أَمَلُنَا أنْ
يُوحِّد العمل الإسلامي
في دائرة الغاية الأوسع والهدف الأشمل الأرفع
( ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق ) الأعراف/89
سمات العمل الإسلامي في مستقبل منشود
الحمد لله، ومن وعد المسلمين بالنصر إن هم نصروه ، والصلاة والسلام على من
آمن به أصحابه فعزروه ووقروه ، ورضي الله على من تآخوا في الله حباً
وثَّقوه ، وتحلقوا حول رسولهم قائداً اتخذوه .
وبعد :
تمهيد :
لقد جعلتُ البحث في مدخل ، وحددت ثماني سمات ، كنت فيها منظِّراً من النص ،
وململماً من الواقع ، أكثر مني ناقلاً أو جامعاً. تلمستُ تجارب من سبق ،
فثبَّتُّ الإيجابيات وقعدتها ، وأعرضت عن السلبيات وأهملتها . فإن أصبت
فذاك فضل من الله علي، وإن أخطأت فالتقصير ثوبي الذي ما انفك في نسبته إلي
.
الموضوع جدُّ مهم ، لأننا سنتحدث فيه عن أنفسنا ، سنقف فيه أمام المرآة
لنحسِّن من وضعنا في العمل الإسلامي ، فقد أصبحنا فيه شُعثاً غبراً مدفوعين
بالأبواب ، غير أنه لا يستجاب لنا .
أردتها ورقة مختصرة ، فيها عناوين وخطوط عريضة ، أدعو الحركات والجماعات
إلى اللقاء في ظلها ، أو على الأقل أن يفكروا فيها .
المدخل : نظرة عامة سريعة للحركات الإسلامية في القرن الأخير :
قامت في العالم الإسلامي ، ومن ضمنه العربي - منذ نهاية القرن التاسع عشر
وحتى العقد الثامن من القرن العشرين - حركاتٌ إسلامية عديدة ، أخذ بعضها
طابع الثورة التحريرية من ربقة الاستعمار ، وبعضها نهج النهج الفكري في
تقديم رؤية إسلامية شاملة ، على حد رأيه.
كان للأولى دورها الفعال في إجلاء المستعمر المستكبر، ولا أريد أن أعددها
فهي كثيرة ، وقد اعتمدت هذه الحركات الثورية طريق إثارة العاطفة الإسلامية
في القاعدة الشعبية العريضة ، وإذكاء روح الجهاد فيها . ولقد قرأت قصةً يوم
خرج المستعمر الفرنسي من الجزائر ، بعد استعمار دام أكثر من قرن ، فخرجت
نساء الجزائر تهلل وتقول :
مبروك يا محمد عليك الجزائر رجعت إليك
وأما الثانية : أعني الحركات التي اتسمت بالفكر إذا قامت ، فكثيرةٌ في
عالمنا العربي والإسلامي . بعضها كان امتداداً لحركات التحرر السالفة الذكر
وبعضها نشأ على أثرها مكملاً مسارها وهو يقدم الطروحات البنائية لمرحلة ما
بعد الاستعمار . وهذه الحركات أيضاً كثيرة لا أريد أن أعددها، وقد حدث أول
انقسام بين هذه الحركات حيث بحثتْ موضوع الغرب ، وكيفية التعامل معه ،
ومسألة الانفتاح ، وتتابعت الانقسامات في طرح مواضيع أخرى ، كالعروبة
وعلاقتها بالإسلام ، وقضية الحكم وكيف يتوصل إليه ، ومسألة العنف واللاعنف
، وتحديد العدو ، وقضية الشيعة والسنة ، حتى أدى الأمر إلى عداوة في الحركة
الواحدة والاتجاه الواحد .
ولا أريد أن أبحث في محاضرتي هذه الخلافات ، فذاك أمرٌ عشنا آثاره القاسية
المريرة ، ويكفينا ذلك درساً ، وإنما آثرتُ أن أرسم ملامح عمل إسلامي منشود
نتجاوزُ في الخلافات .
