1- الفقه في اللغة: العلم بالشيء والفهم له والفطنة، وخصّه بعض اللغويين بفهم الأمور الخفية فقط(1). ثم أطلق الفقه على ما تتناوله الأحكام الدينية جميعها، ما كان منها متعلقاً بأحكام العقائد أو الأحكام العملية، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾(2).
وجعله أبو حنيفة: معرفة النفس مالها وما عليها سواء أكان من الأمور الاعتقادية أو العملية، ثم تغير الاستعمال ودخل التخصيص على دلالة الفقه فصار يطلق على (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية أو على الأحكام نفسها). وانتهى الأمر في إطلاق الفقه ليدل على العلم بالأحكام الشرعية العملية سواء أكان طريق معرفتها الاجتهاد بالاستنباط من أدلتها التفصيلية أم كان العلم بها ناشئاً عن طريق الأخذ والتفهم من أقوال الفقهاء، وقد عرّف الكاساني الفقه في كتابه (بدائع الصنائع) فقال: إنه علم الحلال والحرام وعلم الشرائع والأحكام.
2- موضوع علم الفقه: موضوع علم الفقه أمران: هما الأحكام الشرعية العملية بالنسبة لكل جزئيه، والأدلة التفصيلية لكل حكم. ولا يكون الفقيه فقيهاً إلا إذا قامت به ملكة الاستنباط لهذا النوع من الأحكام، وزاد الحنفية(3): أن يكون الشخص عاملاً بهذه الأحكام لأن العلم ليس مقصوداً لذاته وإنما ليعمل به.
وأول مَنْ عُرِف بالفقه في الإسلام جمع من الصحابة أشهرهم: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والسيدة عائشة وسواهم(4).
وعلى هذا فمسائل الفقه هي: العبادات والمعاملات وبعضهم سمّى المعاملات العادات.
أما العبادات: فالغرض الأول منها التقرب إلى الله تعالى وقد ثبتت بنصوصٍ آمرة أو ناهية. وأما المعاملات فهي التي كان الغرض منها تنظيم المجتمع الإنساني في كل علاقاته وارتباطاته المالية والأسرية والإدارية، وما دمنا قد عرَّفنا الفقه بأنه الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، فهذا يدفعنا للكلام عن الحكم والدليل وهي أجناس قريبة في حد الفقه.
أ- الحكم: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، وهذا عند الأصوليين، أما الفقهاء فيطلقون الحكم على الأثر المترتب على خطاب الشارع لا على نفس الخطاب فيقولون مثلاً: الصلاة حكمها الفرض ودليلها قوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة﴾. والحكم هنا شرعي ومعنى كون الحكم شرعياً أي منسوباً إلى الشارع مباشرة أو بوساطة الاجتهاد، ويخرج بذلك الحكم الحسي والحكم العقلي. ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام كلها هو الله سبحانه وتعالى وحده.
ب- الأدلة: والمقصود بالدليل عند الأصوليين ما يمكن بالنظر فيه التوصل إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن كقوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾، وكقوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة﴾. فكل هذه أدلة عند الأصوليين لأنه بالنظر فيها يمكن التوصل إلى التصديق بأن الوفاء بالعقد وإقامة الصلاة أمور واجبة مفروضة. والمعروف عند الأصوليين أن الدليل إما أن تكون دلالته على الأحكام قطعية أو ظنية، بمعنى أن النظر في الدليل قد ينتج حكماً قطعياً وقد ينتج حكماً ظنياً، وبعض الأصوليين قصر الدليل على ما يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم والجزم فقط واعتبروا ما يتوصل بالنظر فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل الظن أمارة وليس دليلاً.
والأدلة نوعان: فمنها ما هو دليل كلي مجمل لا يتعلق بشيء معين، ويندرج تحت هذا الدليل الكلي الأدلة التفصيلية "الآيات الآمرة وأدلة الفقه الكلية كقولنا الأمر يفيد الوجوب مثلاً". ومنها ما هو دليل جزئي تفصيلي يدل على الحكم في مسألة بذاتها.
