أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
لا شك في أن جميعنا يفرح عندما يسمع أن معهداً للقرآن الكريم افتتح، ولا شك أن الأب فينا يفرح إذا ما رأى ولده يردد ويدندن بآياتٍ من القرآن الكريم، ولا شك بأننا نفرح ونُسر ونسعد حينما نرى الوسيلة الإعلامية من تلفازٍ وإذاعة تفتتح برامجها بالقرآن الكريم.
إذا كنا في هذا، فما الذي نفعله نحن الذين نفرح بالقرآن الكريم عندما يكون في معهد يُدرَّس أو يُتلى في وسيلة إعلامية أو يُردد على ألسنة أطفالنا وأبنائنا وصغارنا، كنت قد كلمتكم عن واجبات كل واحدٍ منا تجاه القرآن الكريم، وقلت إن واجبات كل واحدٍ منا تجاه القرآن الكريم هي: التلاوة والقراءة والتدبر، أما التلاوة فإحسان النطق، وأما القراءة فإحسان الفهم، وأما التدبر فإحسان التطبيق. لكنني اليوم أريد أن أتحدث عن موقف الأمة وعن نظرتها للقرآن الكريم وعلى نظرتها التي يجب أن تحوِّلها إلى عمل، اليوم أريد أن أتحدث عن موقف الأمة عن موقف الحكومات والشعوب بمجملها، ما الذي يمثله القرآن بالنسبة لنا ؟ هل نكتفي بأن نفرح عندما نسمعه كما قلت، أم أن هنالك واجباً أو موقفاً يجب أن يُتخذ ؟
أيها الإخوة، أيتها الأمة:
الموقف الأول: هيا إلى القرآن الكريم مصدراً لمعرفتنا، أوَما سمعتم الآية الأولى التي نزلت منه: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ والقراءة وسيلة المعرفة، أيها الباحث عن معرفة واعية جادة عليك بالقرآن لا سيما وأنك تقول، ومن فمك أدينك، تقول بأنك مسلم، يعني إنك تؤمن بالقرآن الكريم كتاباً أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هيا إلى القرآن مصدراً لمعرفتنا. ويروي الترمذي حديثاً تعرفونه عندما سئل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما المخرج من الفتن التي ذكرتها ؟ قال: (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الكتاب الفصل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم)، الموقف الأول: هيا إلى القرآن الكريم مصدراً لمعرفتنا، ضعوا هذا في ذهنكم، وليضع المثقفون هذا في أذهانهم، وكذلك العلماء وكذلك المربون وكذلك أصحاب السلطة التشريعية وكذلك أصحاب السلطة التنفيذية، ضعوا هذا في أذهانكم إن كنتم تريدون أن تؤكدوا على إسلامكم وعلى أن تدللوا على إسلامكم وإلا فلا يُكتفى في أن نفرح ولا يكتفى بالفرح بالقرآن الكريم يُتلى هنا أو هناك، وإن كنا نفرح، ولكن أقول لا يُكتفى بهذا، ولا يُكتفى في أن نفرح في أن تقام مسابقة هنا أو هناك للقرآن الكريم.
الموقف الثاني: هيا إلى القرآن الكريم موحِّداً لأصول ثقافتنا، الثقافة بكل بساطة: هي تحويل المعطى المعرفي إلى واقع، الثقافة سلوك وليست الثقافة مخزون معلومات، إن حوَّلتَ آداب الطعام إلى واقع ونفذَّت هذه الآداب فأنت مثقف، إن حولت الصدق المعطى المعرفي إلى واقع فأنت مثقف، إن حولت حب الوطن الذي تتغنى به إلى واقع فافتديت وطنك فأنت مثقفٌ وطني. فلنرجع إلى القرآن الكريم على أنه موحد لأصول ثقافتنا نستمد منه المعطيات المعرفية والقيم من أجل أن نحولها إلى واقع من أجل أن نحولها إلى حياة من أجل أن نحولها إلى حال من أجل أن نحولها إلى سلوك، ولذلك يروي أبو الدرداء مرفوعاً كما جاء عن ابن عساكر والحديث حسنٌ لغيره قال: (تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن ينفعكم الله حتى تعملوا بما تعلمون). ولذلك الثقافة هي أن تحوِّل هذا الذي عرفت إلى واقع، الثقافة سلوك.
المنافق الذي يقرأ القرآن الكريم ولا يعمل به تحدث عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخشى أن نكون منافقين، ونحن لسنا منافقين إن شاء الله، فالمنافق يقرأ القرآن الكريم ويجوّده ويريد أن يسمعه لكنه لا ير يد أن يُطبِّقه لذلك قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم كما في البخاري ومسلم: (مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مُر) ظاهرها حسن باطنها سيء، ونحن لا نريد أن نكون كذلك.