ولايعني هذا أنني أغيب الماضي أو أرفضه ، ولكني سأقبله على أنه مرحلة مخاض
قاسية ، مضت مدتها الكافية لتكون الولادة المفرحة ، وكلي أمل أن تكون
ندوتنا هذه صيحةً من صيحات استهلال المولود النتظر .
السمات والملامح للعمل الإسلامي المنشود :
أنها نصيحةٌ، ومساهمةٌ في لقاءٍ جاد ، وديننا دين النصيحة ، كما قال عليه
وآله الصلاة والسلام ، فهل نعي مستقبلنا ، بفهم حاضرنا واستيعاب ماضينا ،
لنكون أمة موحدة ، ذات غاية متكاملة ؟هذا رجائي .
أريد أن نحقّق أُولى خطوات فاعلية الإزالة للشّر ، بعد أن وثقنا بانفعالية
زوال الشّر المحدق بنا ، وإرادة الله في النصر إنما تكون باجتماع فاعلية
الإزالة من قبل الخير للشّر ، مع انفعالية الشّر من خلال تقوُّض أركانه
بذاته .
السّمة الأولى : الإبقاء على الإسلام فقط اسماً يجمعنا :
وحذف كلِّ الألقاب الزائدة في تسمية الحركات ، حتى لا تحلَّ هذه الألقاب
محلَّ الإسلام في قدسيِّته ، وتطغى عليه ، ويتوجَّه إليها دونه وعلى حسابه
، فتصغر الجماعة الكبيرة ويقلُّ عددها ، وقد أطلقتُ مقولةً أضحت عنواناً في
بلدي :
"لنلتق دون ألقاب أفلا يكفينا الإسلام " وقد سمانا الله به : ( هو سماَّكم
المسلمينَ من قبلُ ) ، وعلامَ الإعراض عن تسمية الله لنا ، أو اتهامها بعدم
الكفاية ، والنقص في توصيف المسلمين ؟
وما المانع من أن تقلع الجماعات والحركات عن ألقابها ، التي اتخذت ضفة
القداسة الزائدة على الإسلام بحد ذاته ، وقد وجدت فيها حواجز تمنعها من
التقارب الفعلي الجادِّ مع غيرها ، بل وجدت فيها حواجز تمنعها من الانتماء
إلى الإسلام نفسه في قضايا معينة ؟
لا أريد أن أسمِّي ، فذلك أمر أحببت أن أبتعد عنه ، لكنني قرأت مقابلة
صحفية مع إنسانة تنتسب إلى حزب إسلامي في دولة عربية ، وقد سالت عن جواز
أمر قام به الحزب ، فقالت بالحرف الواحد : " إنني أعترف بأن الإسلام يرفض
هذا ، لكنني مضطرةٌ لقبوله ، مادامت قيادة الحزب قالت به ورخصت عليه ! " ،
وهنالك كتاب قرأته يحمل اسم " الفكر الإسلامي " يخلص فيه الكاتب من أجل أن
يقول : إن جماعته هي الجماعة الأنظف في عالم الإسلام والمسلمين .
وهنالك كتاب أيضاً صدر في السبعينات ، لكاتب معرف توفي في السبعينات ، قال
هذا الكاتب : ينبغي على العالم أن يعي بأن جماعتنا هي جماعةُ المسلمين ،
وأن جماعتنا هي الجماعة الأنظف .