3- نشأة الفقه الإسلامي: بدأ الفقه الإسلامي أول ما بدأ عبارة عن فتاوى وأقوال للصحابة وأحكام يصدرونها فيما يُعرض عليهم من وقائع، وقد حرص فقهاء المدينة على جمع عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم، وجمع فقهاء العراق فتاوى عبد الله بن مسعود وأقضية علي بن أبي طالب وفتاواه رضي الله عنه وكذلك أقضية شريح القاضي وفتاواه. ثم تطور الأمر فأصبح الفقيه يدوِّن فقهه في مؤلف خاص يُمليه على طلابه بنفسه أو يمليه واحد من طلابه بحضرته.
وفي مستهل العصر الأموي صار الفقه مختلطاً بالسنة وبما أثر عن الصحابة والتابعين وعلى هذا سار، وكان موطأ الإمام مالك وما صنعه سفيان الثوري في الجامع الكبير والشافعي في كتاب اختلاف الحديث، ووجد بجانب ذلك الفقه مجرداً عن السنة والآثار وكان هذا مسلك المذهب الحنفي فقد كتب أبو يوسف (الخراج) على هذه الطريقة، وكذلك محمد بن الحسن الشيباني في كتبه الستة المسماة "ظاهر الرواية" وهي المبسوط الأصل، الجامع الصغير، الجامع الكبير، الزيادات، السير الصغير، السير الكبير، وقد جمع هذه الكتب الحاكم الشهيد في كتاب أسماه الكافي وشرحه السرخسي في كتابه المبسوط كما جمع الحاكم الشهيد كتب النوادر لمحمد بن الحسن في كتاب واحد سماه المنتقى، ومن هذا القبيل أيضاً المدونة في الفقه المالكي وهي عبارة عن مجموعة مسائل وضعها أسد بن الفرات وأجاب عنها ابن القاسم بما روى عن الإمام مالك وقد حصل سحنون على صورة منها ورحل إلى مصر وعرضها على ابن القاسم فعدل عن بعض ما فيها وعدله، ولذا فرواية سحنون للمدونة هي المعتمدة.
ووجد بجانب هذين النوعين نوع آخر فيه ذكر الأحكام الفقهية مصحوبة بأدلتها من الكتاب والسنة وسواهما ومثال هذا النوع المبسوط الذي أملاه الشافعي على تلميذه بمسجد عمرو بن العاص بالفسطاط بمصر، وقدم له برسالة في أصول الفقه، وقد عرف هذا الكتاب باسم الأم وتتابع الأمر فاتجه الفقهاء إلى وضع القواعد الفقهية والتي هي مجموعة الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى قياس واحد يجمعها أو ضابط فقهي يضبطها.
وقد جمع أبو طاهر الدباس فقيه الرأي بالعراق أهم قواعد المذهب في سبع عشرة قاعدة كلية، ثم أضاف إليها الفقيه الكرخي المتوفى 340 هـ فأوصلها إلى سبع وثلاثين، ثم جاء الدبوسي الحنفي المتوفى 430 هـ فألف كتاب تأسيس النظر وجعله مشتملاً ست وثمانين قاعدة.
ثم وضع العز بن عبد السلام الفقيه الشافعي المتوفى 660 هـ كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) كما وضع القرافي المالكي 687هـ كتاب الفروق ثم جاء السبكي 756 هـ فوضع كتاب التاج ثم ابن رجب الحنبلي 795 هـ فألف كتاب القواعد الفقهية، وبعده السيوطي 910 هـ فوضع الأشباه والنظائر ثم جاء ابن نجيم المصري 970 هـ فوضع كتاب الأشباه والنظائر وبعده جاء أبو سعيد الخادمي 1154 هـ فسرد في خاتمة كتابه مجامع الحقائق مجموعة كبيرة من القواعد الفقهية وأخيراً جاءت مجلة الأحكام العدلية فصدّرت موادّها بذكر تسع وتسعين قاعدة في تسع وسبعين مادة، ومن هذه القواعد الضرر يزال والأمور بمقاصدها والمشقة تجلب التيسير وغيرها.
