونيِّ والوجُودِ الإلهيِّ، ثمَّ بمَا تَقتَضيهِ مِن استيحَادِ الإنسَانيَّةِ في ظلِّ الفَضلِ الإلهيِّ، علَى مُستَوى التَّكوينِ، ومُستَوى المعرِفَة.

2- وسنَّة الاصطِفَاء: بمَا لهَا مِن محلٍّ أسَاسٍ في فَلسفةِ النُّشوءِ الحضَاريِّ في التَّاريخِ مِن مَنظُورٍ إسلَاميٍّ، ثمَّ بمَا لهَا مِن رُتبةٍ مَنهجيَّةٍ في مَبنَى الفلسفةِ والكلامِ، وبمَا تَنفيهِ مِن معَانٍ غالطَةٍ وفهُومٍ خَاطِئَة.

- أمَّا الفَصلُ الثَّاني: (فَلسَفةُ الارتِقَاءِ الحضَاريِّ في التَّاريخ)، فعُنِيَ بسُنَّة التَّمكينِ في مَدلُولهَا الوَاسِع، وأَدلَّ علَى ثلاثةِ مبَاحثَ رئيسَة:

1- جاءَ أوَّلهُا تَفريقاً بيَانيّاً بينَ التَّمكينِ في بُعدِه الوجُوديِّ، وبينَ التَّمكينِ في بُعدِه الحضَاريِّ، ومَا يُشاكِلُه من سُنَنٍ مُتشَابِهة.

2- ثمَّ جاءَ المَبحثُ الثَّاني بَعرضِ مُؤيِّداتِ التَّمكينِ الحضَاريِّ في التَّاريخ، سَواءٌ فيهَا المؤيِّداتُ الشُّهوديَّة والمؤيِّداتُ الغَيبيَّة، بمَا يَتفرَّع عَليها مِن أَبعادٍ كامنَةٍ وظَاهِرَة.

3- وجاءَ المَبحثُ الثَّالثُ ببَيانِ غَاياتِ التَّمكينِ الحضَاريِّ في التَّاريخ، ونظَمهَا في أَربعِ غَاياتٍ كُبرَى مُتلاحِمَة، فكانَ منهَا غايةٌ رَافِعَة، وغايةٌ جَامِعَة، وغايةٌ مَانِعَة، فغَايةٌ عَاقِبَة، علَى ما فصَّلتُه في محلِّه منَ البَحث.

- أمَّا الفَصلُ الثَّالث: فتَعَنْونَ بِـ (سُنَنِ المُفاعَلةِ التَّاريخيَّةِ وسُننِ التَّفاعُلِ الحضَاريِّ)، وانبسَطَ في أربعةِ مبَاحث:

1- عرَضَ أوَّلُها لمَقاليدَ سُنَنيَّةٍ ثاَبتةٍ في حرَكةِ التَّاريخِ، يَنفعِلُ النَّاسُ بهَا اضطِّراراً.

2- ثمَّ عرَضَ الثَّاني لمُوجِّهاتٍ تَكليفيَّة مَسنُونَة، يَلزَمُها النَّاسُ اختِياراً، أَي حالَ اطِّرادِ علَّةِ التَّفاعُلِ الإنسَانيِّ.

3- وعرَض المبحثُ الثَّالثُ للمُوجِّهِ السُّننيِّ العَريضِ حالَ انعِكَاسِ علَّةِ التَّفاعُلِ الإنسَانيِّ، عَنيتُ بهِ سنَّةَ المُدافعَةِ في شقِّها الحضَاريِّ، وفي شقِّها التَّاريخيِّ.

4- وانتهَى الفَصلُ إلَى مَبحَثٍ رَابعٍ بيَّنَ التَّكليفَ السُّننيَّ النَّاظِمَ، أَو الذي يَنبَغي لهُ أَن يَنتَظِم عُمومَ الفِعالِ الإنسَانيَّة علَى امتدادِ التَّاريخ البشريِّ.

- أمَّا الفَصلُ الرَّابعُ: (فَلسَفةُ الانحِلَالِ والاضمِحلَالِ الحضَاريِّ في التَّاريخ)، فدارَ علَى سُنَّتين رَئيسَتَين:

1- أُولَاهُما: سُنَّة التَّقهقُرِ الحضَاريِّ: بمَا تَنِمُّ عَن مَسؤُوليَّةٍ إنسَانيَّةٍ مُباشِرَة، تَحكيهَا سُننُ التَّغييرِ والتَّبديل من جهَةٍ، وفَلسفَةُ الإلحادِ في الآياتِ مِن جهَةٍ أُخرَى، ثمَّ بمَا تَنضَحُ به تلكَ السُّنَّة مِن نُذُرٍ تظَالُميَّة، تَدورُ رحَاها علَى حضَارةِ الإنسَانِ، فتَعرُكُها عَركاً، حتَّى تُطرِّقَ بهَا إلَى مَهاوِي التَّقهقُرِ، بنَحوٍ سُنَنيٍّ مَشرُوطٍ.