ما المانع من أن تقلع الحركات والجماعات عن ألقابها ؟ وها هم اليهود ، كما
يقول ظفر الإسلام خان : " ولا تظنن بأن يهودياً في الشرق يتصرف بمعزل عن
شعوره بالوحدة مع كل يهود المغرب والشمال والجنوب ، وإلا لما أثرت بضعة
ملايين في تسيير دفن العالم " . ثم أليس قميناً بنا أن نوجه جهودنا إلى
تقوية الانتماء للإسلام الكبير ، الذي نواجه من خلاله من قبل عدونا من غير
تسميات ، بدلاً من أن نقوي الانتماء إلى الحركة الصغيرة ونقف عندها ،
فتتفتت الصخرة العظيمة الكبير إلى صخيرات يسهل طحنها وكسرها ؟
بالانتماء الكبير نحقق غاية رسمها الله لنا فنكون الأمة الوسط في عقيدتها
وتشريعها وأخلاقها :( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) البقرة/143
ونكون الأمة الشهيدة ، القائمة بالحجة بتطبيقها وتمسكها : ( لتكونوا شهداء
على الناس ) البقرة/143 ، ونكون الأمة الخيِّرة في مهمتها: ( كنتم خير أمة
أخرجت إلى الناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) آل عمران/110 ، ولا
أريد أن نقدِّم أو نفصِّل ما ورثناه عن تاريخنا السابق - في حركاته
المختلفة - على ما ينبغي استقباله عن ربِّنا جلَّ وعلا .
السِّمة الثانية : تمتين الوحدة الكاملة بين الحركات والجماعات :
بعد حذف الألقاب والزيادات ، وذلك بتطبيق فرائض الإسلام الجماعية ، على
مستوى الحركة الواحدة والجماعة الواحدة . فالتعاون فريضة من الله تعالى
علينا ، بيننا جميعاً حركاتٍ وأفراد اً ، كما جاء في كتابه الكريم : (
وتعاونوا على البر والتقوى ) المائدة/2 ، والسلام نوصِّله صلة وطيدة بيننا
، جماعات وأفراداً ، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال :
" والذي نفس محمد بيده ، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنون حتى
تحابوا . أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم "
أخرجه مسلم ، وحبل الله ليس ذاك الذي تزعم كل جماعة بأنه معها دون غيرها ،
يُدعون للاعتصام به : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ) آل عمران /103 ،
والأخوة وشيجة عقدها ربنا بيننا ، لا نرضى عنها في علائقنا بديلاً ، ولا
نقصرها إلى فئة دون أخرى من المسلمين ، والقول الصائب أن تقول : إنها جماعة
من المسلمين . وعلى مفكري الجماعات أن يقعِّدوا الثوابت التي تشكِّل محور
التلاقي ، مع الاحتفاظ بمتغيرات كلِّ جماعة واجتهاداتها التي يفرضها عليها
زمانها ومكانها ، وهي في النهاية فرع من شجرة وارفة ، وليست شجرة مستقلة
بذاتها ، وهذا ما يجعلها تجري في المسار التاريخي الصحيح من أجل توريث
الأجيال اللاحقة ، فكفانا أننا في أحسن أحوالنا كوَّنَّا شجرات أو أشجاراً
، لكنها غير قادرة على الأثمار . ويا حبذا لو أننا وجهنا عنايتنا من أجل أن
ننشئ جامعةً للحركات الإسلامية ، كما هو الحال في جامعة الدول العربية .
السمة الثالثة : الاجتهاد المستمر المضبوط :
النص الذي لا يلقى متفاعلاً معه ، يفهم مراميه الدلالية وأبعاده التطبيقية
، سيظل متهماً بعدم قدرته على الاستيعاب . فلنُبعد الاتهام عن نصنا بنشاطنا
وتفاعلنا ، وهو أرحب من كل حركة فكرية إنسانية ، ولقد زهونا فخراً بنتاج
علمائنا السابقين الفقهي والاستنباطي ، حتى إذا ما آل الأمر إلينا تقاعسنا
عن فعل ما امتدحناه فيهم ، وكررنا مع التقزيم صفحتهم ، فكنا الرقم الصغير
المقزم ، ولم نكن العدد التالي بترابط وإيجابية .
فأين أراء المسلمين من خلال جماعاتهم فيما يستجد من قضايا على مستوى العلوم
التجريبية والإنسانية ؟ أين بياناتهم فيما يتعلق بتطوير التقنية ،
ومستحدثات الخبرات العقلية في ميادين شتى ؟ فنحن وإن رأينا بوارق وإلماحات
لكننا نريد أن تكون في الزخم نفسه تظهره الجماعات في ميادين التنظيم
السياسة والحكم وفن التهاتر فيما بينها .
