آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
في ذكرى الهجرة: فلنهاجر على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة

في ذكرى الهجرة: فلنهاجر على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة

تاريخ الإضافة: 2009/12/18 | عدد المشاهدات: 4230

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

البارحة كانت ذكرى الهجرة، وأعتقد أن كلمة الهجرة نرددها دائماً من خلال ذكرنا التاريخ الهجري، أقول نرددها دائماً وإن كان هذا الترديد وهذا الذكر من غير انتباه، نذكر كلمة الهجرة بين الفينة والأخرى نقول: اليوم اثنان محرم لعام ألف وأربعمئة وواحد وثلاثين للهجرة، لكننا لم نعد نفكر في كلمة الهجرة التفكير الذي يجب أن نفكره، وإنما غدت مثل هذه المصطلحات عبارةً عن تراتيل في أحسن أحوالنا نذكرها بإعجاب لا يتجاوز الفم أو الرأس من غير أن ننظر جذور هذه الكلمة في دواخلنا، على كلٍ:

الهجرة مصطلحٌ جميلٌ ومحبب، ومصطلح نتطلع دائماً إلى ذكره بشوقٍ وشغف، والذي جعله محبباً وجعله مختلفاً عن كلمات متشابهة، كالانتقال والتحول، هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو أن هذا الرجل العظيم والسيد السند الكريم عبَّأه وملأه وجعله مصطلحاً يقف هو صلى الله عليه وآله وسلم وراءه وأمامه وعن جانبيه، الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والسيد الأول على مستوى الخلق، على مستوى البشر، جعل له مضموناً لا أروع ولا أجمل.

الهجرة بحسب المضمون النبوي حركة إيجابية، حركة هادفة منطلقها الإخلاص، غايتها الخير، غايتها النفع غايتها الرحمة غايتها العطاء، منطلقها: ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى﴾ منطلقها: (لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه)، منطلقها: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾.

وغايتها خيرك أنت أيها الإنسان، بالله عليك أولست ممن نال حظاً وخيراً من هذه الهجرة، من هذه الحركة التي عبَّأها وملأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

الهجرة التي عبأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم منطلقها إخلاص وغايتها خير ورحمة، وحركتها تنوعت وتعددت فكانت هجرة من السر إلى العلن، وقدَّم من أجل ذلك هذا النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم تضحية، هاجر من السر إلى العلن وهاجر من مكة إلى المدينة، وهاجر قبلها إلى الطائف، وفي كل هجرة كان يدفع ضريبةً هو أذى في جسمه، هو أذى في بدنه، لكنه كان يكافئ بالنفس الرضية المطمئنة، كان يكافئ في أن يعطى سروراً ما بعده سرور، أوليس هو من قال: (إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي) في إحدى الهجرات ؟

هاجر النبي إذن من السر إلى العلن، من مكة إلى الطائف، من مكة إلى المدينة، من المدينة إلى مكة في غزوة الفتح، هاجر من هنا إلى هناك من منطلق الإخلاص وغاية الخير. فيا أيها الإخوة هل تريدون أن تهاجروا أنتم ؟ هل قررتم أن تهاجروا حتى تُكافَأوا ؟ رسول الله هاجر فكوفئ وتحول من مُلاحَق إلى شاهد على الكون: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾ كوفئ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ملاحق إلى شهيد على الأمم كلها، كوفئ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ملاحق في غار ثور فكوفئ بالوقوف على جبل الرحمة وأمامه أكثر من مئة ألف مؤمن به، وخطب فيهم خطبة الوداع في حجة الوداع كما تعلمون، كانت المكافأة من الله عز وجل على هجرته الصادقة التي كانت حركة إيجابية مادية ومعنوية منطلقها الإخلاص وغايتها الخير، أتريدون أن تكافأوا أنتم ؟ الجواب نعم، لكن إذا أردتم أن تكافأوا عليكم أن تهاجروا، فلا مكافأة إلا بعد هجرة فيها عناءٌ فيها تضحية فيها بذل فيها عطاء فيها تحمل فيها صبر فيها ثبات، أتريدون أن تكافأوا ؟ إذن هاجروا. وتسألونني عن الهجرة، أقول لكم: هنالك هجرتان تستطيعون القيام بهما أنتم على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الفرد والجماعة.