الموقف الثالث: هيا إلى القرآن الكريم نصاً تستند إلى حضارتنا، الحضارة نص، الأمة التي لا تمتلك نصاً تستند إليه يؤصِّل فيها مسيرتها فليست بحضارة، يوم كانت القوانين شفوية كانت الحضارة ناقصة، ولما تحولت القوانين إلى مكتوبة اكتملت الحضارة، جاء القرآن مكتوباً ومحفوظاً في الصدور وفي السطور، هذا ليؤكد على أن الحضارة الإسلامية مستندها نص لا أروع ولا أصح ولا أصدق: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾ وصدق سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال كما في مسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) وإذا رفع الله أقواما يعني أصبحت لديهم حضارة، وإذا لم يرفع الله فلن يكون القوم حضارياً لأن الله جعلهم في مستوى منخفضٍ منحط فلن يكون حضارياً، الحضارة رفعة والحضارة نص ومن هنا عليك يا أخي عليك من أجل أن تتذكر هذا النص الذي هو مستند حضارتك إن كنت تنشد الحضارة أن تقول في كل يوم ذاك الدعاء الذي قاله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: (للهم إني عبدك ابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، و جلاء حزني، و ذهاب همي) إذا كانت الحضارة هماً وغماً فليست حضارة، وإذا لم يكن قلبك منوراً فلا يمكن أن تكون عنصراً فعالاً في حضارة ما، فالقرآن الكريم يجعل قلبك منوراً ويجعل قلبك دائماً في ربيع لأن القرآن الكريم هو الذي يرفع من شأنك وهو الذي يعلي من شأن الأمة التي تتمسك بالقرآن الكريم على أنه الرائد لها في ميدان المعرفة والسلوك في ميدان الرقي في ميدان العلم في ميدان الحياة المنشودة الآمنة المؤمَّنة، هكذا نريد ومن احتج علينا بواقع اليوم فاحتجاجه مردود عليه لأننا لا نتحدث عن أمة فلانية تدَّعي النسبة للقرآن وتدعي التمسك بالقرآن ولكننا نتحدث عن أنفسنا وعما نريده من أنفسنا وعن الوضع المنشود بالنسبة لنا، أنا لا أتحدث عن تلك الأمة اليوم في واقعها فأكثر أمم الأرض اليوم المسلمة لا تمتُّ إلى ما يجب أن تكون عليه حقيقة بصلة.
الموقف الرابع: هيا إلى القرآن الكريم محوراً من أجل أن نتمسك به، قل لي بربك حول أي شيء نريد أن نتمحور، وحول أي نقطة نريد أن نكون ملتفين ؟ حول أي شيء ؟ الله عز وجل أراحنا من أن نبحث فقال لنا بصريح القرآن: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾.
أيها الحكام: أتريدون أن تجتمعوا حول مفيد ؟
أيتها الشعوب: أتريدين أن تجتمعي حول نافع ؟ ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾، ونحن نرضى في البداية وابتداءً أن يُقال هذا الكلام قولاً حتى في مجال النظر والتنظير فقط، ثم بعد ذلك إن سمعنا هذا الكلام مرة بعد مرة فإن سماعنا وإن ترديدنا لهذا الكلام سيجعلنا ننتهي إلى أن نجعل من هذا الكلام واقعاً ومن هذا الكلام سلوكاً ومن هذا الكلام حالاً ومن هذا الكلام توصيفاً لأوضاعٍ نعيشها، نريد محوراً نلتف حوله نريد حبلاً يجمعنا نستمسك به: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾، ما الذي تعتصم به أنت أيها الذي تعيش في باكستان وفي أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين وفي سورية سواءٌ أكنت حاكماً أو محكوماً، حدثني عن مُستَمسَك تتمسك به لتكون مجتمعاً مع الذين يشاركونك بالنسبة وفي الوصف يشاركونك في العروبة أو في الإسلام ؟ حدثني عن مستمسك تتمسك به وأنتم جميعاً تؤمنون به على أن مستمسك وقوي.. ما أظن لو أننا قمنا باستفتاء اليوم للعالم الإسلامي كافة سنجد أن النتيجة في أغلبها ستصب في مصب ضرورة الاستمساك بالقرآن الكريم فتمسكوا: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾.
الموقف الخامس والأخير: هيا إلى القرآن الكريم من أجل أن نذكره شفيعاً لنا يوم القيامة، كلنا يفكر في هذه القضية، من منا لا يفكر في أن يكون يوم القيامة مشفوعاً له ؟ من منا لا يفكر في أن يكون يوم القيامة ناجياً وفالحاً ؟ هل تفكر أنت في يوم القيامة أم لا ؟ أعتقد أن جميعنا يفكر ما دمنا نؤمن أن ثمة يوم يُدعى يوم القيامة، ما دمنا جميعاً نفكر فاعلم علم اليقين أن القرآن سيشفع لك إن اتخذت الموقف المناسب حياله في الدنيا وإن قمت بواجباتك الملقاة على عاتقك نحوه لأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
هذه هي المواقف التي يجب أن نتخذها حيال القرآن الكريم، فليراجع كلٌ منا موقفه على سبيل الفردية وعلى سبيل المجموعة وعلى سبيل الأمة وعلى صيغة الدولة وعلى صيغة الحكومة، هذا ما يجب أن نتبناه من مواقف حيال القرآن الكريم وإلا فلا يكفي أن نفرح ولا يكفي أن نزعم ولا يكفي أن ندَّعي، الحياة لا تعرف المدعين ولا تأخذ بهؤلاء المدعين لتجعلهم في سدة الناجحين، المدعي غيرُ ناجح شئت أم أبيت، نحن اليوم نعيش الأمة المدعية وبالتالي لن نكون ناجحين إذا ما بقينا في هذه المساحة مساحة الادّعاء إذا ما بقينا في تلك البقعة، فهيا إلى موقف صحيح ثابت مستمد من القرآن الكريم ذاته ومستمد من حياة من نُزِّل عليه القرآن الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فاللهم إنا نسألك أن تجعل القرآن الكريم موئلاً لنا ومصدراً لمعرفتنا وموحّداً لثقافتنا ومستمسكاً نتمسك به بقوة وبفهمٍ وبعلم، واجعل القرآن الكريم يا رجانا يا إلهنا شفيعاً لنا يوم القيامة، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ 31/7/2009
التعليقات