وقد قال كاتب فرنسي في مجلة الأكسبريس : " أسمَعونا بان الإسلام يصلح لكل
زمان ومكان ، ونحن ننتظر منهم حلولاً لمشكلات مستجدة ، وتتأخر هذه الحلول
من العالم الإسلامي حتى يأتي غيرها ، فينهشها ، أو يشتمها هذا العالم
الإسلامي " . وأؤكد على الضبط صفة لازمة للاجتهاد ، ليكون له أسسه ومناهجه
، وليتم ذلك في مراكز ومؤسسات ومجمعات تضم كل الفئات والاختصاصات ،
فالإجماعية في الاجتهاد اليوم هي الضرورة الرابطة .
السمة الرابعة : إيقاد جذوة الشعور بالمسؤولية الوطنية :
الوطن غالٍ - أيها الأخوة - وهو محل تشخيص الفكر ، وتحويله إلى سلوك عملي
يتراءى للناس نجاحه . ومَن لا وطن له يدافع عنه لا فكر له ينادي به ، وقد
أهمَلَت الحركات الإسلامية الفكرية في وثائقها الصادرة - إلا قليلاً - هذا
الأمر ، مع أنه ذو صلة أساسية وثيقة بديننا الذي يرعى الوطن ويحضن على حبه
والتفاني من أجله، ومن قتل دونه - لا شك - شهيد . وقد ضرب رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أروع الأمثلة في حب الوطن ، وإنه مشهد جد عظيم يوم
ودَّع مكة وقد أخرجه أهلها منها ، فذرف الدمع الحاني ، وقال : " والله أنك
أحب بلاد الله عندي ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت " أخرجه الترمذي .
أيها الأخوة : إن الوطن حسب قاعدة لحن الخطاب - أو فحواه - الأصولية أمانة
أكيدة ، ما دمنا مسؤولين عن بيوتنا الصغيرة ، وعن أسرنا الصغيرة . لم ترث
الحركات الفكرية الاهتمام بالوطن - بالزخم نفسه - عن الحركات التحريرية
الثورية التي قامت في أراضي الوطن العربي والإسلامي . وهذه مَثْلَبةٌ في
اللاحقة لا أعتقد أن لها تفسيراً مقبولاً سوى الانشغال بما هو جزئي عما هو
كلي هام .
العروبة على سبيل المثال بالنسبة لي مظهر شرف ، أعلن من خلالها إسلامي ،
ومَن قال بأن الإسلام لا يمت إلى العروبة بصلة ؟! فهو دينها وهي مظهره ،
بلغتها وريادتها المتجلية في الجيل الأول ، جيل محمد صلى الله عليه وآله
وسلم . وليكن شعار كل واحد منا في وطنه : دينٌ حنيف ووطن نظيفٌ .
نلتقي بعدها بأوطاننا موحدةً في دائرة الإسلام الجامعة ، ولنتذكر قولة عبد
الرحمن بن المهدي : " لا شيَعَ ولا طوائف ولا أحزاب ، ديننا دين الإسلام
ووطننا السودان " . وقال ابن باديس : شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
أكرر أيها الأخوة التنبيه على هذه المشكلة ، فأنا أخشى أن تكون العلاقة بين
العرب والمسلمين بالنسبة إلى القوميين أو المسلمين قائمة لصالح المجاملة
كمن يقف على ماء جمد سطحه ، فإذا ما ذاب هذا السطح غرق ، لأنه لم يستطع
السباحة أو لم يهيئ نفسه لهذه السباحة.