أما على مستوى الفرد: هناك حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرويه النسائي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) بإمكانك أن تهاجر أنت على مستوى الفرد من الذنب إلى التوبة من المعصية إلى الطاعة في كل لحظة بإمكانك أن تتحقق بالهجرة الإيجابية التي ستكون على شاكلة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهيا إلى المهاجرة من الذنب إلى التوبة، من المعصية إلى الطاعة، أوليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من قال كما في صحيح مسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مئة مرة) فهل أنتم أيها الإخوة ممن يتوب إلى الله أكثر من مئة مرة ؟ وهذه التوبة هي هجرة من سوء إلى حسن، ومن حسنٍ إلى أحسن، ولقد كررت هذه العبارة على هذا المنبر أكثر من عشرين مرة على مدار السنوات التي أخطب فيها في هذا المسجد المبارك، لكن المشكلة أننا نتكلم من أفواهنا من غير أن تكون لهذه الكلمة جذورٌ في دواخلنا وتلك مشكلتنا، مشكلتنا أننا نتكلم كثيراً لكننا نتكلم بغير عقلٍ وبغير قلبٍ وبغير تفكير، وغدا كلامنا في كل المستويات السياسية والاقتصادية والدينية على هذه الشاكلة، وهذه الأمة التي تتسم بهذه السمات لن تكون أمة مهاجرة وبالتالي لن تُكافأ وبالتالي هذا ما يحدث لنا، فأين المكافأة ؟ وإذا ما سألنا عن المكافئة سيقول لنا من يكافئنا وأين المهاجرة ؟ أتريدون أن نُسوِّي بين من هاجر وبذل وقدّم وضحى وبين من تكاسل وتثاقل وقعد واستسلم وخنع وأذعن ورضي بالذل والهوان وعاش التفرقة صناعة يتقنها كل واحدٍ منا ؟ الهجرة على مستوى الفرد يمكنك أن تقوم بها فهيا إلى القيام بها.

وعلى مستوى الجماعة: بإمكاننا أن نهاجر من الفرقة إلى الوحدة، ولقد كررت كثيراً وقلت لكم أين نحن من قول الله عز وجل: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾ قفوا وقفة صادق، من منا يفكر بكلمة الاعتصام ودلالاتها الواقعية وما ينبغي أن نكون عليه في تطبيقنا لمقتضى هذه الآية ؟ أين نحن من الهجرة من الفرقة إلى الاعتصام بالله وحده ؟ تريدون أن تهاجروا على مستوى الأمة فلنهاجر من التفرقة إلى الوحدة، من التشرذم إلى التعاون، من التخاصم إلى التصالح، من التسالح إلى التصالح، ما يحدث هنا وهناك لا يدل على أننا أمة تهاجر الهجرة التي هاجرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما الواقع يدلنا على أننا أمة تنتكس وترتد، فهنا قتل وهنالك نار، وهنالك سياسة فاشلة، وهناك مقاتلة وتَقاتُلٌ بين المسلمين لسبب طائفي ولسبب مذهبي ولسبب لا أدري ما هو ولسبب يُدفعون إليه دفعاً إلى آخر ما يمكن أن نتحدث عنه والأسباب جد كثيرة في هذا الميدان.