2- والثَّانية: سُنَّة الجزَاءِ التَّاريخيِّ: بمَا تُبادِرُ بهِ مِن مَحاذيرَ دُنيويَّةٍ وجزَاءاتٍ مُعجَّلَة، وبمَا تدَّخرُه كذَلكَ مِن محَاذيرَ أُخرَويَّةٍ وجزَاءاتٍ مُؤجَّلةٍ، بنَحوٍ سُنَنيٍّ نَاجِز.

- ثمَّ كانَ الفَصلُ الخَامسُ: (سِيميَاءُ التَّاريخ) ليَستَجليَ نمَطَ الحركةِ التَّاريخيَّةِ ومُنتهَاها،وقَد قاربَ ذلكَ في مباحثَ ثلاثَة:

1- عَرضَ أوَّلُها لتَنمِيطِ الفَلسفةِ الوَضعيَّة لحرَكةِ التَّاريخِ في نمَطينِ رئيسَين؛ خطِّيٍّ باتجاهَيْن تَصاعُديٍّ وتَسافُليٍّ، ودَائريٍّ بنَحوَيْنِ مُنفَصلٍ ومُلَولَب، وانتهَى إلَى البَحثِ في أَيلُولةِ التَّاريخِ راصداً ومُعقِّباً.

2- وعَرضَ المَبحثُ الثَّاني للسُّننِ الوَاسِمَةِ لحركةِ التَّاريخ مِن مَنظُورٍ إسلَاميٍّ، فأثبتَ لَها النَّمطَ الوسطَ والتَّكامُلَ السُّننيَّ، إنْ في المَسارِ التَّاريخيِّ بنَحوِ مَا تَحكيهِ سنَّةُ الكَدح، أَو في المَدارِ الحضَاريِّ بنَحوِ مَا تَحكيهِ سنَّةُ الاستِخلَاف، أَو في المآلِ التَّاريخيِّ بنَحوِ مَا تَحكيهِ سُنَنُ الآجَال.

3- ثمَّ عَرضَ المَبحثُ الثَّالثُ للمَنظورِ الإسلَاميِّ في تَحقيبِ التَّاريخ، بمَا يتراءَى فيهِ مِن عَهدِ انفكَاكٍ فَارقٍ في مَسيرةِ التَّاريخِ، وبمَا تنَّشأ عنهُ مِن تجلِّياتٍ حضَاريَّةٍ في تَاريخِ الوجُودِ الإنسَانيِّ تَحكيهَا سنَّةُ الشُّهُود.

وبَعدُ، فهَذِه فُصُولٌ مِن بَحثٍ مُتشعِّبٍ مَديدٍ، أَردتُّ أَن أُلاحِمَ بَينهَا لحامَ النَّسيجِ الوَاحدِ، فتَظهَر مَعقُولةً مَقبُولةً، لَا بمَا أُضفيهِ علَى آياتِها وآثارِها مِن بيَانٍ وإيضَاحٍ هُو في ذاتِ أَلفاظِهَا، بَلْ بمَا أُساعِدُ علَى أَن تُضفيَ علَينا مِن بيِّناتِها وبصَائرِهَا، فتَعملَ فينَا عملَها الذي هُو حظُّنا منَ التَّاريخ، ورجَائي أَن يَجيءَ ذلكَ الحظُّ وفيهِ رَوحُ البشَارَة، وأَعني مَا بشَّر بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن قبلُ في تَرغيبٍ وتَحضيضٍ: (أَبشِرُوا وبشِّروا، فإنَّ هذَا القُرآنَ طرَفُه بيَدِ الله وطَرفُهُ بأَيدِيكُم، فتمَسَّكُوا بهِ، فإنَّكُم لَن تَضِلُّوا ولَن تَهلِكُوا بَعدَهُ أبداً)(9).

علي محمود عكام

 

الهوامش:

__________________

(1) تولَّد لديَّ هذا السُّؤالُ إثرَ تجربَةِ ( الماجستير ) ، فيمَا انتهَيتُ إليهِ مِن قنَاعةٍ مُلحَّةٍ في استِنشَاطِ علُومِ الفَلسفةِ والكَلامِ بمَا يَجعلُها كَفيئةً بعلَاجِ التَّحدِّياتِ الطَّارِفَة ، بمِثْلِ كفَاءتِهَا مِن قبلُ بعلَاجِ التَّحدِّياتِ التَّالدَة ، وأرَاني مَاكُنتُ لِأَنتَشِرَ علَى هذِه القضيَّةِ بِنَحوِها المَبسُوطِ بينَ يديكَ لَولَا لفَتاتٌ عِلميَّةٌ وحكيمَةٌ أَدلَّ بهَا أُستاذيَ الجليلُ الدُّكتور محمَّد السَّيِّد الجلَيند في مُناسبَاتٍ كثيرَة ، فَلهُ الفَضلُ .