وأنا أرفض العبائر التي لايمكن أن نجد لها تفسيراً في أسلامنا ، من قبل بعض
القوميين ، فما معنى القول الذي يُقال بأن " " العروبة والأسلام وجهان
لذاتية واحدة " ، إذا كان الوجه الآخر الأهم يرفض من قبلهم ؟
وما معنى القول الذي يروج له : " أن الأسلام هو الوجه الروحي للعربي المسلم
وغير المسلم " ، ثم يتخلى عن ذلك هذا العربي أو ذاك ؟
السمة الخامسة : البناء المتوازن للشخصية المسلمة :
فالإسلام منهج متوازن يغطي علائقنا في كل اتجاهاتها ، ويعطي كل منها حقها ،
وإن أي إفراط أو تفريط منا في نظرتنا إليه سيؤدي إلى التطرف أو التسيب ،
وقد عانينا من كليهما ، إذ تمثلتهما بعض الحركات هنا أو هناك ، من التفكير
إلى التمييع . هذا البناء يقوم في رأيي على خمسة محاور تشكل ملامح الشخصية
المسلمة هي :
الورد ، والعهد ، والنص ، والدعوة ، والدولة .
فالورد : استجابة لفريضة الذكر التي تُطمئن الإنسان في داخله ، ما أحوج
المسلم إليها : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد\28 ، وهي التي تغذي
الوجود الارتباطي للمسلم بربه ، كما جاء في الحديث القدسي ، يقول تعالى : "
وأنا معه - أي مع العبد - إذا ذكرني"
وكم أعرضت الحركات من هذا الجانب وأهملته ، حتى خِلتَ أفرادها في جفافٍ
روحي مرعب ، وأصبح الواحد منهم لايعدو أن يكون فرداً في حزب مادي أرضي .
والعهد : هو الالتزام الأفقي برباط الأخوة مع كل المسلمين دون استثناء ،
امتثالاً لقول الله تعالى : ( إنما المؤمنون أخوة ) الحجرات / 10.
والنص : هو المنبع الثر الفياض الذي نَرِده ونصدر عنه في فكرنا وسلوكنا ،
ولطالما أكد الفلاسفة على ضرورة وجود منهج حاكم يلائم الإنسان ، يجد فيه
هذا الإنسان المحاور الثابتة يدور في فلكها مفكراً ومنظراً : ( اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينناً ) المائدة / 3 .
والدعوة : هي الحركة الحوارية التي نَنصِبها مع الناس كافة دون تحديد ،
ونهيئ الظروف لتفاعلات القرائح والعقول ، ويُشترط فيها اللطف والحكمة
والدعم بالعمل الصالح ، كما قال تعالى : ( اُدع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة ) النحل /125 ، وكما قال: ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى
الله ) فصلت /32 .
والدولة : ما هي إلا ذاك التنظيم الراعي لحقوق الأفراد ، الصائن لها ،
والمحافظ على ضمان حقوق الجماعة ، في مواجهة تطاول حقوق الفراد ، وهي
باختصار المظهر الإسلامي للجماعة .
والدعوة بأشكالها الوفيرة هي السبيل لتحقيق الدولة ، فبعد أن يقوّي الدعاة
في نفوس الناس وعقولهم ضرورة برمجة أوضاعهم وفق الإسلام ، بالحجة والبحث
والدراسة ، يسعى الدعاة والناس معاً إلى التغيير بالطريقة المناسبة ،
مراعين أخلاق الإسلام القاضية بحفظ الدمكاء ، وصيانة الأرواح ، والابتعاد
عن القتال ، ودخول عالم السلام . والإسلام في فقهه لم يحدد صورة معينة
مُلزمة ، بل حدد معايير ، ووضع محترزات ، فلا ضرر ، ولا إثارة ، ولا قتل ،
ولا اغتيال ، بل المطالبة ، وقولة حقٍ لا يخاف معها قائلها في الله لومة
لائم.
أيها الإخوة :
كان للاغتيالات السياسية أثر بالغ على تركيبة القوى السياسية في مطلع هذا
القرن ، فقد أدى اغتيال القيصر ألكسندر الثاني إلى إشعال الثورة البلشفية
في روسيا .