أيها الإخوة بالله عليكم أتريدون أن تكافأوا ونحن ننتكس ونرتد ؟ نحن نرتد من التعاون إلى التشرذم ونرتد من الوحدة إلى الفرقة، وبعد ذلك تريدون أن تُعطوا المكافأة لمجرد أنكم تصلون أو لمجرد أنكم تقفون في هذا المسجد أو ذاك ؟ أو لمجرد أنكم ترفعون الأيدي إلى الله عز وجل وتقولون بصوتٍ فيه كثيرٌ من التمثيل والبكاء المزيف يا الله ويا الله ؟ هذا لا يكفي من أجل أن نكافأ كما كوفئ الرجل العظيم والسيد السند الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ فهل أنتم أشداء على الكفار رحماء بينكم ؟ انظروا إخوتكم في فلسطين هم أشداء فيما بينهم رحماء على الكفار، انظروا إخوتكم في العراق انظروا إخوتكم هنا في الأحياء هنا في حلب هنا في سورية في أي مكان من بقاع عالمنا الإسلامي هل ينطبق عليكم: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ ؟ أم إننا أشداء على بعضنا أما أمام الكفار فلا نستطيع أن نتكلم ولا نستطيع أن نتحدّث، نحن أمة يكاد الحديث الشريف ينطبق عليها واعذروني أيها الإخوة فإنها نفثة، نعيش الألم في دواخلنا في شوارعنا في أحيائنا هذه الشوارع ليست شوارع إسلامية من حيث النظافة على الأقل أنا أتكلم من حيث المظهر هذه المساجد تفتقر إلى إسلامية حقيقية من حيث الاجتماع واللقاء على الله عز وجل وعلى الخير وعلى التعاون.

القضية خطيرة ونحن الآن نمشي إلى الهاوية وما أدري إن كنا نشعر أو لا نشعر، أتريدون أن تكافؤوا بالنصر بالرفعة بالمجد ؟ أين الهجرة  على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة من الكسل إلى العمل، نحن أمة تتكلم فقط وتتكلم كلاماً لا أصل له ولا منطق له، نحن أمة تحب أن تتكلم والمفروض أن نهاجر من الكسل إلى العمل، أنت أيها الطالب عليك أن تهاجر من الكسل إلى العمل إلى الجد والدراسة وأنت أيها العامل وأنت أيها الجندي وأنت... إلى آخر كل أصناف المجتمع وأطيافه وأفراده، هاجروا من الكسل إلى العمل، كلنا يردد قول الله عز وجل: ﴿وقل اعملوا﴾ ألا تردد هذه الآية في خطبك، ألا تكثر من قراءة هذه الآية أمام أولادك وأمام الأجانب لتدَّعي أنك إنسان مسلم تنتمي إلى العمل وحب العمل لكن هذا الذي تقول والذي أقول يبقى في حيِّز الإدعاء، نردد هذه الآية باستمرار لكننا لا نعمل انظر برنامجك من الصباح إلى المساء فأين فيه العمل ؟ بالله عليك قل بينك وبين نفسك كم ساعة تعمل بشكلٍ جاد سواءٌ أكنت موظفاً أو عاملاً أو فلاحاً أو صناعياً أو اقتصادياً بالله عليك كم ساعة تعمل أنت أيها الإنسان ؟ نحن بحاجة إلى أن نهاجر من الكسل إلى العمل.

إذا هاجرنا من الذنب إلى التوبة ومن المعصية إلى الطاعة ومن الفرقة إلى الوحدة ومن الكسل إلى العمل إذا هاجرنا فعلياً وقدمنا الضريبة اللازمة وهي جهد وصبر وعناء وتعب ومشقة.

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله      لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