4- أطوار الفقه الإسلامي: لقد كان الوحي في عصر الرسول هو المصدر الوحيد لجميع الأحكام الشرعية، ولذا لم يتضح في هذا العصر الفقه بمعناه الذي هو استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية ويمكن أن نطلق على الفقه آنذاك فقه الوحي. ويمكن ملاحظة بعض الصحابة الذين كانوا يلجؤون إلى التعرف بعض الأحكام عن طريق النظر في الاجتهاد وذلك بسبب الغياب والبعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قاضياً: (إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء)(5).
ومعاذ بن جبل كذلك حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً قال له: (بِمَ تقضي إن عرَض لك قضاء ؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد قال: بما في سنة رسول الله. قال: فإن لم تجد ؟ قال: اجتهد ولا آلو، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله(6).
إذاً يمكن القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليجتهد وليس لعصره سمة الاجتهاد، وأما ما كان من اجتهاد منه فلا يعدو أن يكون اجتهاداً تطبيقياً في القضاء وشؤون الحرب(7).
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدوث مسائل جديدة نتيجة الاتساع والفتوحات كان الفقهاء الصحابة يرجعون إلى بعضهم لمعرفة ما عند بعضهم من سنة أو فقه اجتهادي في الواقعة الجديدة وكان الاجتهاد لديهم على ثلاثة أنواع:
أ- اجتهاد في بيان النصوص وتفسيرها.
ب- اجتهاد على القياس على الأشباه والنظائر.
ج- اجتهاد بالرأي استنباطاً من روح الشريعة على ضوء المصلحة والاستحسان، وقد أطلق على الأقوال المأثورة عن الصحابة في المسائل الفقهية الآثار، وكان اجتهاد مقتصرا على المسائل الواقعة فعلاً فالفقه حينئذٍ فقه واقعي.
وانتشر فقهاء الصحابة وفقههم في الأمصار والبلدان فجاء التابعون التالون للصحابة ليكون المصدر تشريعي الفقهي هو نفسه الذي كان في مصدر الصحابة غير أنهم كانوا إذا نزلت الحادثة ولم يجدوا نصاً فيها ولا إمكانية للقياس ولا إجماعاً من الصحابة نظروا في أقوال الصحابة وتخيروا من بينها، وعرف من هؤلاء ثلة دعيت بالفقهاء التابعين منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاووس، وإبراهيم النخعي، والحسن، ومكحول، و...
وفي نهاية عصر التابعين بدأت تظهر المذاهب الفقهية بشكل جليّ بيّن، وأخذت هذه المذاهب تفرض اجتهاداتها وفقهها بشكل تأصيلي، ومنها المذاهب الأربعة والثوري والليث والأوزاعي والجعفري والزيدي والإباضي وسواها.
وتتابع الأمر وتطور، وهانحن أولاء نقدم سرداً وجدولاً عن أطوار الفقه وأدواره مستهدين بما كتبه العلامة الزرقا رحمه الله في كتابه المدخل الفقهي فهي:
- الدور الأول: عصر الرسالة طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
- الدور الثاني: عصر الخلفاء الراشدين حتى منتصف القرن الأول الهجري حيث حكم الأمويون بأهوائهم دون الالتزام بالأوامر الشرعية.
- الدور الثالث: من منتصف القرن الأول إلى أوائل القرن الثاني: أصبح علم الفقه اختصاصاً وظهرت المذاهب الفقهية.
- الدور الرابع: من أوائل القرن الثاني الهجري إلى منتصف القرن الرابع: وتم فيه وضع أصول الفقه وبلغ فيه الفقه دور الكمال، وهو دور التفريع والتدوين.
- الدور الخامس: من منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن السابع وهو دور التحرير والتخريج والترجيح ويمثل هذا الدور دور انحطاط الفقه.
- الدور السادس: من منتصف القرن السابع إلى ظهور مجلة الأحكام العدلية 1293 هـ.
- الدور السابع: من ظهور المجلة إلى أيامنا.
د. محمود عكام
(1) انظر: القاموس.
(2) سورة التوبة آية 122.
(3) انظر: كشف الأسرار: 1/15.
(4) انظر: إعلام الموقعين 1/21.
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسّنه.
(6) انظر: إعلام الموقعين 1/202.
(7) الاجتهاد نوعان: اجتهاد لمعرفة الحكم واجتهاد لتطبيق الحكم.
التعليقات