وما طرأ على تركيبات الدول وواقع السياسة الدولية قلل من تأثير الإرهاب
بشكل كبير ، فلم تتأثر أمريكا باغتيال جون كينيدي ، ولا السعودية باغتيال
الملك فيصل ، ولا الأردن باغتيال وصفي التل ، ولا مصر باغتيال السادات ،
ولا الهند باغتيال أنديرا غاندي .
السمة السادسة : توصيف العدو الحقيقي والإعداد لجهاده :
أكّد لنا التاريخ - مستقى تجاربنا ومحل تحققات السنن والنواميس الإلهية -
أن العدو الأكيد اليوم هو الصهيونية الماكرة، والصليبية الحاقدة ،
والإلحادية المعتدية الآثمة .
وإذا ما أردنا رسم الخريطة المحاور المعادية لنا في البداية ، وفي عهد
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، نرى اليهود الماكرين في المدينة المنورة
، الذين قاتلوا المسلمين وظاهروا عليهم ، والروم الحاقدين الذين قاتلوا
المسلمين ومنعوهم من أن يمارسوا دعوتهم ، والفرس المعتدين الملحدين .
وقد جهدوا في القضاء على المؤمنين خارجاً ، واستمر هذا الثالوث حتى وقتنا
الراهن . فاليهودية الماكرة ورثتها الصهيونية التي اعتدت على البلاد
والعباد ، وظلمتهم ، وأخذت حقوقهم .
والروم الحاقدون ورثهم الصليبيون في حملات الأمس على الشرق والغرب الإسلامي
، وحملاتهم اليوم في مرابع البلقان على البوسنة والهرسك وغيرها ، بمباركة
ساستهم ورجال دينهم .
أيها الإخوة :
في متصف شهر حزيزان عام 1993 م ظهر زعيم صرب البوسنة على الصفحة الأولى
لمجلة لندنية وهو يقبِّل يد كبير أساقفة الكنيسة الأرثوذكس في اليونان .
وقد صرَّح وزير خارجية الصرب ، بداية الهجمة الشرسة على البوسنة ، أن الصرب
يقفون في وجه المد الإسلامي إلى أوربا ، وصرح رئيس دولة أوربية بأنه لن
يسمح لدولة مسلمة أن تقوم في أوروبا . وها هي أمريكا في الصومال تفعل
فعلتها الخبيثة ، وكذلك ما تسعى إليه في أغلب دول القرن الأفريقي ، الذي
تَعُد نسبة المسلمين في بعض دوله 100% .
ولم يغب عن ذهننا أنها والغرب وراءَ حركات الجنوب - في السودان - المعتدية
الآثمة الصليبية .
وإنني أقول لكم بأنه في عام 1972 م ، قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة ،
في قرار حاولت أن تصدره تحت رقم 3034/27 ، شكلت بموجبه لجنة خاصة طارئة
لمعالجة الإرهاب ، ولتفرق بينه وبين حركات التحرر الوطني ، فوقفت أمريكا ضد
هذا القرار . وقد شجعوا اعتداء الصهيونية وباركوه وأيدوه ودعموه ، واعترفوا
بدولتها الظالمة ، ووعدوها بما ليس لها . أما الفرس الملحدون الآثمون ، فقد
ورثهم المعسكر الإلحادي المعتدي شرقاً ، وقد سعى إبّان حكمه في الاتحاد
السوفييتي إلى كمِّ الأفواه ، واستخدام الحديد والنار ، ولا تزال بقاياه في
الاتجاه نفسه حيال المسلمين، في الجمهوريات الإسلامية ، وقد استبدلوا بما
ذهب القوميات ، التي يريدون من خلالها أن يقضوا على المسلمين .