(2) وبهَذَا أفهمُ مثلَ قولِ شَوقي ( ت:1932م ) : ( غَالِ بالتَّاريخِ واجْعَلْ صُحْفَهُ / مِن كتَابِ اللهِ في الإجلَالِ قَابَا ) ، نَعَمْ ، فَما ظنُّكَ بالتَّاريخِ إذ يكونُ في كتابِ الله لُباباً وخطَاباً ؟!! ، ألَن يكونَ للصِّدقِ مثَاباً وللحقِّ نِصَاباً ؟! ، اللَّهمَّ بلَى .

(3) القَول للفيلسُوفِ الإيطَالي ( بنديتو كروتشه Benedetto Croce ت:1952م ) في كتابهِ : ( التَّاريخ ؛ نظريَّةً ومُمارسَةً ) : ص61 وص80-81 ، ووَافقهُ جمعٌ منَ الفلاسفَة ، فقالُوا نَحوَ ما قالَ . وانظُر: المَدخَل إلى الدِّراسات التَّاريخيَّة : للفرَنسيَّين ( شَارل فيكتُور لانْجلوا ت:1929م ) و( شَارل سِينُوبوس ت:1942م ) : ص100-101، تَرجمَة : د. عبد الرَّحمن بدَوي ضمنَ كتَابه ( النَّقد التَّاريخي ) ، الكُويت ، وكالَة المطبُوعات ، 1981م ، وانظُر : فلسَفة التَّاريخ : لفيلوزوف : ص11 ، والحضَارَة : د.حسَين مُؤنس : ص7-8 ، الكوَيت ، عالَم المعرِفَة ، عدد1 ، 1978م  .

(4) ﴿ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾ ( الأنعام:104 ) .

(5) نُشيدُ هاهُنا بالخُطوةِ الرَّائدَة التي احتشدَ لها أَعلامُ قسمِ الفَلسفةِ الإسلَاميَّة وتنادَوا إليها في كلِّيةِ دارِ العلُومِ العَامرَة ، يومَ عَقدُوا مُؤتَمراً دَوليّاً خاصَّاً حولَ (السُّننِ الإلهيَّة وأثرِها في نَهضَة الأُمَم ) ، وكانَ ذلكَ ربيعَ عامِ 2008م .

(6) ولاسيَّما أنَّها تُلبِّي تَشوُّفاً فِطريَّاً في الطَّبيعَةِ الإنسَانيَّة ورَغبةً غريزيَّةً في تجاوزُ حدِّ الزَّمنِ الرَّاهِن وبَسطِ حدُودِ الوَعي إلى ما وراءَ عمرِ الإنسَانِ الواحِد .

(7) وانظُر : الإتقَان : للسُّيوطي ( ت:911م ) : 2/467و488 ، وانظُر : حاشيَة ( 1 ) ص 353 من هذِه الرِّسالَة .

(8) وما كانَ يَنزِلُ عَن رُتبةِ الصَّحيح ، فكنتُ أَسوقُهُ لَا علَى سَبيلِ الإفرَادِ في تَأصيلِ مَسأَلةٍ مَا ، بلْ علَى سَبيلِ الإتبَاع والإدراجِ في أَصلٍ صَحيحٍ معَ التَّنبيهِ علَى ذلكَ حيثُ يَلْزَم ، جرياً علَى سَنَنِ الرِّوايَة المُقرَّرة في علُومِ الحديث .

(9) أَخرجهُ ابنُ حبَّانَ في الصَّحيحِ كمَا في مَواردِ الظَّمآن للهيثميِّ ( 1792 ) ، والطَّبرانيُّ في الكَبيرِ ( 1539 ) ، والبزَّارُ في المُسنَد ( 3421 ).

 

 

التعليقات

نهى كمال

تاريخ :2008/12/21

الجواب يظهر من عنوانه كما يقولون عندنا والمقدمة قوية جدا تنم عن عمل إبداعي حقيقي وأنا لا أعرف المجاملة وإذا قرأها أبو يعرب المرزوقي سيغير رأيه عن عطالة الإبداع في العالم العربي أحد عنواين كتبه الجديدة .مبروك

أخ متابع

تاريخ :2021/04/18

النص المنشور هنا نص أدبي ولغوي راق وصعب ، وهو نمط صعب ونمط مخيف، على قول الأستاذ اللغوي الكبير الأستاذ محمود شاكر يرحمه الله ! هذا حسن، والأحسن منه ضبط كلمات الغريب في النص بالشكل الكامل، لكني وقعت ، وأنا أفتش عن خطأ مرتكب في الضبط، على خطأ، وهو ضبط العين في كلمة يَنبوع الواقعة في السطر العشرين من هذا النص، فقد ضُبطت الياء بالضم، وهي في معاجم اللغة بالفتح نصاً، كما جاءت في القرآن الكريم بالفتح أيضاً، ولعل ذلك خطأ مطبعي !

شاركنا بتعليق