أتريدون مجداً بالمجان ؟ إن هاجرتم هذه الهجرات التي تحدثت عنها عندها سنكافأ من دون ريب، لأن الذي وعدنا بالمكافأة لا يخلف وعده، لأنه الله، والله لا يخلف وعده والله ينجز وعده، هكذا قال الله عن ذاته وهكذا قال رسوله عنه عمنَّ أرسله: إن الله منجزٌ ما وعد. سينجز وعده، وعدنا الله بالنصر والمجد والرفعة والعز والكرامة ولكن هذا الوعد لا يمكن أن يكون لأناس لا يستحقونه ولا يعرفون التصرف فيه إذا ما أعطوه، هل تستطيعون أن تحسنوا التصرف بالنصر إذا ما أعطيتم النصر ؟ إذا نصرتم الآن فكيف تتصرفون أيها الإخوة ؟ إذا علا نجمكم الآن في سماء الكون نتكلم هكذا افتراضاً فبالله عليكم ماذا ستفعلون ؟ إذا ما أُعطيتم سدَّة العالم اليوم وقيل لكم: تفضلوا لتستلموا العالم بالله عليكم ماذا ستفعلون ؟ ماذا سيفعل حكام العالم الإسلامي بأكملهم ؟ ماذا ستفعل شعوب العالم الإسلامي بأكملها ؟ أعتقد أنها ستكرس القتال فيما بينها أكثر، وستخدم تلك القوى التي أعطتها، ستستخدمها من أجل أن تزداد التفرقة بينها وبين أفرادها وبين سائر الأمة المسلمة الأخرى الواحدة. فيا أيها الناس يا أيها البشر يا أيها المسلمون: تذكروا الهجرة ولا أريد أن ألقي الكلام كثيراً لكن أوصي نفسي وإياكم وأنا أتحدث عن نفسي قبل أن أتحدث عنكم وأخاطب نفسي قبل أن أخاطبكم أقول هيا إلى هجرة وأنتم تتلفظون كلمة الهجرة في كل يوم تذكروا مضمون الهجرة وتذكروا أن الهجرة واجبة عليكم حتى تكافأوا ما دمتم تقولون ونقول في دعائنا اللهم انصرنا فالله عز وجل يريد منا يريد منا أن نقول اللهم انصرنا ولكن مع هذا الدعاء أن يكون هذا الدعاء متوجاً عملاً، أن يتوج الدعاء عملاً صالحاً يصدر عنا: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ أما إذا لم نعمل فماذا يرى الله ورسوله والمؤمنون ؟ هل تحسبون الدعاء عملاً ؟ الدعاء ليس بعمل وإنما الدعاء تاج العمل وقد قلت لكم حسب التفسير الذي أراه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدعاء مخ العبادة) مخ العبادة، لكن إذا لم هنالك جسمٌ ولم يكن هنالك كيان فكيف يتوضع المخ ؟ وأين يكون المخ ؟ وهل عهدتم مخاً هكذا بمفرده يعمل من غير جسمٍ من غير كيان من غير كينونة يتوضع فيها ويحركها ويسيرها ؟ الدعاء يجب أن يتوج العمل وهكذا دواليك.

في كل يوم من هذه السنة المباركة الهجرية تذكروا الهجرة ليس من أجل أن نؤرخ بها فحسب فهذه قضية شكلية لا أريد أن أهتم بها كثيراً وإن كانت قضية تصب في مصب التذكر المعنوي لكنني أتوجه إليكم في كل يوم من أيام هذه السنة الهجرية تذكروا الهجرة تذكروا هذا المصطلح العظيم الجميل الذي يجب أن يكون حركة إيجابية منطلقها الإخلاص لوجه الله وغايتها الخير غايتها النفع غايتها العطاء النافع للناس وتذكروا قدوتكم وأسوتكم في ذلك، والحركة التي صدرت عن هذه القدوة وهذه الأسوة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحركة الإيجابية الرائعة لأن الفكرة إذا ما كانت منطقية أقنعت ولكنها عندما تُرى من خلال شخصية طبقتها ونفذتها فإن هذه الفكرة تُطَمْئِن، فاطمئنُّوا من خلال مسيرة هذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

أسأل العلي القدير بسرِّ الهجرة النبوية الشريفة الطاهرة العظيمة المؤسسة، بسر هذه الهجرة، أن يوفقنا ربي من أجل أن نقوم بالهجرة، من أجل أن نهاجر من الذنب إلى التوبة، من المعصية إلى الطاعة، من الفرقة إلى الاعتصام بحبل الله جميعاً، من التشرذم إلى التعاون، من الكسل إلى العمل، فكِّروا في هذا والله ولي التوفيق، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 18/12/2009

 

التعليقات

خليل شاوي

تاريخ :2009/12/26

ماعرفناك الا مهاجرا بنا من العناوين الى المضامين ومن وديان الجمود الى ذرى الابداع والتجديد والكل يشهد لك أن مجدك الفكري والأخلاقي نتج عن صبرك وجهدك ولك جزيل الشكر

صفوت امينو

تاريخ :2009/12/27

نسأل الله العلي القدير ان يمنحكم حسن الثواب وان يجعلكم المنارة المضيئة لنا في تعاملاتنا مع اهلنا وفي المستقبل مع زوجاتنا واولادنا وادماكم الله لهذا الدين الحنيف وجزاكم عنا كل خير

شاركنا بتعليق