إذاً فالإعداد للمواجهة أمر واجب علينا وفريضة ملقاة على عاتقنا ، لا عدول
لنا عنه ، ولا إهمال منا له ، لا سيما وأن أمامنا معركة حاسمة مع الصهيونية
، مصب الثالوث المذكور ، حسب ما جاء في الحديث الشريف : " لا تقوم الساعة
حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم لالمسلمون ، حتى إن اليهودي ليختبئ
وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر والشجر : يا مسلم ، يا عبد الله ، هذا
يهودي خلفي فتعال فاقتله " ، أخرجه مسلم . وحين نتحدث عن الإعداد للجهاد
فلنضع في أذهاننا أن هذا إنما يتم عن طريق الدولة المسلمة ، أو الاتحاد
الدولي الإسلامي ، والدول القائمة اليوم في عالمنا العربي والإسلامي عليها
أن تُفصح هن رأيها في هذا الأمر ، وأن تناقشه مع شعوبها بحرية ، ونحن نقول
لقادة الحركات والحركات : اسعوا للحوار باسم الشعوب مع القائمين على الحكم
، ولا تخافوا في الله لومة لائم ، والحوار هو الدعوة دون القتال ، وإنما
القتال في مواجهة العدو الذي حددناه .
واصبروا أيها الدعاة على قولة الحق ، وأمنوا الحكام على كراسيهم ، فلسنا
بالراغبين فيها ، وإنما الذي نبغيه أن نقول ما نعتقد ، وعلى الشعب - بعد أن
ساهم المساهمة الفعالة في تكوين الرأي العام - أن يختار الذي يريد ، وبعدها
إن لم تفعل الحكومات هذا الذي نقول ، فـ " على نفسها جنت براقش " .
السمة السابعة : الطرح الحضاري للإسلام :
مشكلتنا أننا لم نطرح إسلام الإنسان بشكل عام . بل إن الجماعات جهَدت في
طرح إسلام الحكم والسياسة فقط ، وهذا الذي أوجد جفوة من الشعوب الغربية ،
وكأنهم يقولون : نحن لسنا بحاجة إلى نظام سياسي نستورده ، ولكننا بحاجة إلى
نظام متكامل نتبناه ، فهل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟
وأذكر أيها - الإخوة - أنه في عام 1972 أو 1973 م ، يوم جاء مالك بن نبي
رحمه الله إلى دمشق ، وألقى محاضرته في رابطة الحقوقيين تحت عنوان : " دور
المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين " ، حدَّثنا فقال : يوم كتب سيد
قطب رحمه الله كتابه " نحو مجتمع إسلامي " خاطبه مالك فقال له : اجعل
العنوان " نحو مجتمع إسلامي متحضر " ، فإن الغرب أضحى مادياً حتى في سماع
كلماته .
فهل من شئ آخر في إسلامنا نطرحه عليهم ونقدمه إليهم ؟
فلنطرح إسلام المعرفة ، إسلام الاجتماع ، إسلام القيم ، إسلام التصنيع ،
إسلام الزراعة ، إسلام الاكتفاء الذاتي ، إسلام التنقيب والتقنية ، إسلام
الأخلاق والفضيلة ، إسلاماً نصوغه مذكرة تفسيرية لقانون الإنسان في كل
أحواله . فحيَّهلا بكل باحث ، ومرحباً بكل كاتب وناقد ، يحقق جميعهم هدف
الإسلام في الإنسان . ولنقدم للناس حاكمية القيم الخيرة على السلوكيات من
خلال إسلامنا . ولنقدم له حاكمية الله المحددة بالنفع العام على كل العلم
واكتشافاته .
السمة الثامنة : الحسم الإيجابي لقضية الخلاف بين السنة والشيعة :
أفردت هذا تحت سمة خاصة لما للأمر من أهمية ، فأنا أخشى من الوحدة
الإسلامية المطروحة أن يفهمها السني مع جماعته ، والشيعي مع جماعته ، دون
أن يفكر الطرفان بضرورتها فيما بينهم ، إذ العلاقات لا زالت على أرضية غير
مستقرة ، فمِن عداوة تظهر بينهما في كل مكان ، إلى مجاملة تتراءى في مجال
آخر لا تقدِّم - إن لم أقل إنها لا تؤخر - ومن مؤتمر ينفضُّ عن رفض من كلٍّ
للآخر ، إلى مؤتمر يخلِّف توصيات وحدوية لاتتجاوز الحبر على الورق ، أو
الصوت في الهواء .
فإذا كان الشيعة مسلمين في نظر السنة ، وليحدد السنة موقفهم ، وكذلك السنة
في نظر الشيعة ، وليحدد الشيعة موقفه ، إذاً فليكن التداخل قائماً بينهم ،
ليصار إلى تقديم الفئتين معاً في صياغة واحدة عامة ، وعلى العالِم والمفكر
السني ألاَّ يستبعد مقردات الشيعي من أن تخل كتاباته ، وكذلك العالم
والمفكر الشيعي مِن أن تدخل مفردات أهل السنة مواضيعه ، وقد قال كاتب صحفي
أميركي في الواشنطن بوست في العام 1984 : " نحن نخشى من اجتماع سياسة
الشيعة وأخلاق السنة " .
فهل يستعدُّ العالم الإسلامي ، سنيّه وشيعيّه ، لتجاوز الخلاف المفرق إلى
لقاء ضمن ساحة واسعة تضمهما معاً ؟ أملي أن نحسم الخلاف قبل أن يُحسم علينا
، إن لم تقل : قبل أن نُحسم في وجودنا .
ورقة العمل :
هنالك ورقة عمل ، أحببت أن أذكرها في نهاية بحثي ، أرجو أن تكون محل مناقشة
و حوار.
1- المنطلقات :
أ - شريعة الله حاكمة ، والإسلام بكتابه العظيم و سنة نبيه الكريم صلى الله
عليه وآله وسلم يمثِّلها .
ب - الإسلام عامٌّ تامٌّ في كل تشريع فلا نظير له ، و شامل لكل صعد الحياة
ومجالاتها ، سواء أكانت فردية أم إجتماعية .
ج - لا تفريق بين مذهب وآخر ، إن في ميدان العقيدة ، أو في ميدان التشريع
والأخلاق ، ما دام المذهب يعتمد الأسس المنطقية الشرعية في الاستباط
والاستخراج .
د - مراعاة الزمان و المكان في استصدار الأحكام من النصوص ، للوقائع
المستحدثة والقضايا المستجدة .
2- الوسائل :
أ- الإيمان العميق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره
وشره من الله تعالى .
ب- العلم الموثَّق والمحقَّق : فالتوثيق في ميدان النقل ، و التحقيق في
ميدان العقل .
ج- الذكر الذي يبقي القلب في حال تيقظ و مراقبة لله عز و جل .
د- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإتخاذ الإجراءات الممهدة
لها والمعززة لاستمرارها ، من تعاون ، واعتصام ، وبث روح الجماعة ومقوماتها
في القائمين بها .
هـ- الأخوة منهجنا لتحقيق هذا ، واعتماد النصيحة والمحبة جناحين أساسيين
لها ، انطلاقاً من العهد الذي نوثقه بالمعاهدة بيننا .
3- الغايات :
أ- التحقق بالعبودية ، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي .
ب- إقامة شرع الله جلت قدرته في الأرض ، وتطبيق أحكامه في الفرد والأسرة
والجماعة والمجتمع والدولة .
4- الهدف :
السعي إلى نيل مرضاة الله ، المتمثلة بنجاتنا من النار وعذابها ، ودخولنا
الجنة ، مع الأمل الكبير بالله عز وجل أن يزيدنا إكراماً بالنظر إلى وجهه
الكريم جل شأنه و عزت قدرته .
والحمد لله رب العالمين
هذه المحاضرة ألقيت في
الندوة التي أقامها :
مركز الدراسات الإستراتيجية، الخرطوم / 1993
بالتعاون مع مركز دراسات المستقبل الإسلامي بلندن ،
وجريدة المستقلة، تحت عنوان:
العرب والمسلمون في عالم متغير
وفي مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية ، طهران / 1997
التعليقات